لم يعد «العمل السياسي» يهم الجزائريين في هذه المرحلة من التاريخ، وكفت السياسة عن اجتذاب النخب، لذلك لم تظهر وجوه جديدة في الساحة التي تحتكرها الوجوه القديمة التي تتجلى في مواسم الانتخابات لتكرر طقوس الولاء والمعارضة قبل أن تعود إلى كراسيها في صالة الانتظار الكئيبة.
وحين تختفي المؤسسة السياسية الحاملة للأفكار والمشاريع تظهر النزعات البدائية التي تجود بها المبادرة الحرة للأفراد والجماعات وبتعبير أدق السكان الذين يطالبون “بحقوقهم” بقطع الطرقات  أو بتعطيل الخدمات العامة في سلوك بافلوفي أدامه تكرّر المنفعة بعد الاحتجاج والافتقار إلى آليات مشروعة لإشباع الحاجة.
ويضاف إلى هذا التصحر السياسي عدم قيام  مجتمع مدني حقيقي، ما يعني أن المجتمع الجزائري يفتقد إلى “مؤسسات حديثة” تنظمه وتتوقع احتياجاته و تؤطر مطالبه.
ولم تعد الأحزاب والمنظمات قادرة على الاستقطاب والإقناع بعد الموت المعلن لليسار وتراجع التيار الإسلامي، وأصبحت التشكيلات السياسية مجرد سجل يتم استخدامه في المواعيد الانتخابية من طرف “ممارسين” ظهروا أثناء وبعد الحرب الأهلية من صفاتهم أنهم يتقنون التأييد إلى درجة أنهم يؤيدون الشيء ونقيضه. هذه الفئة استباحت العمل السياسي ليس لأنها حاملة لأفكار، بل لأنها ترى في السياسة طريقا إلى منابع الريع، وهكذا تحوّل مقاولون معدّلون جينيا من تزفيت الطرقات إلى تزفيت المستقبل غير آبهين بصرخات السيدة التروتسكية الحائرة التي تحذر من تلويث السياسة بالمال وتطالب بفطم الأثرياء الجدد الزاحفين إلى مقدمة المشهد.
ولن نكون، في وضع كهذا، في حاجة إلى اجتهاد كبير لتوقع النتائج الخطيرة لغياب الأفكار السياسية  وغياب النخب وما يرافق ذلك من تيه اجتماعي وتخبط. وقد بدأت بعض الأعراض المخيفة كالنزعات الطائفية و الجهوية و الإجرام المعتد بذاته تظهر إلى العلن في تعبير بليغ عن نكوص إلى مرحلة ما قبل الدولة، وللأسف فإن تعبيرات من هذا النوع لا تُلتقط بشكل جيد من قبل أجهزة رصد المخاطر أو يتم تشخيصها وتأويلها على نحو غير صحيح، كأن يُشار إلى مؤامرة أجنبية ويتم غض الطرف عن الفشل الداخلي أو يُجاب بحل “اجتماعي” على مسألة سياسية.
ملاحظة
حين يفتقد مجتمع إلى البوصلة السياسية يتجاسر غير الفالحين في تعبيد الطرقات على بناء جسور نحو المستقبل.

سليم بوفنداسة

    • قطارُ الباطل

      سلّطت الاحتجاجاتُ الطلابيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة الضوء على هيمنة اللّوبي الصهيوني على الجامعات ومراكز البحث، سواء من حيث الاستثمارات والشراكات أو التمويل والتبرّعات التي تهدف إلى الهيمنة والسيطرة على القرار، وهو ما...

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى