الملائكة تغيب وترحل باكرا، تُحلِقُ قليلا في الحياة ثم تغادر، عمرها قصير كما شمعة خفيفة، تضيء لبرهة وتنطفئ، تتسبب زخات قليلة وكدمات في إخمادها. العمر أرجوحة صغيرة لا تسع أحلام الملائكة. مرت «ديهية لويز» بجوار الحياة، بصمت وبخطوات خافتة لا يكاد وقعها يُسمع، وبحضور يشبه الظل الجميل. حتى حضورها على موقع التواصل الاجتماعي كان خفيفا، هادئا، بلا ضجيج وبلا استعراض، تترك «لايكات» قليلات في صفحات الأصدقاء، وتنشر أحيانا في جدارها بعض الصوّر، والمقالات التي كُتبت عن روايتها الأخيرة «سأقذف نفسي أمامك»، وبعض الحوارات التي أُجريت معها. حتى أنّها لم تكتب يوما على جدارها أنّها مريضة وتعاني. اجتهدت واحتفظت بألمها ومرضها، كقضية شخصية غير قابلة للنشر أو التدوين الاستعراضي على الفيسبوك. بشجاعة ونبل كبيرين قاومت المرض حتى آخر لحظة من الرمق الشاحب، قاومته، لكنّه تحايل على رغبتها في الحياة، وقطفها صبيّة بهيّة بعمر الفراشات والملائكة.  ديهية في الأشهر الأخيرة، كانت تلوِّحُ للحياة بالوداع، لكن لا أحد أنتبه إلاّ أنّها تلويحات وادع، كانت تكتب على جدارها بلغة/بنبرة يائسة ومنقوصة من شحنة الأمل في حياة أطول وأكثر وأكبر. كأنّها كانت على يقين باقتراب الرحيل، وكتب على صفحتها ما يشبه النبوءة بدنو الأجل. تجلّى هذا وقالته بكثافة اللغة والشِّعر والكتابة، وبمختارات شعريّة انتقتها لشعراء، شعرت للحظة ما، عاصفة بآلام المرض، أنّها تنوب عنها وتقول إحساسها/ يقينها، وحالتها/حياتها التي على حافة الغياب. فمثلا في 24 جوان، نشرت على جدارها بعض أشعار عمر الخيام: «أحسُّ في نفسي دبيب الفناء/ولم أصَب في العيشِ إلاّ الشقاء/يا حسرتا إن حانَ حيني/ ولم يُتحْ لفكري حلّ لُغز القضاء».  أبيات قالت حالتها حقا، فقد حان حينها، وغادرت بعد هذا المنشور بأيّام. قبلها كتبت على جدارها في 12 ماي، بنبرة مزدحمة بالأسئلة، وبحالة مسلوبة الأمل، وبمنسوب مرتفع من أحاسيس العدم: «حين ينتهي كلّ هذا الشغف، ويختفي وجه هذه الأحلام التي تؤرقني.. لن يبقى سوى العدم بعدك.. لكن ما وجه العدم؟ هل يشبهك؟ ترى كيف يبدو مكاني هناك؟ أيّ لون يلبسه؟ أيّ ورد يعطره؟ ترى بإمكاني الاختيار، العطر واللون وحتى الزاوية التي ستحويني؟ أم لا وجود لكلّ هذا، وليس للعدم وجه أو شكل أو وجود؟!!».  كانت ديهية تقول أنّها تكتب لأنّها تريد اكتشاف العالم من حولها لتتصالح معه. لكنّها في الأخير تصالحت مع العالم بالموت والغياب، أو ربّما الموت هو الذي صالحها مع العالم، فقطفها من شجر الحياة باكرا.

كانت ملمة بالمشهد الأدبي في الجزائر
يقول الكاتب والناقد الأدبيّ لونيس بن علي: «قبل أن ألتقيها، هناك من أخبرني أنّ في مدينتي بجاية كاتبة شابة، وهي روائية قد أصدرت رواية بعنوان (سأقذفُ نفسي أمامك)، وقبلها رواية أولى (جسد يسكنني). وما أثار دهشتي، كيف فات عليّ هذا الاسم (ديهية لويز)، ونحن ندرّس بالجامعة نفسها أيضا؟؟ المدن الصغيرة هي أكبر مما نتصوّر، وربّما السبب أنّ غياب حراك ثقافي في المدينة صعّب من عملية الاكتشاف، أو أجّل اكتشاف ما تزخر به بجاية من أقلام إبداعية جميلة. من هذا الاستفهام، بحثتُ عن ديهية، وكانت الصُدف أن التقيتُ بها بجامعة بجاية».
ويضيف صاحب «تفاحة البربري»: «لا أتذكر تماما ملابسات اللقاء، هل كان بتحضير مسبّق، أم كان للصدفة يد فيه، لكن الأهم في كلّ هذا، أنّي التقيتُ بها. حينها لم أكن أعرف ملامح وجهها، ربّما اضطررتُ إلى تخيلها، وكم كانت صورتي المتخيلة عنها مختلفة عن ديهية الحقيقية. رأيتُ شابة خجولة، بوجه منحوت بدقة، ينهبه صمت عجيب، وعيون تتكلم ببذخ واضح. اكتشفتُ شابة لا تكثر الكلام، إذا تكلمت اختصرت، وإذا صمتت قالت كلّ شيء».
ويواصل بن علي حديثه مستحضرا تفاصيل أوّل لقاء: «إكتشفتُ أنّها كانت قد سمعت بي أنا أيضا، وكانت سعيدة حين مدت يدها إلى محفظتها لتخرج عمليها الروائيين، وقد خصتني بإهداء لطيف منها. تبادلنا بعض الشجن الثقافي، كان ذلك كافيا لأشكل صورة عن رؤيتها الثقافية، قد وجدتُ أنّها كانت مُلمة بالمشهد الأدبي في الجزائر. حينها، اقترحتُ عليها أن أستضيفها في القسم، وننشط لقاء أدبيا معها، للتعريف بعمليها الروائيين، ولنكتشف عوالمها الأدبية والتخييلية، اتفقنا على التاريخ، وتحقق اللقاء، وأقمنا ندوة جميلة وناجحة، غصت بها القاعة بالطلبة الفضوليين والأساتذة ممن سمعوا بالندوة فالتحقوا بنا».
في تلك الندوة، يواصل بن علي: «قدمت روايتها (سأقذفُ نفسي أمامك) وقدم أستاذي وزميلي الهادي بوذيب روايتها (جسدٌ يسكنني) وكان التقديمان مثيران للأسئلة وللنقاش. وبعدها وجهت لديهية جملة من الأسئلة على شكل حوار، كانت فرصة لتكشف عن أفكارها، وطريقتها في الكتابة، وموقفها من قضايا عديدة على رأسها القضية الأمازيغية، الكتابة باللغتين العربية والأمازيغية...إلخ».
وخلص بن علي إلى القول: «كان آخر لقاء بيننا منذ عامين، كان لقاءً سريعا ووجيزا، ربّما لم يدم الدقيقتين، سألتني عن جديدي وسألتها عن جديدها، وكان في الأفق مشروع ندوة أخرى، لكن القدر كان سباقا إلى شيء آخر. دائما أقول، أنّ أكبر تكريم لكاتب راحل هو قراءة أعماله، وبثها بين الناس، أمّا التأبين فهو خطاب استعراضي نبت من وحل اللحظة».

كانت الكتابة هي مقاومتها الأخيرة
أمّا الروائي بشير مفتي، فيقول: «كانت تحلم بتحقيق أشياء كثيرة وتدرك في نفس الوقت أنّ الحياة في كلّ مرّة تقسو عليها وتعيدها إلى الوراء ككلّ فتاة في مجتمع جزائري لا تستطيع حتى لو تحررت فكريا وثقافيا، ووصلت إلى أعلى الشهادات وأن تكون كاتبة أن يقبل بها المجتمع كشخصية مستقلة.. كانت حرّة في داخلها ومقيدة في المجتمع.. ولهذا آمنت بكلّ القضايا الثقافية والسياسية الخاسرة منها والرابحة.. أو الخاسرة في مجتمع لم يتطوّر وعيّه ولا مستواه لكي يدرك حاجته أن يتحرر..».
يواصل مفتي: «كانت مثلي في أمور كثيرة، حادة وعنيدة ومؤمنة بما تفعل وتنتابها حالات يأس وقنوط وعدة مرات شك كبير في كلّ شيء.. شك الكاتب الذي ينقذه على عكس الآخرين من السقوط في أوهام ما يدافع عنه ويكتب حوله».
مفتي استحضر آخر لقاء جمعه مع الراحلة ديهية، وكان هذا في ربيع 2017، وقال وهو يسرد تفاصيل اللقاء: «زارت العاصمة في نهاية أفريل وبداية مارس لإجراء فحوص طبية، ثم مرت على مكتبة الثقافة العربية لمنشورات الاختلاف بشارع رضا حوحو، قضيتُ أمسية جميلة معها بالمكتبة، ويومها أهديتها كتبا لفرنادو بيسوا الذي تحب شعره، ثم رافقتها إلى غاية البريد المركزي، طلبت مني أن نتجوّل معا ونشاهد طاولات كتب الشارع بحديقة خميستي، ثم جلسنا بمقهى في ساحة البريد، تحدثنا عن أمور كثيرة.. كانت لها رغبة واحدة، هي كتابة رواية أخيرة، بدأتها وبعثت لي ببعض الفصول، شعرت بأنّ الكتابة هي مقاومتها الأخيرة، لكن بقيت متشائمة ومتفائلة في ذات الوقت، لم يعد الموت يخيفها ولا انتظار شيء من هذه الحياة.. بعد هذه النزهة في أمكان من العاصمة، طلبتُ منها أن نتناول العشاء معا، لكنّها قالت لي: (متعبة، والأدوية تصرعني، أحتاج إلى النوم..)، طلبت منها أن نلتقي مجددا في الغد قبل عودتها إلى بجاية، تركتها أمام الفندق الصغير وغادرت، ولم أتصوّر أنّها ستكون آخر مرّة. وأنّه كان الوداع الأخير».
مفتي، خلص إلى الإشادة بشجاعتها في مقاومة المرض بصبر وكبرياء: «كم كانت رائعة وهي تقاوم المرض بالكتابة، بالمحبة، بالصدق، والشجاعة. لقد أصبحت الآن في ذلك المكان اللغز الذي كثيرا ما تحدثنا عنه بفلسفة وشِعر وأدب، وصار الآن حقيقة».

لديها بهاء نادر في احترام الآخرين والإنصات إلى الجميع
أمّا الكاتبة والقاصة، حكيمة صبايحي، فاعتبرتها أميرة البهاء في الكتابة الجزائرية المعاصرة، وأنّها رحلت بكبرياء الأميرات الأحرارHaut du formulaire. وأضافت بحزن: «كأنّه أمس فقط، عام 2012 تأتي طالبة علوم اقتصادية ترافق طالبتي في الأدب العربي وأنا متجهة إلى المدرج لأحاضر في مقياس تحليل الخطاب الشعريّ لطلبة الماستر، تعرض عليّ بحياء روايتها الأولى (جسد يسكنني)، وعدتها أن أقرأها وأتصل بها في أقرب وقت، لم يمض وقت طويل أرسلت لها طالبتي: الرواية الأولى كبداية رائعة وتَعِد بروائية كبيرة. قدمتها للأصدقاء والطلبة، وبعد عام التقينا في أمسية من تنظيم المقهى الأدبي لمدينة بجاية للحديث عن الكتابة، هي من خلال روايتيها: (جسد يسكنني) و(سأقذفُ نفسي أمامك) وأنا من خلال مجموعتي القصصية (رسائل)، اكتشفتُ وجها آخر للروائية الموهوبة، وجه المحاورة العميقة بثلاث لغات حسب لغة السؤال: العربية الأمازيغية الفرنسية، اكتشفتُ بهاء نادرا في احترام الآخرين والإنصات إلى الجميع، كانت أمسية رائعة أرسلت لي لاحقا تسجيلات لبعض المقاطع منها، وبمجرّد وصول روايتها الثانية من بيروت (سأقذفُ نفسي أمامك)، أرسلتها لي، وكنتُ أوّل من كتب عنها في جداري الافتراضي». قبل شهور -تضيف ذات المتحدثة-: «نالت جائزة محمد ديب للرواية الجزائرية بالأمازيغية، لكن منعها المرض من استلامها، دون أن يعلم أحد أنّ المانع كان السرطان، فقد تكتمت على المرض تجنبا للشفقة، ومضت ترفل في كبرياء الأميرات الحرائر. رحلتْ بجسدها وتوارت عن الأنظار، لكن روحها تنام بسلام في أشعارها بثلاث لغات، ورواياتها ونصوصها التي ستنشر قريبا. لا يبقى من العمر إلاّ ما نهربه من الحياة في الكتابة».

استطاعت أن تتصالح مع إشكالية اللغة عندنا
من جانبه الكاتب والمترجم بوداود عميّر، قال أنّ ما يثير الإعجاب حقا في كتابات ومواقف الكاتبة الشابة الراحلة ديهية لويز، أنّها على نقيض الكثير من الكتّاب -بما في ذلك الكتّاب المكرّسين- استطاعت أن تتصالح مع إشكالية اللغة عندنا، وتتجاوز عُقد الكتابة بهذه اللغة أو تلك.
مواصلا في ذات المعطى: «ليس هذا فحسب، بل وتتفوّق في تجربتها المتفردة تلك. هكذا كتبت باللغة العربية روايتين مهمتين لغة وثيمة، أثنى عليهما النقاد، ثم تكتب رواية باللغة الأمازيغية، ثم تنجح في افتكاك جائزة محمد ديب للرواية الأمازيغية لعام 2016».
بوداود، عرج في حديثه أيضا للإشادة بالتنوّع اللغوي الذي في صفحتها على الفايسبوك: «كتبت ديهية لويز باللغة العربية وبالأمازيغية وبالدارجة الجزائرية وبالانجليزية والفرنسية. حسب الاستعداد والمزاج والظروف، دون عقدة أو مركب نقص. ستجد في أبيات محمود درويش السلوى، وهي تصارع قلق الأسئلة الوجودية، وستنهي شغفها بشعر عميق من أبيات مختارة بعناية من رباعيات الخيام، ستنتصر لقضايا الإنسان، وتدافع عن الحرية، مواقفا وكتابات».
فلسفتها في الحياة –يضيف بوداود- تلخصها في إجابتها عن سؤال الحلم والواقع ذات حوار: «أعتقد أنّي واقعية، لست حالمة متوهمة، ولست سوداوية متشائمة. يكفي أن نتمكن من فهم الحياة، وإدراك ما يحيط بنا من تناقضات وتحديات، لنعرف أنّ الأمل وحده لن يغيّر الكثير، إن لم نتمكن من تشريح عُقدنا ومشاكلنا العميقة».
نــوّارة لــحـــرش

 

الرجوع إلى الأعلى