عمدت جهود مصلحي جمعية العلماء المسلمين على غرار الشيخين عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، في محاربتهما للأفكار الدخيلة التي أراد الاحتلال بها تدمير البنية الفكرية للشعب الجزائري، وسحب هويته العربية الإسلامية، إلى التعليم المجتمعي من فوق منابر المساجد، فضلا عن الدخول إلى فكر ووجدان المواطنين من خلال التأثير بالنص القرآني لا قراءة تعبدية فحسب بل فهما وعملا أيضا.

إيناس كبير

وقد رأوا أن السبيل في تحقيق ذلك إعادة النظر في التفاسير السابقة بما تقتضيه الظروف الزمانية والمكانية للجزائر آنذاك، حتى يستطيع القرآن إحياء الفكر وإرجاع المعتقدات إلى جادة الصواب بعد أن حرفتها الخزعبلات التي زرعها الاحتلال، خصوصا بعد أن عمد إلى إفشاء الأمية بغلقه المدارس والمساجد ودور التعليم، فكانت مهمة تجهيل الشعب سهلة أمام هذا الواقع الصعب.
 كما كانت لجمعية العلماء المسلمين رؤية حداثية في التقرب إلى الناشئة، والتعامل مع الشباب من تلاميذ وطلبة، بهدف إعداد الرجال الذين سيخوضون تحديات صعبة للنهضة بشعب دُمر فكريا وثقافيا ودينيا.
وقد قدم أساتذة وباحثون اجتمعوا مؤخرا بقسنطينة، لمناقشة الخطاب التعليمي عند جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في ضوء اللسانيات المعاصرة، شرحا وتحليلا لجملة من النصوص التي كتبها الشيخان عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، تناولا فيها أساليب العملية التعليمية والتربوية، والاستراتيجيات المنطقية للتعامل مع الخطاب الديني من جانب أنه موجه لإعداد الفكر و تهذيب النفوس وتعديل السلوك وكذا النهوض بالهمم.
مشروع تربوي تعليمي متكامل
وركزت الأستاذة بجامعة الإخوة منتوري بقسنطينة، شهرزاد بن يوسف، على المثلث التعليمي بين الرؤية الباديسية ومدارات الدرس اللساني المعاصر، من خلال معالجة جملة من الإشكاليات أهمها صفات المتعلم الناجح عند رجل الإصلاح عبد الحميد بن باديس، كما طرحت سؤالا حول صفات المعلم الذي يستطيع "تأليف الرجال" من المتعلمين، تقول الأستاذة تبعا لمقولة الشيخ "شغلني تأليف الرجال عن تأليف الكتب"، وطبيعة العلاقة بين المعلم والمتعلم والمادة المتعلمة.
وأوضحت، بأن بن باديس ركز على فكرة أن طالب العلم ليس عليه أن يسعى إلى العلم الديني فقط، ويتفقه في القرآن ويحسن تفسيره ومعرفته بالحديث، وإنما يمكنه أيضا أن يوسع مداركه بالتعرف على العلوم الأخرى كالحساب والمنطق والرياضيات بالإضافة إلى اللغة العربية.
ولأن البيئة المريضة التي كانت تعاني منها الجزائر آنذاك تسببت في تشكيل عقول المتعلمين تشكيلا عشوائيا، فقد تبنى الفكر الباديسي قوالب تعليم جديدة لتجاوز هذه العشوائية، واهتم بالمادة المعرفية من نظرة أن إصلاح التعليم يتحقق بصلاح العلماء، وأتبعت بن يوسف، بأنها وقفت على خطابات له يؤكد فيها على أهمية مهارات التعبير والكتابة والتفكير.
وذكرت الأستاذة بجامعة الإخوة منتوري، أن المتعلم عند العلامة لا سن له فقد فتح الباب على مصراعيه لكل المتعلمين دون أن يقف عند سن محددة، وعقبت بأن طبيعة الظروف التي عايشها الشعب أسست لهذا الاختيار.
وأرفق الشيخ التعليم بالتربية وزرع القيم الأخلاقية لدى البنين والبنات بحسب بن يوسف، حتى يصبحوا قادرين على العطاء في كل مجالات المعرفة، واهتم بتربية المرأة، وقد اعتبرتها خطوة جريئة لم تكن معهودة سابقا.
صفات المعلم لدى عبد الحميد
بن باديس
كما ركز عبد الحميد بن باديس في مقالات عديدة على دور المعلم في التربية والتعليم، و أفادت الأستاذة بأن هذا القائد في منظور الشيخ يجب أن يكون ذا شخصية متميزة، لديه مجموعة من المعارف في شتى العلوم.
خصوصا ما تعلق بالمعارف الأدبية واللغوية التي تساعده على الاتكاء على لغة صحيحة حتى يستطيع أن يكون في المستوى، وقبل ذلك يجب أن تكون له أرضية صلبة تتعلق بالدين الإسلامي، فكل معلم افتقد إلى القرآن والحديث الشريف في منظوره لا يملك الكفاءة الكافية لحمل الرسالة التربوية التعليمية.
وواصلت قائلة بأن من شروط المعلم المقتدر بالنسبة إليه أن يكون متفاهما في تواصله مع تلاميذه، متسامحا متعاونا، منسجما ومتجاوبا معهم، فضلا عن أن يكون موثوقا في شخصه وعلمه.
وانتقلت الأستاذ بجامعة الإخوة منتوري، للحديث عن أساس العلاقة التي تربط المعلم والمتعلم في الفكر الباديسي، الذي يرى بأن الشغف ركن أساسي فيها، فالمتعلم يجب أن يكون شغوفا بتعلم المادة المعرفية، حتى يستطيع الاستثمار فيها، وحرص المعلم على اختيار المادة المدروسة بعناية شديدة، وانتقاء الأمثلة والشواهد شأنه أن يزيد في شغف المتعلم وقدرته على التلقي بشكل جيد.
إسهامات الإبراهيمي في إعداد الأجيال والرجال
وبدوره أسهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في بناء الأجيال، يوضح الأستاذ بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، نور الدين بوزناشة،  مبينا التجليات التعليمية في خطاب الإمام محمد البشير الإبراهيمي، ومشيرا إلى أن الرجوع إلى التراث العلمي يكشف عن اهتمام الأعلام بالتعليم من ابن خلدون وصولا إلى الابراهيمي، الذي لم يكن مصلحا فحسب، بل اشتغل أيضا في نشر العلم وتربية النشء.
وأفاد بوزناشة، بأن الخطاب الإبراهيمي كان لبنة أساسية في إنجاح الخطاب التعليمي في مدارس جمعية العلماء، حيث اعتمد على أسس مهمة في هذه العملية من بينها التدرج التعليمي، ويقصد به تكييف المادة التعليمية بحسب الفئة المستهدفة، يقول الأستاذ، لهذا كان ينصح بالكتب الميسرة التي تساعد التلاميذ المبتدئين على الفهم، والدعوة إلى التعليم الحر وإنشاء المدارس التي كان يرى بأنها أساس بناء المجتمعات، كما دعا أيضا إلى توحيد المنهاج.
مضيفا، بأن الإمام حرص أيضا على أن يكون المعلم متخصصا، ومطلعا، وعارفا بحقوق وواجبات المتعلم ليغرس فيه حب اللغة، وتشكيل أصول الهوية العربية الجزائرية، فضلا عن دراسته لميول الأطفال واستعداداتهم، ويتحقق هذا في نظر الإبراهيمي من خلال الاختلاط بهم والتقرب منهم.
وكان الإبراهيمي وفقا للأستاذ، ينصح بأخذ العلم من أفواه الرجال وتدوينه، والسعي للتعرف على كل جديد في المجال العلمي، وعدم الاكتفاء بما يتلقاه الطلبة في قاعات الدرس، واستغلال أوقات الفراغ في حفظ كل ما ينمي الملكة اللغوية، بالاعتماد على المادة العلمية الأصيلة.
أما في الجانب التربوي والإصلاحي، أورد بوزناشة، أنه كان يركز على جملة من الأمور، من بينها أن التربية تكون في البيت قبل المدرسة، والتربية قبل التعليم وقد نصح بذلك قائلا " واحرصوا كل الحرص على أن تكون التربية قبل التعليم"، كما كان يدعو إلى الرفق بالمتعلمين الصغار، فمتى ما أحب التلميذ معلمه أقبل عليه، مضيفا بأن الإبراهيمي حذر من الطريقة الشائعة التي كانت منتشرة بين معلمي القرآن والتي تميزت بالقسوة والترهيب لحفظ القرآن، واعتبر بأنها التي أفسدت الجيل.
ويقول الأستاذ بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، بأن هذه الأساليب المعتمدة من مصلحي جمعية العلماء المسلمين واجهت شتى أشكال التضييق والمنع، فقد كانت الإدارة الاستعمارية وفقا له، تعتبر إنشاء المدارس والمساجد أكبر جريمة.
وحسب الأستاذة بجامعة مولود معمري بتيزي وزو، آمنة بلعلى، فإن المسار التداولي لتفسير القرآن عند ابن باديس بين النزول والتنزيل كان حداثيا، لأن بن باديس كان يرى أن أكثر الخطباء في الجمعة يخطبون في الناس بطريقة معقدة من مخلفات الماضي، ومن هذا المنطلق كان يطرح تساؤلات لطالما أرقت رواد النهضة الإصلاحية قبله "لماذا تخلفنا وكيف نخرج من هذا التخلف المركب؟"، وتضيف بلعلى، بأنه وجد الحل في تجديد قراءة وفهم الخطاب الديني ثم تنزيله إلى الواقع حتى يؤدي مهمته في إصلاح الفرد والمجتمع.
واعتبرت الأستاذة بأن تسمية "مجالس التذكير" تحمل دلالات تؤكد على أن الإمام بن باديس لم يسلك في التفسير مسلك السابقين والشروط التي وضعوها في الاجتهاد لتفسير القرآن الكريم، لأنه رأى أن كثيرا منها لم ترتبط بالحاجيات السوسيوثقافية للمجتمع الإسلامي، وذلك بناء على الظروف التي عاشها المجتمع الجزائري والإسلامي في بداية القرن العشرين، حيث فسدت العقول والنفوس.
بل إنه كان يراها تنظر إلى جانب واحد قد يكون نحويا أو بلاغيا، علما أن المقصد القرآني ليس تعليم الناس البلاغة والنحو فقط، تعقب الأستاذة وإنما إقناعهم وتعديل سلوكهم، وهي عنده متعلقة بالتفسير القرآني لفهمه والعمل به في الواقع حتى يظهر في السلوك، ولذلك يرى بأن تجديد مناهج التفسير تبدأ من إعادة النظر في طريقة التبليغ والتعامل.
وبحسبها، فإن الشيخ بن باديس رأى في عملية الإصلاح ضرورة لإرجاع الشيء إلى حالة اعتداله بإزالة ما طرأ عليه من فساد، ولا يتم ذلك إلا بوقوف أهل العلم على رأس عملية تعليم المجتمع للعقيدة الدينية، وأتبعت بأن بن باديس جعل من كلمة "التفكير" مفهوما جوهريا لتجديد فهم الخطاب الديني الذي سماه ذكرا وبذلك تكون الدعوة إلى الله أساسا هي دعوة تذكير.
ولفتت إلى أن هذا التذكير في منظور الشيخ يذهب إلى "لماذا قال النص؟ وما أثره في حياة الإنسان وواقعه؟"، لذلك فقد تبع في تفسيره للقرآن استراتيجية تبدأ بذكر سياق النزول، بعد ذلك المناسبة، وبعد شروعه في إعطاء مفهومه للمقام الذي تقوم عليه الآيات أو يستنبط من الآيات، يبدأ بالشرح اللغوي والشرح التركيبي، لرفع اللبس عن البنية اللغوية للآية القرآنية التي يشرحها ويجعلها في خدمة المقام.

الرجوع إلى الأعلى