مدينة تاقصبت .. معلم أثري و تاريخي ينتظر إعادة الترميم و التأهيل
تطل مدينة تاقصبت الأثرية على شواطئ تيقزيرت، الواقعة على بعد 39 كلم شمال تيزي وزو، و تعد قبلة للباحثين في مجال التاريخ القديم واكتشاف الآثار التي خلفتها مختلف الحضارات، والتي أصبحت اليوم تعاني الإهمال و مهددة بالاندثار والزوال، فهي ليست موقعا سياحيا أو أثريا فحسب، بل جنة فيحاء أبدع الخالق في صنعها لتروي على مر السنين، قصصا تحكي عن أصالة الماضي وعراقة الحاضر.
تعد تاقصبت من أعرق و أهم المدن الأثرية والتاريخية في المنطقة، تقع على بعد حوالي 5 كلم، شمال مدينة تيقزيرت، وتمثل إحدى الوجهات السياحية الأكثر استقطابا للسياح في عاصمة جرجرة ، يأتون إليها من كل حدب وصوب للاستمتاع بجمال المناظر الخلابة المحيطة بها.
بنيت هذه المدينة القديمة، خلال القرن الثاني قبل الميلاد، فوق ربوة وسط سلسلة من التلال الخضراء بأعالي بلدية إفليسن، قبل مدينة «إيومنيوم» المعروفة حاليا ب «تيقزيرت»، كما قال للنصر قاسي حمداد رئيس فرع الديوان الوطني لتسيير استغلال الأملاك الثقافية المحمية على مستوى متحف الآثار لدائرة تيقزيرت، و تتميز بموقعها الاستراتيجي الشامخ و إطلالتها على مدينة تيقزيرت من كل الجهات.
يستمتع الزائر من فوق المرتفع الجبلي الذي شيدت به بمناظر طبيعية ساحرة وإطلالة جميلة على مدينة تيقزيرت و شواطئها الثلاثة التي توفر لمصطافيها الراحة والاسترخاء والانتعاش خلال موسم الاصطياف، كما يمتد البصر بعيدا إلى غاية بحر دلس في ولاية بومرداس و قرية آث أرهونة في دائرة أزفون،و تميزها مساحات شاسعة من الجبال والغابات تكتسي حلة خضراء. تعرضت هذه المدينة الأثرية التي بناها الفينيقيون ، إلى أضرار كبيرة مست ما تبقى من المقبرة البربرية القديمة والصومعة والضريح الملكي الأمازيغي، وذلك خلال زلزال 2003 المدمر الذي ضرب ولاية بومرداس المجاورة، ومسّ عددا كبيرا من بلديات تيزي وزو ، خاصة الواقعة على الشريط الحدودي مع دلس، ولا تزال هذه الآثار تعاني إلى غاية اليوم من التدهور، خاصة في غياب أشغال الترميم والصيانة، رغم قيمتها التاريخية.
و ما زاد الطين بلّة، حسب السيد حمداد، أنّ العديد من السكان يقومون بنهب وسرقة الأحجار القديمة التي بنيت بها المدينة الأثرية، للمتاجرة بها، كما يستغلونها في بناء بيوتهم، وهو ما ينذر بزوال كلي لكل ما تبقى من آثار في هذه المنطقة التي لم تحظ بنصيبها من الاهتمام، رغم أنها لا تزال قبلة للباحثين عن التاريخ واكتشاف الآثار التي لم يتبق منها سوى أسوار المدينة وخزانات المياه والباب الجنوبي وبقايا الكنيسة البيزنطية و النصب الرومانية.
كما يواجه أيضا ضريح الملك الأمازيغي الذي يطلق عليه محليا اسم «الصومعة» والذي يشاهده الزائر من بعيد ، عند صعوده إلى مرتفع المدينة، خطر الاندثار رغم أنه أحيط بسياج كبير لحمايته من النهب و السرقة وهو نفس المصير الذي يواجه المعلم الأثري»أمقياس».
إلى جانب المدينة الأثرية، بنيت قرية تقليدية تضم عددا من البيوت القبائلية المعروفة بطابعها الهندسي الخاص لكي تحافظ على الخصوصية الاجتماعية للعائلات، وتتميز بالتقارب الشديد بين بعضها البعض، إلا أن الغالبية منها تحولت مع مرور الوقت، إلى أنقاض ولم يتبق منها سوى الحجارة و بعض الأعمدة الخشبية ، بعد نزوح سكانها إلى قرية أخرى تحمل نفس التسمية «قرية تاقصبت» تقع تحت سفح التل الذي شيدت فيه المدينة الأثرية. السيد حمداد قال بأن العديد من العراقيل والمشاكل تواجه في مسعى الحفاظ على القيمة التراثية والتاريخية لمدينة تاقصبت وترميم النصب التذكارية والمواقع الأثرية الموجودة بها وما حولها وحمايتها وصيانتها ، و من بين هذه المشاكل كون الأراضي المحيطة بالمنطقة تابعة للخواص وملكا للعائلات ، كما أن بعض المساكن لا تزال آهلة بالسكان، رغم صعوبة العيش في المنطقة بسبب تضاريسها الوعرة خاصة في فصل الشتاء، حيث تتساقط عليها الثلوج وتنخفض درجات الحرارة.ويأمل محدثنا أن تهتم السلطات أكثر بالمعالم والمدن التاريخية والأثرية التي تواجه خطر الزوال، بسبب التخريب الذي تتعرض له يوميا، داعيا إلى ضرورة إنجاز متحف أثري بتاقصبت ، يعرض فيه ما تبقى من المدينة الأثرية والأغراض المبعثرة في كل مكان وبالتالي حماية أحجارها من النهب والسرقة والحفاظ على هذا الموروث الحضاري من الاندثار، مؤكدا أنّ كل ما يضيع من الآثار في هذه المدينة القديمة هو من تراثنا وهو ضياع لهويتنا ولمراحل تاريخية هامة، وقال أن تلك الأحجار إذا قاموا بعرضها في المتحف لن يتم سرقتها و لن يستغلها السكان لأغراضهم الشخصية.
واقترح تحويل المنطقة إلى قرية سياحية بإنشاء ممرات للزوار والسياح وإعادة ترميم القرية القبائلية التقليدية وتأهيلها، مع ضرورة الحفاظ على الطابع الأثري للمنازل وإرجاع مهمة الترميم إلى المختصين في التراث وليس في أشغال البناء، مع إنشاء بعض الخدمات الأخرى من مطاعم في تلك البيوت ومحلات ومرافق للراحة والترفيه والتسلية، لجعلها منطقة جذب سياحي ووجهة لكل زائر تستضيفه بمناظر فاتنة وساحرة، مع استغلال هذا الموقع ليكون مرجعا تاريخيا للسياحة وعشاق التراث، ويتعرف الزوار والسياح على مختلف الحضارات التي مرت من المنطقة وتركت بصماتها من خلال الآثار التي تبقى شاهدة عليها. إن مدينة «تاقصبت» رغم ما تواجهه من إهمال ، إلاّ أنها لا تزال قبلة المهتمين بالآثار ، خاصة الطلبة الجامعيين والباحثين في علم الآثار إلى جانب تلاميذ المؤسسات التربوية من خلال الزيارات المبرمجة التي تنظمها جمعيات محلية أو مدارس تعليمية أو بيوت الشباب وغيرها، لقضاء وقت جميل واكتشاف الأماكن الأثرية والتاريخية وسحر هذا الموقع الخلاب بامتياز،
فـ «تاقصبت» تجمع عناصر المكان السياحي، ففيها جمال الطبيعة و جمال التاريخ .
سامية إخليف