منذ استقلال الدّول الاسلامية عن الفضاء الامبراطوري الغربي بعد الحرب الكونية الثانية، تمرّست وتمرّنت الحكومات والأنظمة السياسية لهذه الدول على ازدواجية قاتلة: فهي تصدّر إلى عرّابيها الغربيين صورة بأنها حكومات حداثية وتقدمية وعلمانية، وتسوّق إلى شعوبها خطابا شعبويا بكونها حامية الدّين وحارسة العقيدة ضد أعداءها الغربيين، والوصية على الخلاص الروحي للمؤمنين، أكثر من ذلك فإنها تقدم نفسها للغرب بوصفها الغطاء السياسي الوحيد الذي يستطيع مسايرة النظام العالمي وأعرافه السياسية والأخلاقية، وأن أي بديل ديمقراطي سيهب الحكم لإسلاميين متطرفين يناصبون العداء الجذري للغرب وحضارته.

د. إسماعيل مهنانة

مقابل ذلك تعمل هذه الحكومات داخليا على منافسة الحركات والأحزاب الإسلامية في امتلاك الرأسمال الرمزي الديني واحتكاره لنفسها كمصدر للمشروعية السياسية. ربما تكون باكستان أفظع نموذج عن هذا التناقض الذي تدفع الآن ثمنه باهظا، التناقض خلق أيضا هوية ممزقة وانفصامية انعكست مباشرة على معظم هذه الشعوب في شكل نفاق مُعمم ومحمود يُسمّى الوسطية.
تعاني معظم هذه الدوّل من أزمة بنيوية تتعلّق بالهويّة، إنها دول قامت في معظمها على هوية دينية أو ثقافية أو لغوية، بل أن العنصر الهووي كان هو الدافع الأساسي نحو الاستقلال، الباكستان مثلا استقلّت عن العالم الهندي بحكم الانتماء الإسلامي واختارت سنة 1947 الانتماء إلى عالم الشرق الأوسط الإسلامي على الانتماء الهندي، الجزائر أيضا اختارت الانتماء العربي الإسلامي على الانتماء الأوربي، وهذا ما حدث مع معظم الشعوب والدّول المنبثقة عن الحركة التحررية في خمسينيات القرن العشرين، فبقدر ما كان عنصر الهوية دافعا إيجابيا إلى التحرر من ربقة الاستعمار، بقدر ما سيغدو مع الوقت مأزقاَ بنيويا في وجه الحداثة السياسية.
مقابل ذلك، فَهِم الميتروبول الغربي حركة التاريخ ومتطلّباته الظرفية، وانساق له فمنح الاستقلال لكل هذه الشعوب لأن اندماجها في حركة الحداثة بدا مستحيلا مثل أي انصهارِ بين هويتين، خاصة في جو الحرب الباردة، لكنه احتفظ بخيط ماكر في يده. لقد فهم الاستعمار الغربي بمكره أن الأرشيف الجغرافي هو خيط الكاراكوز الذي يحفظ له هيمنته على هذه الدول، لهذا اعتمد تقسيما جزافيا لكيانات سياسية لا تطابق أي تقسيم اثني أو ديني أو ثقافي. هكذا وُلدت دول العالم الثالث كلّها وتحت طّياتها أقليات إثنية ودينية يُمكن أن تُتخذ ذريعة للتدخل، كما أنها مناسبة لفرض نمط من الدولة العلمانية التي تجد فيها كل الأقليات والحساسيات إمكانية للحياة والبقاء. فالعقل الأمبريالي دوما نشيطُ ومفكّر.
هناك تجارب كثيرة تعلّم منها العقل الامبريالي هذه الألعاب، ففي سنة 1915، ارتكبت تركيا مجازر شنيعة في حق الإنسانية ضد الأرمن الذين كانوا أقلية مسيحية وسط عالم إسلامي مكتمل، وربّما يكون ذلك أحد أهم الأسباب التي قادت تركيا إلى التخلّي عن قيادة العالم الاسلامي والتحاقها قاطرة أخيرة بالعالم الغربي، نفس الأحداث الدّامية تكررت في فلسطين، والبلقان والهند وأدت إلى استقلال الكثير من الشعوب في شكل دوّل. لهذا فإن تقسيم هذه الدول بشكل جزافي والإبقاء على تشكيلات أقلوية سيُبقي دول العالم الثالث رهن أزمات بنيوية مزمنة، خاصة في غياب دولة وطنية حديثة وحقيقية وهو تركه المستعمِر قبل خروجه.
هكذا تحولّ الفعل السياسي في هذه الدّول إلى تسيير لأزمة مزمنة، وإدارة للتناقض بين خطاب الدّاخل وخطاب الخارج، ورهنت هذه الأنظمة وجودها بنجاحها في إدارة هذه الازدواجية الغريبة، واختزلت كل ذكاءها السياسي في ذلك.  يصعبُ على مجتمعات تتضخّم فيها سطوة الرّمزي على الواقعي أن تُحقق أية حداثة سياسية أو تتقدم في مسارِ ديمقراطي دون إكراهِ من دولة مركزية تُحتكر العنف المشروع، وتمارسهُ مؤقّتا للانتقال بالمجتمع من الدّولة إلى الأمة. هذا ما يفسّر فشل الديمقراطية في مُعظم الدوّل العربية حتى بعد الحراك الشعبي الأخير وهو ما يفسّر أن الأنظمة المَلَكية لم تتحرك كما حدث في الأنظمة الجمهورية التي استنفذت كل شرعية رمزية. إذْ لا تكفي معادلة الاقتراع والصندوق الديمقراطي لوحدها في استتباب المسار الديمقراطي ما لم يتوفر الفائز فيها على رأسمال رمزي وسلطة سحرية أخرى يستمدها من الدّين أو القومية أو الشرعية الثورية. يتذكّر العالم الكثير من تجلّيات هذا السحر، سواء حين استقال عبد الناصر من الرئاسة إثر الهزيمة الكبرى، حيث خرجت كل الجماهير العربية لثنيه على الانسحاب من القيادة، أو كيف حكم الزعيم الليبي ليبيا لأربعين سنة وهو يمارس سلطته وسحره على الجماهير، وغيرهما من الزعامات القومية والاسلاموية. فالإنسان العربي ليس مواطنا، ليس دافع ضرائب، بل كائن ينتظر الخلاص بشكل مزمن. ليس من السهل أن تجعل من كائن خلاصي مواطنا لأن المسألة ثقافية وليست سياسية وعلى العقل السياسي العربي أن يقطع شوطا طويلا في تفكيك البنى الثقافية اللاعقلانية قبل أن يعود إلى رشده.

الرجوع إلى الأعلى