يكتبون تاريخ ثورتنا لتزيين أفعالهم وتزييف الأحداث
لا أرى موضوعا آخر أكتبه في خميس اليوم غير الفاجعة التي إهتزت لها الجزائر فجر الجمعة الماضي 12 جوان 2015 بشكل قوي كاد يخرج الشهداء من قبورهم فرحا بقدوم رفيقة سابقة لهم في الجهاد. بطلة لم ترحل مع قوافل الشهداء الأولين . لكن رغم قوة الفاجعة وجلل الحدث ، وعظمة الرحيل للتي ملأت الدنيا بطولات ككل الفدائيات الجميلات في ثورتنا التي باتت تتعرض – للأسف الكبير – للتنكر وللتقزيم وللتمييع وحتى للخيانة ، فإن رحيلها بل خسوفها لم يزلزل الأرض زلزالها . ربما لأن الفقيدة إختارت أن ترحل في صمت كبير ودون أن تستأذن أحدا من الذين لم يسألوا عنها في حياتها . وأيضا ، أولئك الذين تنكروا " لعشرة الجهاد " ومبادئ ثورة التحرير ، كما صرحت للنصر في نوفمبر الماضي . الذين أغوتهم الحياة الدنيا بمتاعها ولم يعودوا يذكرون " ميثاق الجهاد " وهو عند الله ميثاق غليظ وثقيل ، على أن تحرير الجزائر لا يتطلب جزاء أو شكورا .
رحلت الجميلة التي ألهمت العالم بأسره ، وحولها بيكاسو إلى لوحة فنية من عمق بطولات حرائر الجزائر . رحلت فجر جمعة قدوم رمضان شهر المغفرة والصيام ، دون أن يلحظ تسللها ومغادرتها المكان أحد من الذين يبكون أندلس إذا حوصرت حلب ؟. كسوف إحدى الجميلات ( جميلة بوعزة ) كاد يمر " لاحدثا " ورحيلا عاديا غير معلن . إذ لم يستوقف الذين ألهاهم التكاثر والتناطح والتنابز والتهافت على قشور السياسة وإقتسام كعك الموائد السياسية والمناصب والمكاسب الحزبية وشكاير الإقتصاد والريع ... هؤلاء الذين لم يعد يستهويهم أويغويهم فيما يبدو رحيل العظماء ؟. ربما لأن عفة الفقيدة و" نظافتها " بكل المفاهيم ، تؤرق الذين إنقلبوا على ميثاق الثورة كما صرحت هي بنفسها للنصر ، وآلمها ذلك كثيرا إلى درجة البكاء والقول " اللهم عجل برحيلي ، فلا مكان لي اليوم مع بعض رفاقي بالأمس " .
وفضلت أن أقتبس فقرات من الحوار الذي أجرته معها جريدة النصر في نوفمبر الماضي ( الصحفيان لطيفة بلحاج وعبد الحكيم أسابع ) لأذكر وأبرز عظمة هذه المجاهدة التي ينطبق عليها وصف أبي الطيب المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة ، مع الفرق والبون الشاسع بين " جميلتنا " وأخت سيف الدولة لأن المجاهدات والمجاهدين المخلصين الثابتين على العهد وعلى الميثاق الغليظ مبجلون عند الله وفي درجات تكريمه . حيث قال المتنبي : " ولوكان النساء كمن فقدنا ، لفضلت النساء على الرجال " . وقالت جميلة بوباشا :
" إخترت أن أعيش كعامة الناس بعد الإستقلال . لم تكن تغرني المناصب والمكاسب والمسؤوليات . لأنني أعتقد أن واجبنا كمجاهدين ومجاهدات هو تحرير الوطن . وإخراج المستعمر مدحورا مهزوما . لذلك يكفينا شرف الجهاد وتحرير البلاد ، والإستشهاد . وعلى الأجيال المتعلمة والكفاءات الشبانية إتمام رسالة المجاهدين والشهداء ، وتحقيق حلمهم في بناء دولة حرة مستقلة متطورة يتساوى فيها كل أبنائها ... " . هذا ما قالته المجاهدة الشهيدة التي لم يتمكن جيش فرنسا الإستعمارية وأعوانه ، إغتيالها في عديد المحاولات والمكائد والترصدات . هي جميلة بوباشا التي إستضفناها في حوار مثير نشرناه في شهر نوفمبر الماضي ، وإنتزع منها إنتزاعا ، لأنها ببساطة إمرأة متواضعة إلى أبعد الحدود . لا تحب الأضواء . ولكنها قبلت التحدث لجريدة النصر على الخصوص ، لأن للنصر – كما تؤكد - مكانة خاصة في قلبها دون غيرها ، فهي تحمل إسم النصر المبين والإستقلال وكل المثل الوطنية النبيلة . وقالت أنها معجبة بخطها الوطني الأصيل .
تحدثت في الحوار المشار إليه ، عن منبعها الثوري ، كونها إبنة عبد العزيز بوباشا أحد أبناء الرعيل الأول للحركة الوطنية . وتحدثت عن علاقاتها وخلافاتها مع رؤساء الجزائر المتعاقبين . وذكرت بأنها أضربت عن الطعام في عام 1989 ، إحتجاجا عن تفشي الفساد ، والمطالبة بتشبيب الحكم ...
جميلة بوباشا ، انضمت للثورة عام 1955 و هي تلميذة . كان دورها نقل الأدوية والوثائق للثوار، و إيواء المناضلين المطاردين من طرف القوات الاستعمارية الفرنسية ، فضلا عن مشاركتها في عديد العمليات الفدائية. اعتقلت بالعاصمة في ليلة 09 إلى 10 فيفري عام 1960، وذاقت مختلف أنواع التعذيب التي يمكن أن تسلط على إنسانة ، بقيت رهينة السجن إلى أن أطلق سراحها في شهر أفريل ..
قدمت نفسها على النحو التالي : " أنا من أسرة ثورية فوالدي عبد العزيز بوباشا كان ينشط في الحركة الوطنية ، في صفوف حزب الشعب الجزائري ، كما كان أخوالي وسائر أفراد العائلة ينشطون في الحركة الوطنية، وأتذكر أنه عندما كنا صغارا بين 4 و 5 سنوات كنا نردد نشيد '' فداء الجزائر '' وكان أولياؤنا يحذروننا من أدائه علانية أمام المستعمر، وكانوا يحرصون على غرس قيم الوطنية والروح النضالية فينا .. وببلوغي 15 سنة من العمر أعلنت رغبتي في الانضمام إلى الفرع النسوي في حزب الشعب الجزائري ، غير أن والدي أخبرني بأنه لا يوجد فرع نسوي في الحزب .. لم أفقد الأمل في الالتحاق بالحركة الوطنية وتمكنت من ذلك سنة 1953، بانضمامي إلى الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، وحزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي أسسه فرحات عباس، أين كانت تنشط معلمتي '' خيرة أبو بكر ''، والمطربة سلوى ، وذلك في سنة 1953، كما انضممت إلى صفوف الكشافة.
مع انطلاق الثورة في سنة 1954 أصبح والدي ورفاقه من مناضلي الحركة الوطنية ، شديدي الحرص على الاتصال بالأشخاص الموثوق بهم فقط لتعزيز صفوف الثورة ولما علم الثوار بأن والدي كان يخفي المناضلين المبحوث عنهم على غرار محمود بوزوزو، اتصل به '' سي عبد الكريم المدعو مونفرير'' الذي كان الذراع الأيمن لسويداني بوجمعة وهو من كان سببا في تجنيد شقيقي الأكبر جمال في صفوف الثورة ، قبل أن التحق به أنا في أفريل 1955. كنا ننشط بين دالي إبراهيم ونواحي أولاد منديل بالدويرة ومعالمة ، إلى جانب نشاطنا بمنطقتي بوفاريك والبليدة . شاركت في بعض العمليات الفدائية وكان لي الشرف في وضع القنبلة التي انفجرت في مقهى الجامعة في سبتمبر 1959 . كنت ومن معي ، نتكفل بنقل الأدوية للمجاهدين من الصيدليات . جاهدت رفقة سويداني بوجمعة ونسيبة مالكي وعلي شريفي ومصطفى شلحة الذي كان مسؤولا كبيرا في الثورة ، وأحد مهندسي معركة الجزائر والذي كان يكلفنا بنقل الأسلحة من محله الكائن في أحد الأنهج القريبة من جامع كتشاوة ، إلى جانب عملي مع نادية حفيز وشقيقيها محمد سمير ومراد وهما أشقاء للمجاهد سليم حفيز الذي توفي مؤخرا وكان يشغل قبل وفاته رئيس مصلحة جراحة الفك والوجه بمستشفى مصطفى باشا الجامعي . ومن بين الذين جاهدت إلى جانبهم أيضا ، أفراد عائلة زناقي و رفقة رابح دوخ وبوعلام لافرانس وسي المدني أطال الله عمره وسي ابراهيم وجمال بناي وخضرة بوفجي في 1957 ومالكي سيد أحمد .
كنت قد واصلت أنا أيضا العمل مع المجاهد الضابط ، مصطفى شلحة الذي استشهد فيما بعد إلى غاية إلقاء القبض علي سنة 1960 وبقيت في السجن سنتين ونصف. سجنت بداية في حي الأبيار، وتعرضت لشتى أنواع التعذيب الذي لا يمكن أن يخطر على بال لمدة 33 يوما متواصلة ( وهنا أجهشت بالبكاء عندما تذكرت كيف كان الجلادون يتفننون كما قالت في تعذيب جميع المجاهدين والمجاهدات بقسوة شديدة ) ، وقد نقلوني إلى ثكنة جيني بحسين داي قبل أن يعيدوني إلى الأبيار ومنه حولوني إلى سجن سركاجي .
تعجل المستعمر محاكمتي آنذاك وعندما حضرت محاميتي جيزيل حليمي، من أجل المرافعة منحوها ترخيص إقامة ينتهي عشية المحاكمة ، قبل أن تتعرض للطرد وأراد المستعمر أن يعين لي محام من طرفه فرفضت وذلك قبل أن يأت المحكمة أمر بتوقيف محاكمتي، وبقيت في السجن إلى غاية الاستقلال .
أفضل أن أعيش حياة عادية . اشتغلت بوزارة العمل إلى غاية التقاعد ، رغم ما عرضه علي بن بلة من مناصب أنا وزوجي ، لكن قررت أن أكون كعامة الجزائريين الذين ظلوا يعيشون نشوة الاستقلال لسنوات ، كلهم كانوا متأثرين بأجواء الثورة ، لذلك كان الاحترام والتقدير هي الصلة التي تربط ما بين أفراد المجتمع . الصغير يحترم الكبير . وللمعلم مكانة لا يضاهيها أحد ، عكس ما نراه اليوم ، للأسف لقد تغير كل شيء...
أقول لكم بصراحة أنا جاهدت في سبيل الله ، ولم أكن أنتظر لا جزاء ولا شكورا من أي أحد، أنا لم ولن أطلب شيئا .
خلال فترة حكم الشاذلي كنت أدعو دائما لمنح الفرصة للشباب . ودخلت لأجل ذلك في إضراب عن الطعام لمدة تسعة أيام سنة 1989 ... كنت أقول بأن من قاموا بالثورة عليهم مرافقة الجيل الشاب لإرشاده إلى الطريق الصحيح ، إلى أن يتمكنوا من استلام المشعل ، وأنا اعتقد بأن الكثير من المسؤولين من أفراد الأسرة الثورية لم يحققوا فيما بعد أهداف الشعب، منها توزيع الثروات والمناصب بالتساوي ، وقد كان زوجي يوافقني الرأي ، وناضل لأجل ذلك كثيرا ، وكان يقول لمن كانوا في الحكم ، إن سرتم في الطريق المستقيم أساعدكم ،
وحينما قمت بالإضراب كان ذلك احتجاجا على بعض الأشخاص، وعلى السياسة التي كانت منتهجة ، من بينها الترخيص بتوزيع الأراضي الفلاحية ، التي استفادت منها مجموعة عن طريق الرشوة .
بالنسبة لي، أنا أرى أن من كتبوا الثورة في البداية كتبوا حقائق وقعت فعلا، لكن هناك من حاولوا فيما بعد أن يظهروا أنفسهم أبطالا من خلال تزيين أفعالهم ، كل واحد يريد إظهار نفسه ، وما يحز في نفسي أن بعض الشهادات زيفت الأحداث ، إلى درجة أن وقائع تاريخية قامت بها أسماء معينة ما تزال على قيد الحياة ، كوضع القنابل على سبيل المثال ، لكن للأسف هناك من نسب لنفسه تلك الأفعال ، هذا كذب وتزوير، وهو غير مناسب ولا يليق بالثورة.
لقد فضلت الابتعاد عن الأضواء بمحض إرادتي، فأنا لا أحب القيل والقال، وأنا بسيطة في كل شيء حتى في أثاث البيت ، أفضل كل ما هو جزائري أصيل .
أرى دائما بأنه حينما يكون هناك انسجام بين القيادة والشعب تسير الأمور كما ينبغي ، علما أن زوجي المجاهد "عمر خالي" يقاسمني نفس المبادئ وكان هو الآخر مجاهدا في الثورة ، وهو الذي عارض بشراسة حذف المقطع الثالث من نشيد قسما سنة 1986، حينما كان نائبا في البرلمان " .
هي إحدى الجميلات الثلاث ( جميلة بوباشا وجميلة بوحيرد وجميلة بوعزة ) . مجاهدة من الرعيل الأول . لا تحب الأضواء . متواضعة إلى أبعد الحدود . فدائية دوخت المستعمر وجيش الإحتلال . حملت الجزائر ، في قلبها ، كقناعة وإنتماء . التحقت بالثورة تلميذة صغيرة عام 1955 . داخل محفظتها وداخل ملابسها ، كانت تحمل الأدوية والوثائق السرية ، والقنابل اليدوية ، والتعليمات المشفرة المرسلة إلى المجاهدين ، وإلى الفدائيين ، وإلى أبطال ثورة التحرير . إبنة بولوغين بالعاصمة . أشرقت علينا في التاسع من فيفري من عام 1938 . إنها المجاهدة الفدائية جميلة بوباشا .
بعد الإستقلال ، إختارت الظل والإنسحاب من واجهة السياسة والأحداث . ورفضت المسؤوليات وابتعدت عن سلطات القرار . تقول أنها أدت دورها في تحرير الوطن وكفى . لا تريد جزاء أو شكورا . وأن الدفاع عن الوطن رسالة وليس وظيفة تنتظر مقابلا أومكافأة . تواضع رفعها في نظر الجزائريين ، سيما الشباب والأجيال الصاعدة إلى أعلى درجات العرفان والتقدير والإحترام والإقتداء .
جميلة بوباشا ، إمرأة من بلادي تحدت شهرتها ونضالها وجهادها حدود قلوب الجزائريين ، وحدود الوطن .كانت بطولاتها نبراسا ومادة للمؤرخين . واقتداء للمناضلين والمكافحين في حركات التحررلإنتزاع حرياتهم وإستقلالهم . وأصبح جهادها رمزا وأسطورة فخر في كتب سيمون دو بوفوار ، وجيزيل حليمي ( محاميتها ) ، قبل أن تصبح فيلما تاريخيا سينيمائيا ، وفي روايات وأشعار البطولات ، يتناقلها المبدعون في كل البلدان والأوطان . وقبل أن أن يحولها أشهر رسامي العالم على مر التاريخ ، بيكاسو إلى لوحة من لوحات إبداعاته الفنية .
جميلة بوباشا ، إمرأة من حفيدات سيليا وماسيليا والكاهنة وللا فاطمة نسومر ... والجزائريات الأخريات الجميلات ، وهن كثيرات . بوباشا من اللواتي كتبن تاريخهن وتاريخ الجزائر بأحرف من دماء ودموع وجهاد ... من أجل أن تحيا الجزائر . رحلت " للا جميلة " ولم تقل كل الأشياء التي وعدتنا بها في لقائنا بها شهر ديسمبر الماضي . ربما لأن الأقدار لم تكتب لنا شرف لقائها مرة ثانية . أو ربما لأن نفس هذه الأقدار لم تكن تأبى أن تقول " للا جميلة " كل ما كانت تريد قوله ، أوأن تنشر ما صرحت بشأنه بأن ما كانت تنوي قوله لن يعجب كثيرا من رفاقها في الثورة ولن يعجب أيضا كثيرا من الذين لا يريدون سماع ما يقض أسماعهم من حقائق .