رؤساء أحزاب أصبحوا من توابث الأمة
ما الذي يحدث داخل أحزاب الموالاة ؟ . إنقسامات وإتهامات متبادلة ، وتشنجات وتجاذبات ومعارك خرجت عن أطرها الحزبية والسياسية إلى الشارع ، وجنحت إلى التجريح ونشر الغسيل على مرأى الجميع . في العادة تحدث مثل هذه الأزمات ، ومثل هذا التململ وأسلوب العرائض لسحب الثقة من هذا أو ذاك الأمين العام أو رئيس الحزب عشية إستحقاقات إنتخابية أو رهانات وطنية . أي جماعة تبحث عن تموقع جديد ، أوعن تحالف جديد من خلال تبني موقف دعم لصالح طرف معين ، غالبا ما يكون من خارج الحزب المعني . أمر يحدث على العموم في الرئاسيات والتشريعيات أو عند تمرير مشاريع قوانين لا تحظى بإجماع الطبقة السياسية . فما الذي دفع أحزاب الحكم إلى التململ المتزامن ؟ . هل يتم التحضير لأمر ما ؟ . كلها تريد تغيير الرأس أو قياداتها سواء بدعوى الخروج من الجمود والخمول ( كما هو الحال في الأرندي ) أو بمبرر تصحيح إنحراف الخط السياسي والمواقف ( كما هو الحال في حمس ) أو حتى برفع مطلب إعادة الشرعية ( كما هو شأن الآفالان ) .
أزمة الأفالان تكورت وتعقدت بشكل لم يعد حلها سهل التحقيق . قيادات ضد قيادات . وجماعات ضد جماعات . وزمر ضد زمر. ومناضلون ضد مناضلين . كل طرف يعتقد أنه الأجدر من غيره في قيادة الجبهة . وأن خلاص الحزب على يديه . وأنه جاء لتصحيح إنحراف ، في كثير من الأحيان لا أحد يفهم معناه ومراميه أو مفهومه والمقصود منه . وتصحيح الإنحراف يتبعه إنقلاب آخر لتصحيح التصحيح . وليس مهما بعد ذلك كيف يتم التغيير بالهراوات والكلاب أم بمعارك عنيفة تمتد طولا وعرضا من الخلية والقسمة إلى المحافظة ومقر القيادة نفسها ؟ . وقد يحدث التغيير بالإنقلاب على الشرعية وذلك بسحب الثقة حتى وإن أطلق عليه تبريرا وتلطيفا " انقلاب أبيض " كما حدث مع الأمين العام الأسبق الراحل عبد الحميد مهري . وهكذا يتآكل الحزب من داخله وتنتابه الهشاشة والوهن والضعف . فيفقد تناسقه وقوته وترابطه كقوة إقتراح وكمحرك للرأي العام ومجند للجماهير في الظروف والإستحقاقات المطلوبة . صحيح أن جبهة التحرير هي أكثر حزب إستهلاكا للأمناء العامين ولا أقول تجديدا للقيادات . لأن التجديد والتغيير الفعلي هو الذي يفضي إلى الإستقرار ، وكذا الذي يتم في الأطر النظامية وبالقوانين المشروعة وعبر الصناديق الإنتخابية الشفافة القائمة على مصداقية شاملة وحقيقية . ماعدا ذلك فالأمر ليس أكثر من تدوار غير مشروع للقيادات ، وتحجيم لدور المناضلين في الطموح والتغيير والإلتفاف حول حزبهم .
والتغيير السلمي هو دعامة أساسية وركيزة ضرورية لإستمرار الحزب وقوته وإنتشاره ، ومن ثمة تحقيق إنتصاراته وريادته . والفرق واضح بين تدوار القيادة والتداول على القيادة . لأن ما يحدث منذ سنوات على رأس الأفالان هو تدوار للقيادات تحوم حوله شبهات عديدة ، ويتم في ظروف غير عادية حتى لا أقول غير طبيعية ،رغم أن الأمناء العامين المتعاقبين حين يصلون إلى رأس الجبهة يعتبرون أنهم أنتخبوا بطريقة ديموقراطية وأنهم يحظون بتزكية المناضلين في القواعد . ما يعيشه حزب جبهة التحرير من صراعات وتشرذم وإنقسامات وإتهامات فقدت أحيانا كثيرة حتى مستوى ألفاظها وخطاباتها ، يعيد مجددا طرح السؤال المتكرر: ماذا بقي من جبهة التحرير التي أعطاها المجاهدون والشهداء من أجدادنا وآبائنا عهدا ؟ . وأليس وضعها الحالي مثير للحزن والشفقة ومثير كذلك للبكاء عما فعله اللاحقون من أبنائها الذين لا ينظرون إليها إلا من باب الإمتطاء والركوب لإنتزاع منصب سياسي أو تموقع جالب للضغط والإبتزاز والمساومة ، أو من باب الرضاعة وتحقيق المناصب والمكاسب ، بمفهوم البقرة الحلوب ؟ . ثمة سؤال لا يتقبله أتباع جبهة التحرير ، ويثورون ويغضبون كلما طرح : إن جبهة التحرير إرث مشترك لكل الجزائريين ، فلماذا يحاول البعض الإستيلاء والإستحواذ عليها كملكية خاصة ؟ .
مثل هذا القول قد يفهم منه على أنه دعوة لجعل الأفالان خارج المفهوم الحزبي ، أي صونها كملكية عمومية وكإرث مشترك لكل الجزائريين ( ولا أقول وضعها في المتحف كما يردد البعض الذين لم يضبطوا مصطلحاتهم ) . هذا سؤال يشبه المطلب طرحته إطارات وكفاءات عديدة إنفصلت عن الجبهة تلقائيا بدعوى إنحراف قياداتها ( ممارسة وسلوكا ) لتلتحق بأحزاب أخرى أو تؤسس أحزابا لنفسها ، أو حتى لتقاطع العمل السياسي نهائيا ، يتهمون جبهتهم العتيدة بالخروج عن خطها المحدد والموثق في بيان أول نوفمبر ، والمروق عن أبجدياتها الموروثة . قياديون ومناضلون سابقون أيضا إختلفوا مع قياداتهم ، أو طردتهم الأفالان من صفوفها يرفعون أيضا نفس المطلب ويبررون شرعية رغباتهم بأنها من أجل الحفاظ على سمعة وتاريخ الجبهة لا أكثر ولا أقل . فهل دخلت جبهة التحريرمرحلة التبدد ، بعد أن عجزت عن التشبيب والتجدد ؟ . يقولون أن الآفالان أفرغت من مفهوم الحزبية لتصبح جهازا إداريا ، وأداة إنتخابية لتمرير القرارات ومشاريع القوانين ومختلف الإستحقاقات . وهو ما يتجلى في أن أمناءها العامين على الخصوص أصبحوا ( ينتخبون بالتعيين ) على رأس أمانتها العامة. والإنتخاب بالتعيين هي بدعة جزائرية على المقاس .
الأرندي ، الحزب الرديف لجبهة التحرير ، والذي ولد من صلبها في ظروف إستثنائية لمهمة إستثنائية أيضا ، ثم كبر بسرعة قصوى ، وإستطاع في مدة وجيزة أن يفرض نفسه كقوة سياسية يعتمد عليها . لم يشأ أن يكون بديلا للآفالان ، ولكن إختار أن يكون رافدا وشريكا فاعلا في صورة ما فاض أو إختلف مع ديناصورات الجبهة فمأواه الأرندي . هذا الحزب الذي لم يتخلص من شبهة حزب الإدارة ، يعيش هو الآخر أزمة مماثلة في الشكل لما تعيشه الجبهة ، لكن إلى حد اليوم لم يخرج إلى " حرب الشوارع والإعلام " كما هو حاصل في جبهة التحرير التي فلتت فيها الأمور إلى حرب الهراوات والكلاب والجرح ... أزمة الأرندي تجري في إنضباط كبير و" بتحضر" . حيث لم تخرج عن التوقيعات والتوقيعات المضادة . ولعبت خطابات القياديين ( بن صالح وأويحي ) دورا في هذا الإنضباط ، والحيلولة دون حصول التجريح أونشر الغسيل فوق الأرصفة وفي منابر الإعلام بشكل إصطدامي حاد .
حماس الراحل نحناح ( قبل أن تصبح حمس ) فهمت مبكرا وبذكاء كبير أن هذين الحزبين سيغلقان اللعب في ساحة سياسية لا تقبل الشتات والأحزاب الصغيرة التي تظهر كفقاقيع الماء في مجاري الأودية عند نزول الأمطار في المواسم الغزيرة . أقول فهم الشيخ لعبة السياسة ومخططاتها ما علم منها وما لم يظهر ، وكانت جملته الصريحة والشهيرة الموجهة إلى السلطة عبر حصة تلفزيونية : ( نحن لا نريد أن تعطونا كل الكعكة ، بل نريد أن تتكرموا علينا بما فاض عن حاجتكم ، فنحن نريد جزءا من الكعكة وما يرضيكم يرضينا ، شريطة أن لا " تكبروا كروشكم " ) . وفعلا تحصلت حركة الشيخ في تشريعيات 1997 على أكثر من 60 مقعدا ... منذ تلكم التشريعيات أصبح هذا الثالوث (الآفالان والأرندي وحمس ) يتقاسم بإستمرار كعكة البرلمان ، بمجموع مقاعد أعطت الأريحية والإستقرار لكل الحكومات المتعاقبة . ثم توزع بقية المقاعد على بقايا الضيوف والمدعوين من الأحزاب أو حتى تلك التي نطلق عليها مجازا أحزابا ، فهي معتمدة ، ونحن على يقين أنها لا تتوفر حتى على برنامج أو مناضلين . حمس تشهد هي الأخرى هذه الأيام بداية تمرد رئيسها السابق أبوجرة سلطاني على رئيسها الحالي مقري . الرئيس الحالي متهم بالإنحراف على خط الحركة والجنوح بها إلى موقع المعارضة في حين يدافع أبوجرة عن موقع المشاركة في الإئتلاف أي الحكم . لا أحد بإمكانه تحديد من ستكون له كلمة الفصل الأخيرة .
غير بعيد عن أحزاب الحكم والإئتلاف تتجمع أحزاب أخرى كثيرة في قطب للمعارضة أوما تصفه بالإنتقال السلمي ، والسعي إلى فرض التغيير الديموقراطي السلمي والوصول إلى التداول على السلطة عبر صناديق الإقتراع . أحزاب تختلف في توجهاتها وألوانها السياسية وفي تأثيرها وأوزانها ، معظمها – أقول معظم قياداتها – تقلدت مناصب في أروقة الحكم والسلطة والمجالس المنتخبة سواء بالتزوير أو ما لحقته شبهة التزوير ، هي اليوم تبحث عن العودة من باب التغيير والتداول .
لو قمنا بعملية رصد وملاحظة " لرؤوس الأحزاب " أي قياداتها فسننتهي إلى إستنتاج مثير : إن التغيير والتداول على رأس الأحزاب مطلب لا يحظى بالأولوية داخل الأحزاب التي تتبنى شعارات التغيير والتداول ، إذا تعلق الأمر بها هي ؟. على قياس " حلال علينا حرام عليكم " . نفس الوجوه ونفس الأشخاص ظلوا يتربعون على رأس غالبية الأحزاب منذ تأسيسها . أو يقومون بتبادل للأدوار من حين لآخر تجنبا لأزمة داخلية جارفة . ثم يعودون بعد هدوء عواصف المناضلين وغضبهم . وإذا حدث تغيير ما فغالبا ما يتم بالإنقلابات الذكية أو غير الذكية .
السيد إد ميليلاند ، رئيس حزب العمال البريطاني خسر الأسبوع الماضي الإنتخابات فإستقال . وكذلك فعل رئيس الجزب الديموقراطي . وكذلك فعل عدد كبير من رؤساء وزعماء أحزاب كبار في بلدان ديموقراطية حقيقية . التداول على رئاسة الأحزاب ممارسة ديموقراطية فعلية . هي سلوك سياسي حضاري مترسخ في الممارسة الحزبية .
في بلادنا ، رؤساء الأحزاب لا يستقيلون ولو خسروا كل شيئ . الهزائم لا تعني لهم شيئا . لأن ميليلاند وجوسبان والآخرون يعتقدون أن توليهم قيادة أحزابهم في إستحقاق إنتخابي ما ، هي مهمة يتحدد على ضوئها مستقبل القائد سياسيا في حالة الفوز أو الإخفاق . لذلك إذا إنهزموا لا يتحرجون في تقديم إستقالاتهم إيذانا بالفشل ، وإعطاء فرصة للحزب للتجدد وتحديد رهان وقيادة جديدة ، وهكذا ... رؤساء أحزابنا لا يستقيلون حتى وإن خسروا كل الإستحقاقات وكل مناضليهم . المهم أن لا يخسروا قيادة حزبهم . المهم رئيس حزب . والأهم أن ينادى سيدي الرئيس . يعلقون هزائمهم وخسائرهم على مشاجب الآخرين . ويبحثون عن كل ما يبرر تلك الخسائر ، وإن كان بعضها مقنعا . في بلادي يمكنك أن تغير مطلع الشمس ( أستغفر الله لي ولكم ) ولكم صعب أن تغير رئيس حزب أو جمعية رياضية أو نقابة ...
وإذا حدث وإن تم ذلك فبالدسائس والإنقلابات البيضاء وبالكلاب المدربة والهراوات ،، وسحب الثقة من أمين عام " ليركب " أمين عام آخر بأسلوب التصحيحيات والتصحيحيات المضادة . ولا غرابة بعد ذلك أن يفوق عدد الأحزاب الستين حزبا .حتى وإن كان عدد المناضلين يقتصر على عدد المؤسسين . ينامون عاما كاملا ليعودوا مع كل موعد إنتخابي فيما يشبه " الزردة " والوليمة الشعبية . وأمام هذه الهشاشة والإفلاس والفقر السياسي ، ظهر خطاب جديد لهؤلاء المتربصين على حد تعبير الرئيس بوتفليقة نفسه الذين أطلق عليهم " أحزاب المناصب والمكاسب " ، أقصد بالخطاب الجديد ، أن كثيرا منهم وإعتبارا لحالات الضعف والفقر السياسي ورداءة خطاباتهم وضعف مستوياتهم التكوينية ، وإنعدام إعداد برنامج حزبي بإمكانه تجنيد المناضلين وتحريك الرأي العام بإستقطاب المجتمع المدني وفرض الحزب في الساحة السياسية ، إبتدع " قميص عثمان جديد " وبات برنامجه يختصر في " إني أساند وأدافع عن برنامج رئيس الجمهورية " . إن برنامج رئيس الجمهورية زكاه الشعب في الإنتخابات الرئاسية وليس بحاجة إلى أن يستعمله المفلسون سياسيا والإنتهازيون كبرنامج للإستهلاك أو لتغطية عجزهم وفقرهم . وواضح أني لا أستثني منهم أحدا سيما أحزاب الفاكس والبيانات والمناسبات .