الأربعاء 18 ديسمبر 2024 الموافق لـ 16 جمادى الثانية 1446
Accueil Top Pub

في الذكرى 28 لرحيله


محمد مصايف ..أب النقد الجزائري
تحل اليوم، الثلاثاء 20 جانفي، الذكرى الـ 28 لرحيل، الناقد والأديب والأكاديمي والدكتور محمد مصايف، (1923/ 20 جانفي1987). مصايف وباختصار، رمز من رموز وأعلام النقد والأدب والفكر والصحافة في الجزائر، وهو تحديدا من أبرز رواد الحركة النقدية في الجزائر، له إسهامات نوعية أثرى بها المكتبة الجزائرية والعربية والحياة الثقافية عموما. ومن مجموع مؤلفاته وكتبه: «فصول في النقد الأدبي الجزائري الحديث 1972»، «في الثورة والتعريب 1973»، «جماعة الديوان في النقد 1974»، «دراسات في النقد والأدب 1981»، «القصة القصيرة العربية الجزائرية في عهد الاستقلال 1982»، «النثر الجزائري الحديث 1983»، «الرواية العربية الجزائرية الحديثة بين الواقعية والالتزام 1983»، «النقد الأدبي في المغرب العربي 1984»، «المؤامرة» 1983، رواية، وهي العمل الإبداعي الوحيد لمصايف.
الدكتور مصايف، نشر أيضا عدة دراسات ومقالات في الصحف الوطنية، منها: النصر، الشعب، المجاهد الأسبوعي، مجلة الرؤيا التي كانت تصدر عن إتحاد الكتاب الجزائريين، كما أشرف على إعداد حصص أدبية بالإذاعة الوطنية.
كراس الثقافة، يحتفي في عدده اليوم، بالناقد والأديب، الدكتور محمد مصايف، في ذكرى رحيله، من خلال شهادات بعض الكُتاب والأكاديميين، الذين عاصروه وربطتهم به أواصر زمالة وصداقة.

إستطلاع/ نوّارة لحـرش

عامر مخلوف/ كاتب وناقد

مصايف وَجْهٌ لا يغيب

التقيتُ المرحوم في مناسبات قليلة، لقاءات ثقافية/أدبية أو مؤتمرات. وقبل ذلك كنت قد تتلمذتُ على كتاباته يوم لم نكن نعرف شيْئا ذا قيمة عن الأدب الجزائري لولا مؤلفاته ومؤلفات الدكتور عبد الله ركيبي وغيرهما قليل.
كنتُ أراه في هيْبة ووقار. ليس من أولئك الذين يتحدثون كثيراً ولا من الذين يقاطعون الناس إذا تحدَثوا. يبدو واثقاً من نفسه إذا أدلى برأيه وهو الذي نشأ في أحضان المدرسة التقليدية وتشبَّع بالثقافة العربية الإسلامية يسعى إلى أن يأخذ من كل شيء بطرف. لكنه حرص على الأدب والتأدُّب معاً. فأتقن اللغة العربية وما يتصل بها من علوم، ثم لم يكتفِ بالشهادة العليا التي أحرزها ووفَّرت له مهنة محترمة، بل استمرَّ يبحث ويحاضر ليقدم للطلبة والمهتمين ما أمكن من إضاءات عن الحركة الأدبية في بلادنا، بأخلاق عالية وتواضع نادر.
وقد استطاع بالفعل أن يواكب ما يجري في الوطن فكتب عن الثورة والتعريب، عن المدرسة وإصلاح التعليم والازدواج اللغوي والشخصية الوطنية وغيرها من القضايا التي مازالت تلاحقنا إلى اليوم. وكتب عن القصة القصيرة والرواية. ويُعدُّ كتابه: «النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي» مرجعاً لا يمكن الاستغناء عنه.
كما بقي مشدوداً إلى الثورة فجرَّب كتابة الرواية في «المؤامرة» حيث يتحدث عن الطفل الذي استشهد أبوه فخلفه في مواصلة الكفاح لأن الاستمرارية الثورية في التعبير الأدبي لدى «محمد مصايف» هي بمثابة جوهرة تركها الأب وصية ولابدّ للابن من أن يحافظ على الجوهرة/ الوصية.
إنه من هذا الجيل الذي مارس النقد الأدبي ولم تكن المدارس النقدية المعاصرة قد تسرَّبت إليْنا، فبقي في حدود البلاغة الموْروثة والفصل بين الشكل والمضمون والتأريخ والتصنيف. إذ عادة ما تأتي طريقته في التحليل أثرا مباشرا للثقافة الكلاسيكية في اتجاهها الذي يحصر الشكل في إشارات بلاغية وتأتي في النهاية تعبيرا عن توجُّه يفصل بين الشكل والمضمون، بين المبنى والمعنى، بحيث يبدو الشكل، في أحسن الأحوال، أمرا ثانويا تابعاً للمضمون، وإن قال نظرياً بخلاف ذلك.
فإذا النقد في المغرب العربي تقليدي وتأثري وواقعي ولكل سماته، كما تعرَّض في هذا الكِتاب لطبيعة الأدب الجديد وللتعبير الشعري والتعبير في الفنون النثرية وللأدب بين الحرية والالتزام.
وتناول الرواية الجزائرية في كتابه: «الرواية العربية الجزائرية الحديثة بين الواقعية والالتزام» فدرس تسع روايات لكل من: «وطار»، «ابن هدوقة»، «غموقـات»، «عبد الملك مرتاض»، «مرزاق بقطاش» و»محمد عرعار العالي» وجعلها أصنافاً، فمنها: الإيديولوجية والهادفة ورواية التأملات الفلسفية ورواية الشخصية.
فمن الواضح أن هذا التصنيف لا يخلو من اضطراب مصدره أساساً المراوحة في الدائرة التقليدية في فهْم طبيعة الأدب والتمييز بين أدب ملتزم وآخر غير ملتزم. وهي نظرة بقيت بعيدة عن الاستفادة من التطورات المستجدَّة في الفلسفة المعاصرة ونظرية الأدب.
إلا أنه مهما قيل عن تجربته النقدية، فإن الضمير الأدبي يقضي بأن نعترف للرجل بأنه لم يتوقف عن القراءة والبحث طواعية ولم يكن مُلْزَماً بذلك. وظل خلال مسيرته يسلك طريقاً آمن به. يتحدث ويكتب من موقع الأستاذ الذي عليه واجب وطني، واجب أن ينقل إلى الجيل الجديد ما خبره وعرفه عن الحركة الأدبية في الجزائر، ولأنه يعبر عن قناعاته لم يكن يخشى ردود الفعل المنتقدة لعمله، فترك آثاره حبراً على ورق، وهي -في تقديري- آثار لا يمكن أن يستغني عنها دارس نذر نفسه لخدمة الثقافة والوطن.

 

سعيد بوطاجين/ كاتب وناقد ومترجم

هرم وقيمة نقدية حقيقية أسست لمعرفة منهجية ومصطلحية ومفهومية

في نهاية السبعينيات كنا طلبة بقسم الأدب العربي بجامعة الجزائر المركزية. لقد كنا محظوظين بأساتذة لهم خبرة ومكانة أدبية محترمة، ومن هؤلاء أستاذ الأدب الشعبي التلي بن الشيخ، أستاذ علم النفس الجنيدي خليفة، عبد الله ركيبي، محمد الهادي الحسني، أحمد الأمين، محمد حسين الأعرجي، أبو العيد دودو، الناقد محمد مصايف، وغيرهم من الأسماء التي استفدنا منها أيما استفادة. كان محمد مصايف، بالنسبة إلينا نحن الشباب، عالما بكل المواصفات، إذ إن حضور دروس قامة أدبية معروفة بعدة كُتب لم يكن أمرا هيَنا. لقد كان ذلك نعمة وبركة من بركات الخالق والمرحلة. أتصور أننا كنا سعداء بهذه الأسماء المحترمة التي أهلتنا، مهما كانت توجهاتنا وخياراتنا، إلى حب الكتاب والقراءة. لقد ظل المرحوم محمد مصايف أحد رموز النقد في الجزائر، وأحد هؤلاء الذين اشتغلوا بجدية كبيرة، وبكثير من الصفاء المنهجي والثقافي، وربما أثر، بشكل ما، في كثير من المواهب التي اتبعت بعض خطاه في تلك الفترة المضيئة من تاريخ الجامعة، بصرف النظر عن المواقف والتموقعات. لقد كان هذا الجدال، في حقيقة الأمر، مصدر ثراء.
لا يمكن الحديث عن النقد الجزائري دون الإشارة إلى الدكتور محمد مصايف، بأناقته وتواضعه وتوازنه وأخلاقه الاستثنائية، مع الطلبة والأساتذة معا. لقد تعلمنا منه كثيرا، وبأشكال متباينة. هذا الهرم قيمة نقدية حقيقية أسست لمعرفة منهجية ومصطلحية ومفهومية.
من حسن حظنا أننا التقينا في الحياة بشخص من هذا النوع، وبهذه المعرفة والهيبة الأكاديمية. كانت تلك بهجة حقيقية، شيئا يشبه هبة من البارئ لأنه أضاء بعض عجزنا في التعامل مع الخطاب الأدبي. ومع الوقت اكتسبنا خبرات أخرى، مختلفة وأكثر عمقا، لكن المرحوم محمد مصايف بقي في عقولنا وفي ذاكرتنا. لقد قام بجهد خرافي لتعليمنا أشكال الاستقبال.
عندما توفي المرحوم مصايف قررنا، أنا والدكتور أحمد خياط، والدكتور أحمد الأمين، والدكتور عبد العزيز بوباكير، الذهاب إلى بيته في مغنية، قريبا من الحدود المغربية الجزائرية. لم يكن هناك طريق سيار، وكانت المسافة بين العاصمة وتلمسان تقطع في أزيد من أربعة عشرة ساعة. لكن واجب الحضور واحترامنا للشخص، دفعانا إلى مغادرة العاصمة في منتصف الليل. كنا آنذاك نقدم دروسا في جامعة الجزائر، لكننا لم نكبر. لقد ظللنا ننظر إلى أساتذتنا باحترام، وكذلك عشنا معهم.
وصلنا إلى مغنية بعد قرابة اثنتي عشرة ساعة. لا يمكن نسيان مشهد وصولنا، كأننا سافرنا من قارة إلى قارة أخرى. كانت العائلة كلها في استقبالنا، بنوع من الدهشة والامتنان. لم تتوقع أن نقطع تلك المسافة في ظروف خاصة. طبعا، قد يحتاج الأمر إلى مذكرات، أو إلى شهادة طويلة تستطيع الإلمام بذلك، إكراما لروح الفقيد وجهوده الكبيرة في صناعة المشهد النقدي، وإبرازا لمدى استفادتنا منه، رغم أننا اكتسبنا خبرات جديدة بتوجهنا نحو المناهج الواصفة التي بنت على اللسانيات، خاصة بعد التحاقنا بالجامعات الفرنسية. لم يحدث أبدا أن حاولنا إبراز معرفتنا بالمناهج الجديدة أمام هؤلاء الأساتذة الذين صنعوا بعض مستقبلنا. كانت المسألة أخلاقية وعلمية في الوقت ذاته. ولم نجرؤ على مناقضة أحدهم لأننا امتداد لهم، جزء منهم. بل إن الدكتور محمد مصايف، شأنه شأن أساتذة آخرين، كانوا مفاتيح لمعرفتنا النقدية، بسلبياتها وإيجابياتها من حيث كيفيات التعامل مع المنجز، وذلك أمر آخر يمكن أن يدرج في المعرفية النقدية التي انتشرت في السبعينيات.
يجب التأكيد، في كل مرة، على أننا، نحن الطلبة، الذين أصبحنا أساتذة بالجامعة المركزية إلى جانب أساتذتنا، كنا ننظر إلى هؤلاء بنوع من الاحترام والتبجيل لأننا جئنا إلى النقد متأخرين، وقد كان هؤلاء مصدر ثقافتنا وقراءاتنا ونقاشاتنا، قبل أن نكتسب مهارات مختلفة. كل التقدير للذين ما زالوا على قيد الحياة، وكل الصلوات على أولئك الذين ماتوا كبارا ومحترمين. ومن هؤلاء الناقد الفذ الدكتور محمد مصايف الذي يعد أحد رموز النقد الجزائري، مهما اختلفت الحقب والمناهج.

 

مرزاق بقطاش/ روائي

مات وفي نفسه شيء من حتى

المرحوم الدكتور محمد مصايف، نِعمَ الإنسان حقا وصدقا! أخلاقه العالية هي الوجه الآخر لكتاباته النقدية والأدبية. كنا نلتقي به مع جمع من زملاء الأدب في الجامعة وفي أرباضها المباشرة، ونتعجب من جهده الدؤوب في سبيل إبراز ما ينبغي إبرازه من الأدب الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية وبعد الاستقلال.
يفرغ من إلقاء محاضراته في كلية الآداب فينصرف رأسا إلى مكتبة الجامعة أو إلى المكتبة الوطنية أو إلى داره لكي يبحر في تضاعيف الكُتب ويستخرج منها المواضيع لأبحاثه.
ما زلت أتذكر لقاءنا به ذات يوم في مقهى اللوتس الذي كان إلى جانب الجامعة والذي كان موئلا للمثقفين وأهل الأدب في سبعينات القرن المنصرم. كنت مع أحد الزملاء، من أصحاب «النكتة» كما يقال اليوم، وإذا بالدكتور محمد مصايف يدعونا إلى تناول مشروب من المشروبات على حسابه، غير أن رفيقي قال له بالحرف الواحد: «لن أطلب مشروبا ولن أبرح مكاني هذا قبل أن تحدثني عن أطروحتك حول النقد الأدبي الجزائري الحديث. من أين جئت بذلك الحشد من المعلومات كلها؟».
وكان صديقي يريد القول إن الأدب الجزائري من الفقر بحيث يستحيل أن يعمد إنسان مثل الدكتور مصايف إلى جمع شتاته من المطبوعات القليلة التي كانت تصدر أيام الاستعمار الفرنسي، ومن ثم، يستحيل على باحث جاد مثل مصايف أن يوظفها في أطروحة.
ابتسم الدكتور مصايف وقد برقت عيناه وراء نظاراته الشفيفة وأجابه: وهل تتصور، يا هذا، أن اللآلىء تطفو على سطح البحر؟ ينبغي أن نغوص في مياه البحر، سواء أكان هذا البحر هائجا أم رهوا. أعترف أنني أمضيت السنوات الطِوال في التنقيب عن المواضيع الأدبية الجزائرية في مظانها، أي في الكُتب وفي المجلات القليلة التي كان الاستعمار الفرنسي يسمح بنشرها، وأعتقد أنني بلغت الغاية، أو على الأقل، شققت طريقا أتمنى أن يجيء أبناء الجيل الصاعد من محبي الأدب ومن محبي هذا الوطن لكي يستكملوا ما ينبغي استكماله.
لم أتمكن من زيارة الدكتور محمد مصايف في المستشفى أثناء احتضاره، ولكم تألمت حين بلغني نعيه، وعندما وقعت عيناي على صورته في أخريات أيامه. غارت عيناه البراقتان، وازدادت عظام خديه نتوءا، وبدا لي أنه مؤمن بقدره أشد الإيمان حتى وإن كان قد بقيَ في نفسه شيء من حتى كما يقول النُحَّاة العرب.
وأنا لا أستذكره إلا وتراءت دوني صور كل من الدكتور عبد الله الركيبي والدكتور دود والدكتور عبد المجيد مزيان والدكتور عبد الله شريط وغيرهم من أولئك الذين حاول كل واحد منهم أن يلقي خشبة في موقدنا الثقافي لكي يصد بها غوائل الزمهرير.

 

حمدي أحمد/ شاعر وناقد

أحد مؤسسي الدراسات النقدية في الجامعة الجزائرية

تعرفت على الدكتور محمد مصايف بداية السبعينيات، من خلال كتاباته في جريدة الشعب، ثم في رحاب جامعة الجزائر، حيث حضرت مناقشة أطروحته للدكتوراه الطور الثالث حول جماعة الديوان وتأثيراتها في النقد العربي إن لم تخني الذاكرة، ثم صرنا زملاء في اتحاد الكتاب، لقد كان يتمتع بشخصية مستقلة، وصارمة، وغامضة في نفس الوقت، قليل الكلام ويتحاشى تماماً الحديث في القضايا السياسية، يميل كثيراً إلى المدرسة النقدية الحديثة، والتي بنت مجدها على الرومانتيكية، يمكن اعتباره أحد الأفراد الذين وضعوا أسس الدراسات النقدية في الجامعة الجزائرية، لكن للأسف ظلت حبيسة في مدرجات الجامعة ولم تقم بأعمال تطبيقية على الأدب الجزائري الحديث، إلا فيما ندر.
لقد كنت أعد برنامجا إذاعيا كان مشهورا آنذاك بعنوان “الصحافة الأدبية في أسبوع” وهو رصد لكل ما يصدر في الصحافة الجزائرية من أبحاث وقصص وقصائد وكتابات نقدية، وقد تنازلت له عن هذا البرنامج، حيث أسست برنامجا آخر بعنوان “أستوديو الفن السابع” وهو مكرس للنشاط السينمائي.
كان الدكتور مصايف قد حافظ على هذا البرنامج «الصحافة الأدبية في أسبوع» لعدة سنوات، ومن خلاله بدأ يطبق نظرته النقدية على النصوص الأدبية الجديدة، لكن مدة البرنامج لا تسمح له بالإطالة، لذلك فقد كانت عبارة عن فلاشات نقدية. أعتقد أن هذه الشخصية اللامعة لم تنل حقها من التعريف والدراسة والاهتمام بأعمالها الأدبية والنقدية، ولا يستغرب ذاك في بلادنا، رحمه الله.

 

أحمد خياط/ ناقد وأكاديمي

لإعادة النقد إلى أهله

عندما تنوي الحديث عن النّقد في بلاد المغرب تجد نفسك مدفوعا إلى ذكر النّاقد محمد مصايف رحمه الله، ومضطرّا إلى تناول أعماله وأنت مقتنع بأنّ الرّجل يحتاج إلى قراءة متجدّدة في ظل ما تعرفه الدّراسات الأدبيّة من تطوّر وتأثّر بالنّظريات الحديثة والمناهج السّيميائيّة، رغم أنّه ظلّ يؤكّد على النّقد التّأثّري ولم يتظاهر بالحداثة ومجاراة المناهج العلميّة الحديثة.
أسس مفهومه للنّقد على الذّوق الذي يظهر عنده قيمة معيارية مركزية تنبع من طبيعة الثقافة والتاريخ عند المغاربة، وتقوم في نظره على المزج بين الدّيني والأدبي وأصول حفظ القرآن والأحاديث وقواعد اللّغة والبلاغة المتوارثة عند المغاربة في الكُتب القديمة التي تحتوي بدورها على بعض «النّظرات» النّقدية. والذّوق حسبه يسهم فيه الأثر الأدبي والدّراسة على السّواء ويبقى إسهام الدّوريات والصّحف أهم في نشره تاريخيا. يعترف محمد مصايف أن هذا المفهوم يعبر عن موقف كلاسيكي تلتقي فيه القيم الإسلاميّة بالنشاط السياسي والحسّ الفني، تحرّكهما الرّغبة في إحياء التراث والمحافظة على الشّخصية الوطنية ضمن البعد القومي إيمانا بأنّ رسالة الأديب والناقد واحدة وهي الميل إلى الإصلاح. يختلف محمد مصايف في مشروع الإصلاح عن غيره في المغرب وفي المشرق، فهو يتميّز بإدراك عميق لمعنى الوطنية والأصالة ولعل مقاله (لإعادة الأفارقة إلى إفريقيا - جوان 1967)، من كتابه «فصول في النقد الأدبي الجزائري الحديث»، يوضّح ذلك وهو القائل فيه أن الاستقلال ليس إجلاء الجيوش فقط بل إعادة الأفارقة إلى إفريقيا، عودة الوعي والروح، إلى تملك حقيقي للخيرات والشخصية الوطنية والأصالة التاريخية التي وصلتهم عن أسلافهم.
فالاكتفاء بالإصلاح الدّيني يُعزّز في نظره عدم استقرار الآراء والمواقف لدى الكثيرين من نقّاد المغرب مما يجعل النّقد حركة متذبذبة كون منطقة المغرب لم تعرف حركة نقديّة مثلما عرفت ازدهار فنّ القول في شتى الفنون، وقد علل هذا الرأي بسطحية الزّاهري، وأنّ نقاد المغرب قد دافعوا عن القيم الثقافيّة ولم يجرؤوا على الوقوف إلى جانب الشّعر الحديث لأنّ منبع الذّوق لم يكن يُؤهّلهم وفي الوقت ذاته يرى أن التّقليد له علاقة بوحدة الأدب العربي «فهم كانوا يعتقدون أن نظرة أخرى غير نظرة القدماء إلى الشّعر وغيره من الفنون الأدبيّة لا يمكن إلا أن تكون ضارّة بوحدة الأدب العربي، ومن ثمّ بالوحدة القومية». ومن العوامل التي جعلت النّقد عتيقا هي الثّقافة المحلّيّة التي كانت تقوم على وحدة عنصري الأدب والدّين. لم يكن ينشغل بالقضايا الحداثيّة، فهو يذكر كل الصّحف والمجلات والكتب في بلاد المغرب ويُركّز من خلالها على الجانب الكلاسيكي بل إنّه يجمع كل هذه الأعمال في عبارة (مجموعة من الدراسات النقدية الهامة) وظلت الدّراسة عنده تتوقف على النّوع ومعالم الشّكل الفني ضمن النوع كالقصّة المغاربية في مقابل القصّة المشرقية كرد فعل على نوع من المركزيّة المشرقيّة.
تتلخّص قضايا الحداثة عنده في الرّمزية ودعوة الحقّ ورسالة الأديب التي تعني الالتزام، ولو أنّه قسّم الدّراسات النّقديّة ووزّعها على تسميات طريفة: العتيقة، القديمة الكلاسيكيّة والتّقليديّة التأثّرية إلّا أن هذا التّقسيم لا يفي بأيّ مفهوم للقضايا النّقديّة الحداثيّة. ولئن لاحظ أن الأديب والنّاقد ظلّا مشدودين إلى عنصر الدّين كإحدى القيم الحضاريّة والفنّيّة الأساسيّة والرّغبة في بعث هذه الرّوح فلم يسلم هو كذلك من التّذبذب، إذ يمزج بين المذهب التأثّري والانفتاح على المذاهب الغربيّة، يتّضح ذلك من أن كل المراجع التي ذكرها تتوزّع تاريخيّا ما بين الحرب العالمية الثانية وسبعينيات القرن الماضي، فشتّان بين ما كان يقوله أحمد رضا حوحو، وجمعية العلماء المسلمين، وعبد الله ركيبي، وعبد الله كنون في المغرب، أو غيرهم من النّقّاد في تونس والمشرق، وما كان يقوله ج. لوكاش منذ بداية القرن العشرين، وميخائيل باختين وهايدغر وكولدمان وبيلينسكي...
قدّم محمد مصايف رؤيته النّقديّة في لغة صافية وجميلة وبأسلوب المتمكّن من بلاغة العربيّة وبيانها، وظلّ صارما صادقا متواضعا إلى أن توفي في فبراير من عام 1987 رحمه وتغمّده برحمته الواسعة.

 

مصطفى فاسي/ قاص وناقد

كانت نشاطاته كثيرة، غنية ومتنوعة وكان يملك الشجاعة والجرأة ليقول رأيه بصراحة

كانت المرحلة الممتدة من بداية سنة 1968 إلى سنة 1976 أغزر مراحل نشاطه جميعا من حيث النشر في الصحافة، مع العلم أنه خص جريدة الشعب بمعظم ما كان ينشره، ففي هذه المرحلة كان لا يكاد يمر أسبوع دون أن ينشر خلاله مقالة أو دراسة أو حوارا أو ترجمة، بل وربما نشر أكثر من موضوع في أسبوع واحد، وهذا لا يعني أنه توقف عن النشر بعد سنة 1976، ولكنه فقط صار قليل النشر في الصحافة، مع الإشارة إلى أنه ظل ينشر في الجرائد والمجلات حتى نهاية حياته، وقد كانت هذه المرحلة نفسها (1968-1976) غنية بما حققه فيها محمد مصايف من إنجاز علمي، ففيها ناقش رسالتي دكتوراه الدرجة الثالثة (1972)، ودكتوراه الدولة (1976) مما أهله للترقية في درجات الأستاذية، مع الإشارة –من جهة أخرى- إلى أنه قد تولى منصب مدير معهد اللغة العربية وآدابها ما بين 1981 و1984، كما كان قد انتخب قبل ذلك بقليل عضوا بالهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب الجزائريين.
وقد كانت نشاطات محمد مصايف كثيرة، غنية ومتنوعة، تمتد ما بين النشر في الصحافة والترجمة والمشاركة في الندوات والملتقيات ومؤتمرات اتحاد الكتاب التي كان كثيرا ما يلقي فيها محاضرات، في مواضيع الأدب والنقد، إلى جانب وظيفته الأساسية بصفته أستاذا مدرسا بقسم اللغة العربية وآدابها التابع لجامعة الجزائر، مختصا في مادة النقد الحديث والمعاصر، ومكلفا بالإشراف على مجموعة من رسائل الماجستير والدكتوراه.
درس محمد مصايف وناقش في مقالاته ودراساته وكتبه قضايا وأمورا عديدة، مثل: اللغة والشخصية الوطنية، وأمور التربية والتعليم، وقضايا ومشاكل الأدب الجزائري المختلفة بما فيه المسرح، والرواية، والقصة، والشعر الحر، والنقد الأدبي وقد خاض غِمار ذلك كله بموضوعية وروح علمية وإن كان من جهة أخرى يملك الشجاعة الكافية والجرأة اللازمة ليقول رأيه في صراحة عندما يتطلب الأمر ذلك. فقد أبدى محمد مصايف آراء جريئة وواضحة وشجاعة في مختلف القضايا والأمور التي كانت تُطرح للمناقشة في الساحة الفكرية والأدبية خلال الربع الأول من استقلال الجزائر، وخاصة على صفحات الجرائد، وكثيرا ما جرت بينه وبين المثقفين والكُتاب مناقشات ومعارك فكرية وأدبية في غاية الأهمية.
وتجدر الإشارة إلى أن مؤلفات محمد مصايف العشرة التي خلفها قد نُشرت في فترة قصيرة نسبيا تمتد ما بين 1972-1984، وأن بعض هذه المؤلفات قد ضمت المقالات والدراسات التي سبق نشرها في الصحافة.
لقد كرس محمد مصايف السنوات الأخيرة من حياته العلمية للبحث في موضوع النقد الأدبي الحديث، ولتأسيس حركة نقدية في الجزائر المستقلة، وهذا ابتداء من رسالته لدكتوراه الدرجة الثالثة التي درس فيها موضوع النقد عند جماعة الديوان ورسالته للدكتوراه التي خصصها لموضوع النقد الأدبي في المغرب العربي منذ بداياته الأولى في العشرينيات إلى مرحلة الستينيات مجتهدا في تصنيف هذا النقد إلى اتجاهاته المتمثلة في: الاتجاه التقليدي، الاتجاه التأثري،الاتجاه الواقعي.
وقد عمل في كلا العملين للكشف عن المؤثرات وعن العناصر الأصلية والمصادر المختلفة إلخ... التي أدت إلى نشوء ظاهرة جماعة الديوان في النقد، أو نشأة النقد وتطوره في المغرب العربي.
وعلى العموم فقد انقسم النشاط النقدي لدى محمد مصايف إلى قسمين: قسم نظري «دراسي» حاول فيه دراسة موضوع النقد لدى جماعة الديوان، وكذلك النقد، نشأته، اتجاهاته، خصائصه ومميزاته في المغرب العربي، ويرتبط بهذا القسم ما كان ينشره من مقالات ودراسات تستعرض في مفهوم النقد، وتعالج الإسهامات النقدية عند الكُتاب الآخرين.
أما القسم الثاني فهو القسم التطبيقي الذي يضع من خلاله نصوصا إبداعية محددة (شعر، قصة، رواية، مسرحية) في ميزان النقد فيدرسها من خلال الوسائل النقدية المتاحة لديه، ومن خلال رؤيته الخاصة.
وقد اتجه محمد مصايف سواء في هذا الجانب أم ذاك نحو توخي الموضوعية، وتبني الروح العلمية إلى أقصى الحدود، فمنهجه «يقوم على الموضوعية في البحث والاعتدال في الحكم واحترام شخصية الكاتب ومواقفه الفنية والإيديولوجية» (محمد مصايف، الرواية العربية الجزائرية الحديثة بين الواقعية والالتزام، ص5)، وهو يطلق على هذا المنهج اسم المنهج الأكاديمي.
ودعا في اتجاهه النقدي إلى نوع من الوسطية، فهو في موضوع اللغة –مثلا- يرى إمكانية استخدام العامية -وخاصة في الحوار المسرحي والقصصي- شريطة تعريبها ورفعها إلى مستوى قريب من مستوى الفصحى، داعيا في الوقت نفسه إلى تجنب التقعر اللغوي، وهو في تناوله موضوع الشعر لم يتعصب للشعر الحر أو للعمودي، فالعبرة في الشعر لا تكمن في الوزن والقافية، بل تكمن في «الصورة الشعرية التي تؤثر بإشراقها وتفردها بالجمال في قارئها» (محمد مصايف، فصول في النقد الجزائري الحديث ص: 35).
ومحمد مصايف يرفض الالتزام في عمله النقدي بمنهج واحد فالناقد الحقيقي في رأيه هو من يمتلك «منهجا يراعي الفن والاتجاه والنوع والمدرسة مراعاة كاملة» (محمد مصايف، دراسات في النقد والأدب، ص:16).

جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com