اللجوء إلى العامية في التدريس ليس هو الحل لأي فشل تربوي
هل يمكن تصور، كيف يمكن أن يكون مستوى التدريس بالعامية وباللهجات المحلية؟، أو كيف ستكون لغة الأجيال التي يمكن أن تدرس وتتعلم بعاميتها ولهجتها المحلية. هذا الموضوع "التعليم بالعامية"، الذي تداولته الصحافة مؤخرا ومعها مواقع التواصل الاجتماعي، أثار الكثير من الجدل، وتوسعت رقعة تداوله، فكيف نتصور هذا الأمر لو حدث فعلا؟. "كراس الثقافة"، في عدده لهذا اليوم، يطرح الموضوع للنقاش، مع مجموعة من الأساتذة والجامعيين الأكاديميين، فكانت وجهات نظرهم في أغلبها تصب في سياق استحالة أن يتم التعليم بالعامية، لأنها تعد مجرد لهجة في ريبرتوار اللهجات المتعددة والمتنوعة التي تزخر بها البلاد، وأن اللغة العربية الفصحى هي الوسيلة والأداة الأفضل والأنجع للتعليم في كل المراحل والأطوار التعليمية والتدريسية.
عبد القادر رابحي/ كاتب وناقد
تبدو المسألة بما تحمله من إحالات لخلفيات فكرية وإيديولوجية نائمة وبالشكل الذي طُرحت به وكأنها تحويل لوجهة نقاش بطريقة ذكيّة ولكنها أصبحت معروفة نظرا لتكرارها عندما يتعلق الأمر بالهوية اللغوية للمجتمع الجزائري، أو أنها جسّ نبض مبرمج لما يمكن أن تكون عليه الرؤية السياسية المستقبلية التي يُحضّر لجانبها التربوي التعليميّ ببرامج تتطابق مع المنظورات السياسية المهيمنة أو التي تعتقد أنها في الطريق إلى الهيمنة خلال العشريات القادمة. غير أن الإسراع بإعلان هكذا قرارات بعد عمل لجنة من المختصين مهما كانت نتائجها موضوعية وعلمية، بغض النظر عمّا سبق، يبدو متسرعا وغير منطقي، خاصة في حالة الجزائر وبالأخص في موضوع حساس كموضوع اللغة الوطنية بالذات.
إن أيّ مهتم بالموضوع لا يمكنه أن يصدق ما تحمله توصيات أيّ لجنة متخصّصة، مهما كان مستواها، من أطر منطقية ورؤى منهجية ونتائج علمية نظرا لغرابة الاقتراح من جهة ونظرا لتوقيته من جهة ثانية. ثمّ هل يمكن أن نبتّ في مسألة كهذه خلال أيام قليلة لا تتعدى الأسبوع من النقاش المبني، على ما يبدو، على ما أفرزته الأرقام خلال امتحانات هذه السنة وغيرها من السنوات الماضية حتى وإن كان نقاشا مركزا وعميقا؟ والغريب أن أصحاب هذا الرأي يستسهلون خطورة هكذا أفكار واقتراحات على واقع المجتمع بالطريقة التي تُطرح بها من جهة، ويستغربون ردّات الفعل التي تبدو عنيفة في نظر أصحاب هذه الاقتراحات من جهة ثانية. ونحن نعرف أنّ قوة ردة الفعل من قوّة الفعل ذاته، ولذلك فلا يمكن لأي عاقل أن يتصور أن النقاش ونتائجه قد تمّ بدون توجهات فكرية وتصورات إيديولوجية تطغى عادة على النقاش وتهيمن عليه أثناء حدوثه. ولنتصور قليلا أن هذه اللجان نفسها قد عملت تحت وصاية وزير آخر، وليكن معربا، فإن نتائج اللجنة ستكون بالضرورة مختلفة عمّا يدعيه بعض الألسنين المتنورين الذين اكتشفوا فجأة أهمية اللغة الأم في توصيل المعرفة وكأن هذا الشعب يعيش في مغارات العصر الحجري وكأنه يسمع لأول مرّة باللغة الأم ودورها في ترسيخ الأطر الأولية للتحصيل المعرفي لدى الأطفال. ولذلك فالقول بعدم وجود البعد الإيديولوجي الذي يؤاخُذ عليه رافضو هذه الفكرة، وأنا منهم، والتأكيد على تقنية المعضلة التربوية التي تستلزم حلولا تقنية بحتة أمر فيه كثير من الريبة والشكّ. ثم متى كانت اللجان التي تعمل بجدّ وتفكر في الموضوعات الهامة والخطيرة بعيدة عن ضغوط النافذين وعن ضوضاء العامة حرّة في خياراتها حتى ولو كان دورها يتوقف عند حدود الاقتراح لا غير؟.
ولذلك فلا يمكننا تصوّر أن مسألة التسرب المدرسي التي تمسّ بعض المناطق من الوطن دون غيرها هي مسألة ألسنية بحتة ومتعلقة بطرائق التحصيل أثناء الطور الأول من التعليم وحدها. هذا رأي فيه نوع من نكران المجهود الجبار الذي بذله الجزائريون في التصالح مع هويتهم اللغوية التي شكلت لهم عقدة كبرى لا زالوا يُؤخًذُون منها على حين غرّة ويؤاخذون عليها في كل مرّة، وذلك بالنظر إلى ما تحمله من خلفية إيديولوجية محيلة إلى التاريخ الكولونيالي الذي اعتمد على ترسيخ لغة ثالثة غريبة عن المجتمع الجزائري تماما ولم تكن موجودة قبل مجيء الاستعمار، وإذا كان ولا بد من التطرق إلى أهمية اللغة الأم في تعليم اللغة الفصحى، فإنه من واجب هذه اللجنة وغيرها أن تنكب على تصفية هذه اللغة الأم التي هي الدارجة من الاستعمار الألسني الذي يهيمن عليها خلال تعلم الطفل في المراحل الأولية التي يهتم بها منظرو التربية في الجزائر. ويبدو لي أن نجاح هذا الاقتراح لا يمكن أن يتحقق إلا بإخراج اللغة الثالثة من الدراجة الجزائرية التي تُشكّل اللغة الأم سواء في اللغة العربية أم في اللغة الأمازيغيّة وعندها تنجلي الأمور ويتضح الإشكال.
لقد محت الأجيال الجديدة من الجزائريين أكثر من غيرها نسبة كبيرة من الفوارق الوهمية الكاذبة بين اللغة الفصحى واللغة الدارجة خلال العشريات الأخيرة نظرا لتعاملها الطبيعي مع اللغة بوصفها كائنا حيّا يتطوّر وفق المصلحة الضرورية للإنسان وليس وفق التنظيرات المخبرية التي تطبق في كل مرّة على الأجيال المتعاقبة. هذا أمر معروف، اللغة حياة وليست مخبر والجزائريون الآن قلصوا كثيرا من المسافات بين الدارج والفصيح بفضل تعاملهم الطبيعي البعيد عن الأوامر التربوية أو الإيديولوجية الفوقية.
ولذلك يبدو أن رأيا كهذا فيه إجحاف كبير للمجهود الإنساني والحضاري الذي بذله الجزائريون في محو نسبة معتبرة من الفوارق الألسنية والدلالية والصوتية بين الدارجة والفصحى وبين العربية واللغة الأمازيغية خلال مراحل تاريخه القديمة والحديثة أو ذلك على الرغم من هيمنة اللغة الثالثة التي أصبحت في نظر هؤلاء الألسنيين والتعليميين لغة لا بُحاسب مثل اللغة العربية أو الأمازيغية لأنها ذات حضور مهيمن في الممارسات الرسمية و لأنها اللغة التي يترقى بها متعلِّمُوها إلى دوائر القرار والسلطة المعرفية والعلمية. ثم متى كان الألسنيون بالذات أصحاب رأي نافذ يتجاوز شكل الكلمة وإعرابها ونطقها؟
إن الادعاء بعدم وجود البعد الإيديولوجي في هكذا اقتراحات إما أنه ينم عن جهل بالواقع الألسني وعلاقته بالبعد الهوياتي للمجتمع الجزائري وبخطورة إيقاظ شياطينه النائمة في المراحل الحساسة من التاريخ الجزائري وخاصة في هذه المرحلة، أو أنه ينبئ عن تصوّر مستقبليّ للخريطة اللغوية في الجزائر كما يريد البعض أن يرسّخها من موقع قوته الحالي في واقع الممارسة الألسنية عموما والتعليمية على الخصوص، وهذا يدلّ على أن توجهات المفاهيم الكبرى التي تسيّر التناقضات الظاهرة والخفية للمجتمع الجزائري ستكون أمامها معارك إيديولوجية رهيبة متخفية كعادتها بلبوسات اللغة والهوية والاستعمار، وستكون بالضرورة على درجة كبيرة من الخطورة على الأمن اللغوي والثقافي للمجتمع الجزائري ومن ثمة على الوحدة الوطنية بوصفها فضاءً جامعا لثراء هذا المجتمع ولتعدّده العرقي والثقافيّ.
أحمد حمدي/ شاعر وأستاذ جامعي
اعتبر أن ما تناقلته الصحف حول التعليم بالعامية هو بالون اختبار، فإن لقي معارضة شديدة من قِبل أغلبية الجزائريين فسيتم التبرؤ منه، وهذا ما حدث، وإن تم الصمت فسيكرس ويصبح حقيقة، وينبغي أن أشير إلى أنني قلت في مكان آخر أن التعليم بالعامية انحراف خطير وجريمة مهما كانت المبررات، فهو خيانة لمبادئ ثورة نوفمبر والحركة الوطنية من نجم شمال إفريقيا إلى جبهة التحرير الوطني (طبعا أصحاب هذا المشروع لا علاقة لهم بذلك) وهو اعتداء على دستور البلاد يتطلب ملاحقة المعتدي بالمتابعة القانونية، والسكوت في هذه الحالة يعتبر تواطؤا، وبعد هذا وذاك، فالعامية إن هي إلا مستوى ضعيف من مستويات اللغة الأم ونحن نريد أن نرقى بالطفل لا أن ننزل به إلى المستويات الدنيا، ثم أي عامية نعلم بها أبناءنا؟ يبدو أن أصحاب المشروع لا يعرفون العامية الجزائرية أصلا، وهي لهجات متعددة، من الناحية اللسانية فهي لغة أوامر ونواه فقط وليست لغة وصف وتحليل التي يتم عبرها اكتساب المعارف والعلوم والقدرة على التحليل.
ولا شك أن أصحاب المشروع يريدون عامية عمال الموانئ المتوسطية (الفرنكا) التي تتكون من فرنسية أساسا وإيطالية وإسبانية ومالطية وعربية وأمازيغية وتغلب عليها لغة الإشارة. أما الذين يتحدثون، ويتصنعون لغة العلماء والأكاديميين، عبر مصطلح الصدمة اللغوية، ولغة الأم، ففيما يتعلق بالأولى، لماذا لم يصدم أطفال البروطان وكورسيكا في فرنسا باللغة الفرنسية؟، ولماذا لم يصدم الجزائريون المحظوظون في عهد الاستعمار باللغة الفرنسية بل برعوا فيها وصاروا من عظماء الكُتاب مثل مالك بن نبي ومالك حداد ومولود فرعون واعتبروها غنيمة حرب؟ وفيما يتعلق بلغة الأم فهي شعار أكثر منه حقيقة، (وماذا لو كانت الأم بكماء!!؟) المحيط هو الذي يشكل الحصيلة اللغوية للطفل وليس الأم وحدها، ثم إن من مهام المدرسة هو تحرير الطفل من تبعيته المطلقة للأم، أي المدرسة تساعد على نمو شخصية الطفل وتحررها من التبعية المطلقة للأم لتكون عضوا كاملا في المجتمع، ومن ضمن ذلك تحرره من لغة، وبالأحرى مفردات، الأم.
ثم ما دور المدرسة إن لم يكن التعليم والتربية وإعداد النشء يعني تعليم اللغة أساسي، في السنوات الأولى حيث تكون قدرات استيعابه جد عالية، إن تعلم اللغات يتم في الصغر كالنقش في الحجر.
نستخلص من كل ما سبق، أن الدعوة إلى التعليم بالعامية هي دعوة سياسية هدفها تفتيت النسيج الوطني وإلغاء اللغة الموحدة التي تجمع كل الجزائريين، ولا يختلفون في ذلك مهما كانت مشاربهم وتوجهاتهم، إلا الشواذ، والشاذ لا يقاس عليه.
محمد خطّاب/ كاتب وباحث أكاديمي
لا تنطلق المقالة من الحالة الجدلية البائسة القائمة على الأخبار المتطايرة والمتناقضة. إنما تقوم على أساس المعاينة لرمزية اللغة وطبيعة حضورها في عالم الإنسان. لم يكن الجدل قائما على أساس فهم هذه الطبيعة الوجودية للغة، إنما كان مقتصرا على مستوى علاقة اللغة بالهوية والتاريخ والدين، ومن ثم كان النقاش حماسيا وبعيدا عن الموضوعية المطلوبة، ليس شرطا أن يقوم النقاش في موضوع اللغة على الدين والمقدس، إنما من الواجب أن يكون منطلقه عالم التجربة والممارسة الفعلية للغة في المجتمع.
في اللغة وعلاقتها بالتربية جانب حساس تشير إليه بعض الفلسفات بشكل نقدي كبير، وهو قيام أصولها النحوية بشكل خاص على سلطة الأمر أو النهي. إن اللغة كما هي في مستواها النحوي الذي يتم تدريسه في المؤسسات لا تضمن حصول تذوقها بالكيفية المطلوبة، بل تكرس مزيدا من الكراهية والنبذ المطلقين لها. والمطالبة بالعامية تأتي من غلبة الحالة الأصولية "النحو" على اللغة. إن المتعلم يخرج من مستوى النحو المكرس إنسانا فارغا من الذوق الذي تتضمنه لغة القرآن، أو اللغة التي كتب بها المتنبي أو أحمد شوقي مثلا. نتعلم من اللغة مستواها النحوي الذي يلغي جمالياتها وإبداعها، فتصبح عبئا على المتعلم وعلى الأداء التربوي معا، وينتج عن ذلك جملة من المشكلات تؤدي في الأخير إلى غياب الحلول مطلقا. الذهاب إلى العامية أحد الحلول لمشكلة غلبة الأصل والنقاء اللغوي الذي يضمن سلامة اللسان من الخطأ، كان ابن خلدون يلح على تعلم اللغة عن طريق الحفظ للنصوص الجميلة من دون فهم. مشكلة التدريس هي مشكلة تكريس الفهم بالقوة وتعليم الأصول قبل النصوص. العامية حالة تعويض للخيبة من الأصول النحوية.
هناك أمر آخر لا يقل خطورة في هذه الظاهرة التي غلب فيها الجدل، وهو تكريس المستوى الأحادي من خلال ما تشير إليه اللغة وهنا نحن أمام نموذج اللغة العربية التي أسست في الغالب الأعم للنموذج الأحادي للوجود، تفسير ذلك أن مستوى التقبل واختيارات النصوص كانت تتم على أساس الطعم الواحد الموضوع على مائدة المتعدد. العالم كله قائم على الاختلاف والتنوع والطعوم المختلفة لشكل الوجود، ولغتنا في المدارس تكرس للمعنى الواحد الذي يدفع به الدين والتاريخ وظاهرة الهوية المأزومة. نتحرج لتعليم الطفل نص أبي نواس في مدح الخمرة لأن الدين يمنع ذلك، ونتحرج أكثر لتدريسه نصا لجبران في المسيح خوفا على دينه. فبدل أن يتعلم الطفل كما هي طبيعة الأشياء بأن العالم من حوله قائم على أساس الجمال والفن وعظمة الاختلاف، يتعلم أن النقاء في العربية وأنها اللغة التي يتكلم بها الناس يوم القيامة وأنها لغة القرآن وأنها أعظم اللغات وهي تدرس بأبأس المناهج على وجه الأرض، وهو في ذلك يدرك أنه يلغي لغات العالم وديانات العالم والألسنة المختلفة التي صرح بها القرآن الكريم نفسه.
كرست المدرسة نوعا من الأصولية العلمية بدافع ديني مقدس لكي تنتهي إلى عمق الأزمة الحالية التي من شأنها أن تعمق المشكل بدل الذهاب إلى الحل. ينبغي للمدرسة أن تهيء لنا معلما يدرك قيمة الحياة في تنوعها واختلافها بعيدا عن المقدس الديني أو التاريخي أو القومي، لكي يتهيأ للمتعلم أن يعرف الجانب الملهم في اللغة وهو جانبها الإبداعي الذي صنع حضارة نسميها الحضارة الإسلامية في بعدها المختلف وليست بالضرورة الحضارة العربية ذات الاتجاه الواحد المغلق.
عبد الله العشي/ كاتب وناقد
يأتي خبر استعمال العامية كلغة تدريس في المدرسة الجزائرية ليعبر عن أزمة أكثر عمقا وتعقيدا وتشعّبا، ثمة من جهة إقرارٌ بعدم فعالية النظام التربوي الحالي تسبّب في فشل المدرسة الجزائرية، وبتبعية الجامعة الجزائرية، وثمة من جهة أخرى شعور بقصور العربية الفصيحة في عملية التواصل والتبليغ والتكوين. وثمة من جهة ثالثة قناعة بضرورة إصلاح تربوي يقوم في بعض ما يقوم به على استبدال لغوي. والثلاثة الأمور صحيحة، فبالنظر إلى المردود المعرفي الضعيف ثمة ما يؤكد على فشل صريح في فلسفة التربية والنظام التربوي. وبالنظر إلى واقع العربية ثمة، فعلا، ما يحتاج إلى إصلاح، فالعربية ما تزال مثقلة بنواقص تنوء تحت ثقلها، فنحن إلى اليوم لا نحسن كتابة الهمزة، ولا كيف ننطق عيْن الكلمة، وليس فينا من ينطق العربية دون لحْن. العربية اللغةُ الوحيدة التي تحتاج حروفها إلى وسائل مستقلة مساعدة لتُنطق نطقا سليما، أعني الحركات التي لا تستعمل إلا نادرا. وربما في العربية فقط نقرأ الجملة مرتين لنفهم معناها لأننا نعتمد على السياق، فقد نقرأ الكلمة مرفوعةً ثم نكتشف أنها تستحق الجر فنعيد القراءة ليستوي المعنى. وبالتالي فنحن نقوم بجهدين ونقضي زمنين لفهم عبارة عربية. هذه مجرد أمثلة جزئية فقط تشير إلى ضرورة إصلاح لغوي في العربية الفصيحة تقوم به المجامع اللغوية. بالمناسبة ماذا قدم المجلس الأعلى للغة العربية؟ لا ينبغي أن يفهم من كلامي أني أقلل من شأن العربية بل ما أريد قوله هو أن اللغة العربية صارت عبئا على من ينطقون بها، لأنها أكبر منهم، وهم يريدون لغة تكون في مستوى عجزهم وضعفهم وهوانهم على الناس، ومن أجل ذلك كان ميلنا إلى الحل السهل بل الأسهل، وهو اللجوء إلى العامية. ما أشبه العربية هنا بطائرة طلبنا من طفل أن يقوم بقيادتها فلجأ إلى التخفيف من أجهزتها وقطَعها وحوّلها إلى لعبة حتى يتمكن من استعمالها بما يتناسب وقدراته الجسمية والعقلية. لا ينبغي تقديس العربية ولا ينبغي تدنيسها أيضا، فاللغة وسيلة اتصال فقط ولا تحمل أي مضمون ديني بالأصل، إن تقديسها يدمرها تماما مثل تدنيسها.
اللجوء إلى العامية في التدريس،ـ إن صح الخبرـ (لأن تصريحا قد صدر من وزيرة التربية ينفي ذلك(، ليس هو الحل لأي فشل تربوي، وفكرة اللغة الأم مجرد وهم لا يقوم على صوابه دليل لأن إمكانية التوصيل والتحاور والتبليغ بالعربية أفضل بكثير من أية لهجة أخرى، وبالتالي لا يمكن أن تكون العامية بديلا على الإطلاق، العامية لا تتضمن غالبا إلا وظيفة واحدة فقط هي الوظيفية التبليغية، لأنها لم تجرَّب لتؤدي وظائف أخرى خاصة الوظيفة الأدبية والجمالية والروحية، والاستغناء عنها يعني بالضرورة الاستغناء عن تلك الوظائف، )أعرف أن هناك أدبا شعبيا بالعامية لكنه أدب محدود الانتشار(. لا أريد أن أقلل من شأن العامية بل إني أدعو إلى تطويرها حتى نستطيع القيام بعمليات التخاطب اليومي بها، أشقاؤنا لا يفهموننا على الإطلاق لأننا نستعمل لهجة محدثة خالية تماما من أصولها حتى صارت خطابا هجينا ضيقا محدودا لا يفهمه إلا أهل الحي أو أهل المدينة في أحسن الأحوال. ينبغي الاهتمام بالثقافات الشعبية المختلفة دون توظيفها إيديولوجيا أو سياسيا، لقد لاحظت أن الخطاب السياسي هو الذي هيمن على تحليل خبر"العامية لغةً للتدريس" ونادرا ما نعثر على خطاب علمي موضوعي قائم على المعطيات المعرفية واللغوية والتربوية والنفسية ونحو ذلك. الهاجس السياسي يوجه كثيرا أمورنا ويؤولها ويؤولنا على نحو غير صحيح.
إن الارتباك الحاصل يدلّ على درجة الإفلاس التي وصلنا إليها، في التربية وفي غير التربية وذلك هو الأخطر، لأن التربية مجرد تابع لنظام أشمل هو المسؤول على توجيه التربية وغيرها، مشكلاتنا تتراكم في شكل متتالية جبرية تزداد حجما، وتتفاقم لتنتج مشكلات إضافية بعضها من نتاج "عبقريتنا" في الإفساد وبعضها لأننا لا نحسن وضع الحلول.
المسألة في النهاية مرتبطة بالهوية، وهويتنا لم تحدد بالشكل الكافي، لم نفرق بين الثابت والمتغير فيها، الوثيقة الرسمية التي هي الدستور حددت الهوية من خلال ثلاثة عناصر متنافرة: الدين، العربية، الأمازيغية، وهو تعريف يفتقر إلى فهم سليم لمعنى الهوية التي هي عصارة الحركة التاريخية لمجتمع ما وهو يمارس تجربته في الحياة من منظور نفسي ووجداني وجمالي وروحي خاص، أي من منظور ثقافي مستقل به فقط، هل أرّخنا لثقافتنا لنعرف فلسفتها وطبيعة رؤيتها للكون والحياة والإنسان؟. سنظل أسرى الارتباك ما لم نصف بعمق حدود هذه الهوية التي ستمثل ملجأنا الأخير عند أي اضطراب. كل واحد فينا له هويته، وتلك هي المشكلة.
حسين فيلالي/كاتب وأستاذ جامعي بكلية الآداب، جامعة بشار
خضعت المدرسة الجزائرية الحديثة لاختبار مناهج عديدة تعليمية، وتربوية مستوردة من بيئات ثقافية واجتماعية تختلف عن البيئة الجزائرية، هذه التجارب لم تستطع أن تحقق الأهداف المرجوة لسبب بسيط: هو أن المناهج المستوردة فصلت عن البيئة المراد استنباتها فيها، والغريب أن اللغة الوطنية كانت وما تزال –عند البعض- المتهم الأساس في هذا الإخفاق. أذكر أننا درسنا في المدرسة الكلاسيكية في سنوات الستينيات والسبعينات باللغة العربية ولم يشتك أحد منا عربا، وبربرا من اللغة العربية أو اعتبرها كعائق في طريق تحقيق نجاحات علمية. أذكر، ويذكر من درس معي -وهم ما يزالون على قيد الحياة- أن بعض الزملاء ذهبوا إلى أمريكا، وفرنسا، وبلدان أخرى وتفوقوا واستطاعوا أن يستوعبوا اللغات الأجنبية بعد أن تفوقوا في اللغة الأم. أذكر وأنا شاهد على تعريب الإدارة الجزائرية أن اللغة العربية لم تكن في يوم من الأيام عائقا في تقدم الإدارة العمومية، وأذكر أيضا أن الإدارة حين تراجعت عن تعريب الإدارة وعادت إلى اللغة الفرنسية لم تتطور وبقيت متخلفة بيروقراطية.
أما المطالبة بالتدريس بالدارجة في الابتدائي-إن صح هذا المطلب كما قرأنا في الإعلام- بحجة صعوبة اللغة العربية وتعدد اللهجات فإن أصحابه إما: أنهم لا علاقة لهم بالتربية والتعليم، وهذا وارد. وإما أن لهؤلاء مشروع خفي غايته تدمير ما تبقى من المدرسة الجزائرية وتكوين جيل يتعصب للهجته بدلا من لغة وطنه وينتمي لعشيرته بدل انتمائه لوطنه.
ولا يخفى على من مارس مهنة التعليم أن مرحلة الطفولة الأولى حساسة جدا ففيها تتكون شخصية الطفل، ويبدأ يتشكل قاموسه اللغوي. فإذا رسخنا في ذهن الطفل التعبير الدارج فإنه يصبح من الصعب التخلص منه في مراحل التعليم الأخرى الثانوية وحتى الجامعية ولو جئنا بكل أخصائيي العالم، ولنا في فشل بعض الدول العربية التي نادت بالتدريس بالدارجة وكتابة القصة والرواية، والشعر بها خير دليل على عبثية هذا المطلب.
نحن ننتظر من هؤلاء العباقرة الذين جاؤوا بهذه الفكرة أن يعطونا نماذج تطبيقية من المدرسة اليابانية أو الأمريكية، أو الفرنسية، حتى لا تصبح منظومتنا التربوية حقل تجارب لكل فاشل عاجز عن إيجاد الأسباب الحقيقية لتخلف التعليم في بلادنا.
محمد شوقي الزين/كاتب ومفكر وباحث أكاديمي
ما يُعاب على بعض صحافتنا هو التسرُّع في إصدار شائعات دون التحرّي والتريُّث في الأحكام، وما يُعاب على قطاع التربية هو العمل في صمت وسرّية، وأحدهما سبب وجود الآخر، أعني توكيل المنظومة التربوية إلى خبراء أو تكنوقراط في التفكير في المناهج التربوية والتعليمية دون نقاش عمومي موسَّع هو الذي يفتح مجال الشائعات المغرضة وثقافة القيل والقال والأحكام المسبقة. ثمة قطاعات حيوية ومصيرية لا يمكنها أن تكون بمعزل عن النقاش العمومي وعنيتُ بها المنظومة التربوية وكتابة الدستور. ليست المسألة مجرَّد أعداد أو إحصائيات ليتكفَّل بها الخبراء والتكنوقراط، أي المسألة ليست اعتبارات تقنية أو سوسيولوجيا كمية، وإنما هي قضية هيرمينوطيقية (herméneutique) تتطلب الفهم والمشاركة والمساهمة من طرف الجميع في نقاشات ومبادلات ومداولات، إلخ.
هذا يعفينا من سوء الفهم (mésentente) ومن التأويلات المبتذلة. كلما كان بلد من البلدان يشتغل بسرية في قضاياه المجتمعية، بعيداً عن الشفافية، كلما شجَّع الإشاعات والأحكام الخاطئة. لا بدَّ إذن للقضايا المصيرية أن تخرج إلى وضاحة التداول الديمقراطي والنقاش العمومي.
لستُ متخصصاً في علم النفس التربوي. ربما لقطاع التربية مبرّراته في الإقدام على هذه المبادرة، غير أن تعليم العامية أو التعليم بالعامية يصطدم بمشكلات وهي: 1- إذا انحصر تعليم العامية على الطور الابتدائي، فإن الارتقاء إلى الأطوار الأخرى (المتوسط والثانوي) سينجرُّ عنه نقصان (carence) في العربية الفصحى كلغة التعليم والتدريس ولغة الاستيعاب والفهم. 2- إدراج العامية في المنظومة التربوية سينجر عنه التباس (quiproquo) وهو إقحام النظام الشفوي (oralité) في النظام الكتابي (écriture) وهما نظامان مختلفان من حيث البنيات والوظائف. العامية لها نظام ألسني بسيط، لأنها مبنية على التفكير البسيط والسلوك العفوي في الحياة اليومية، أما الفصحى فهي أكثر تعقيداً، لأنها لا تقوم فقط على التبادل النُطقي والتجارة الرمزية بين المتخاطبين في مجالات تفلت من العفوية (الإعلام، البروتوكولات السياسية، المدرسة، مراكز البحث)، وإنما تقوم أيضاً على نظام معقَّد من الكتابة والإنتاج المعرفي. 3- العامية مرتبطة بالأرض وبالتصوُّر العفوي للعالم، لأنها لغة شفهية وليست لغة كتابية. وكل إقليم جغرافي له عاميته أو لهجته (patois)، فالمشكلة هي: أيُّ عامية سيتم تبنّيها؟ نصطدم هنا بالتبعثُر الألسني، في وجهه البابلي، لأن اللهجات لها صور مختلفة (variantes) لا يمكنها أن توحّد القول المتداول.
لا شك أن ثمة معضلة كبيرة، شبه فصامية (schizophrénique) بين الشفوي في العائلة والشارع والبروتوكولي في المدرسة والأمكنة الرسمية. إذا استعدتُ ثنائية لميشال دو سارتو (Michel de Certeau)، مؤرخ وسوسيولوجي فرنسي، فإن العامية بمثابة "التكتيكية" لأنها عفوية، فورية، بلا مكان محدَّد، والفصحى بمنزلة "الإستراتيجية" القائمة على المكان السلطوي البارز والتوزيع المنتظَم لأشكال التفكير المنهجي. بين التكتيكي والاستراتيجي توتُّر كبين المكان المراقَب والمنظَّم سلطوياً (panoptique) وبين الزمان الفوري والعابر، هو زمان المصادفات كما قيل في اليونان العريقة (kaïros). العامية مبنية على اختراع آلي وآني لأشكال التعبير تبعاً لعفوية المعيش والتصوُّر، لكنها أشكال عابرة وزائلة ما لم يتم عقلنتها وتقنينها باللغة الإستراتيجية وهي الفصحى لتدخُل في القاموس. يمكن للعامية أن توفّر للفصحى بعض الأشكال التعبيرية، لكن ينبغي النظر إذا كانت هذه الأشكال لها القابلية لأن تُصبح منظومة كتابية يتوقف عليها المعنى والتصوُّر وسلامة اللسان.
ينبغي الاعتراف، وهنا سأدخل نوعاً ما في السوسيولوجيا السياسية، أن اللغة العربية الفصحى لم يكن لها المصير السعيد كاللغات الأخرى مثل الفرنسية والإنجليزية، ولا حتى الألمانية التي كانت مبعثرة في لهجات عامية وتم توحيدها بعد قرون من العمل المضني. أقول أن العربية لم يكن لها الحظ السعيد، لأن سياسة التعريب انحصرت في الغالب في الهوس الإيديولوجي للدول العربية اللاحقة على الاستقلال التي تبنّت أنظمة سياسية مغلقة ومبنية على سياسة الحزب الواحد وصورة القائد (مثلاً: إيديولوجيا البعث)، ولم يُوفَّر لها الوقت والإمكانيات لتكون لغة معرفية، تربوية، تكوينية، بعيداً عن الاستعمالات السياسية والذرائعية. لم تكن لغة المفهوم والتكوين، ولكن لغة البكاء على الأطلال وتمجيد الأبطال. حتى ردود الأفعال على الإشاعات بإدراج العامية في المنظومة التربوية، كانت ردود أفعال هووية، سلبية، انفعالية، همّها تحنيط اللغة ومتحفتها، لتكون لغة الإتحاف والمخيال. اللغة كائن حي ينبغي أن تتطوَّر وتغتني، ولا تحتاج إلى حرَّاس المعبد بفصلها عن الحياة والتطوُّر. لا بد إذن من التفكير الجماعي الهادئ والإيجابي في كيفية نقل العربية الفصحى من السجن الإيديولوجي الذي تتواجد فيه إلى رحابة التداول المعرفي، بالتفكير في طريقة تعميمها وتداولها، بعيداً عن الانطباعات الكاريكاتورية أو الانفعالات الهستيرية.
بشير خليفي/ باحث أكاديمي ومترجم
تحتاج المواضيع المهمة لكثير من التؤدة والهدوء فالحق لا يحتاج للصوت المرتفع، تحتاج لنقاشات موضوعية تغلب عيها ثقافة الاختلاف المبنية على التواصل، الاعتراف، الاحترام والتسامح، إلى لغة تتجه نحو الإقناع بعيدا عن التخوين والتشكيك. ولن يكون ثمة إقناعا فعليا إن لم نستفد من المعطيات والانجازات العلمية، فعلى سبيل المثال ستكون مناقشتنا لمسائل تعليمية اللغة العربية ضحلة وسطحية إن لم نستفد من التجارب ومنجزات المعرفة على غرار ما تقدمه تعليمية اللغة، فلسفة اللغة، السميائيات، اللسانيات، وكذا علم النفس والاجتماع اللغوي.
وفي الواقع لا يمكن نفي العلاقة بين اللغة العامية المحكية واللغة بمعناها المقعد والفصيح، ففي كثير من الأحيان تكون الثانية تطويرا للأولى، وفي تاريخ الفكر ثمة اجتهادات معرفية حاولت إعطاء اللغة العامية قيمتها عبر ما يعرف باللغة العادية في ضوء إسهامات الفيلسوف الانجليزي جورج ادوارد مور ومواطنه ذي الأصول النمساوية لودفيج فتغنشتاين، وقد تم انتقاد هذه المحاولات من أصحابه أولا لأن لغة العلم بحاجة إلى تجريد وموضوعية.
في هذا السياق لا يمكن أن ننكر في العربية مثلا تأثير اللهجة المحكية عبر اللكنة مثلا، التي غالبا ما تمكن من معرفة الانتماء الجغرافي للفرد حين حديثه باللغة العربية يحدث ذلك حينما نستطيع التمييز بين السوري والمغربي أو بين المصري والجزائري. كما لا يمكن أن ننفي تأثير العربية الفصحى على اللهجة العامية من خلال المفردات والصياغة المشتركة. وإلى وقت قريب لم تُثر مجتمعيا على الأقل علاقة اللغة العربية الفصحى بالعامية، في الغالب احتدم الصراع بين العربية والفرنسية، وقد يُفهم الأمر باستقصاء التأثير اللغوي بسبب تواجد الاستعمار الفرنسي في الجزائر. فوضعية اللغة الفرنسية في الجزائر تختلف عن وضعيتها في الفيتنام وباكستان على سبيل المثال.
من جانب آخر يجب الاعتراف بالوضعية المزرية التي تعيشها اللغة العربية في الجزائر سواء نتيجة المفاعيل عكسية لسياسات التعريب التي كانت في غالبها عقابا للغة العربية، أو لغياب إستراتيجية علمية وعليمة تحتفي بمنجزات العلم أثناء تدريسها إذ ما تمت مقارنتها مثلا بتعليم اللغة الانجليزية. لذلك وجب القول أنه من الخطأ تعليم اللغة العربية ضمن إطار مستوى واحد أو بوصفها كتلة واحدة محددة سلفا، يحتاج الأمر إلى إستراتيجية مرحلية تأخذ بعين الاعتبار مستوى المتعلم وأهدافه، فيتم الانتقال من السهل والبسيط إلى المركب والمعقد باستعمال المرحلية ووسائل الإيضاح، وبما يتماشى أيضا واهتمامات المتعلم حيث تتآزر المقاييس المختلفة لخدمة البرنامج العام، فيكون للتعبير الكتابي والشفوي حضوره ضمن إطار يبرز النطق وأشكال التواصل السليم بالاستفادة من توجيهات المتعلم وبرامج الإعلام الآلي إضافة إلى تقنيات وسائط الاتصال.
كما يجب الانتباه إلى ضرورة عدم إثقال كاهل المتعلم بالأجزاء الدقيقة والتفصيلات الجزئية التي تزخر بها مدونة قواعد اللغة العربية، إلا أثناء التعامل مع المتعلم المتخصص، فالاتسام بالمرونة والتركيز على الفاعلية والتشويق والمعرفة باهتمامات الخصوصية العمرية للمتعلم كلها أسباب وأساليب تدخل في إطار حسن التعليم والتعلم.
لذلك فإن لكل مرحلة عمرية أهدافها الخاصة بما يتواءم والتعامل الأنسب مع التطور العقلي واللغوي، فيكون الهدف في مرحلة معينة القدرة على الكتابة، ثم القراءة والفهم وصولا إلى مرحلة اكتساب المهارات اللغوية، مع ضرورة مرافقة ذلك بتحبيب المطالعة والممارسة اللغوية للمتعلمين وإرشادهم باستعمال التقويم بغرض تحقيق التعليم اللغوي الناجع. كما يجب تحفيز المتعلمين على المبادرة في القول بما ينمي مهارة القدرة الإنشائية والخطابية عندهم، زيادة على تعويدهم على الإلمام بأبجديات الحوار من إصغاء وقدرة على الإقناع، فيكون مسار التعلم متماشيا مع خصوصية المرحلة العمرية، حيث يعمد الأطفال إلى التقليد والمحاكاة مع حضور كبير لملكة الحفظ عندهم، في حين يتجه المراهقون إلى التعبير عن دواخلهم بحثا عن توازن منشود ورغبة في زيادة الخبرة الحياتية، فيكون لاختيار الموضوع محل الدراسة أثره الواضح في عملية التعلم فكلما تم الاقتراب من الاهتمامات العلمية والحياتية للمتعلم كلما كانت استجابته اللغوية أوسع وأعمق. ستكون لهذه الرؤى فاعليتها، أقصد الرؤى سابقة الذكر، حينما يتحقق الإبداع وتتوفر شروط الموضوعية، ضمن إطار رصين من التعدد اللغوي يضمن لكل فرد حقه في تعلم أي لغة شاء، وبالمقابل تقوم الجهات المختصة، خصوصا العلمية منها بإسناد هذه المقاربات بما يسمى بالتدبير أو التخطيط اللغويLanguage Planning بوصفه جملة الوسائل والمرتكزات النظرية لإحداث الترشيد اللغوي بغرض تطوير اللغات، وكذا إيجاد حلول للمشاكل المتعلقة بالاتصال والتفاهم بين أفراد المجتمع. غالبا ما يتم الأمر في إطار تعدد لغوي يجمع بين الوطني والرسمي، والكوني في أبعاده الإنسانية إضافة إلى اللغة الأم.
ضمن هذا الإطار لا يمكن البتة إزاحة اللغة الأم أو العامية بوصفها ممارسة إجرائية لتعلم اللغة في المراحل العمرية الأولى، لننظر مثلا لدور الأم أو المدرس في سنوات التعليم الأولى حيث تُشكل العامية لغة شارحة وواصفة ووسيلة إيضاح لتعلم اللغة العربية، ولن ينتفي ذلك إلا في ظل تنشئة اجتماعية قائمة على اللغة العربية سواء في الأسرة أو المدرسة أو المجتمع، وهذا نادر الوقوع، وهي الحالات النادرة التي نجدها لدى بعض الأطفال الذين تعلموا الأبجديات والصياغات الأولى للعربية قبل ولوجهم عتبات الأقسام.
يجب أن نكون واقعيين وصرحاء: اللغة العربية تعيش بؤسا حقيقيا ومرد ذلك إلى عجز أصحابها عن فرض وجودهم كونيا عبر أساليب العلم والاقتصاد أي عبر الإبداع في تصوره العام بوصفه نسجا على غير منوال، وإذا كان سر استمرار اللغة يكمن في الاستعمال المجتمعي في الإدارة والمراسلات ويفطات المتاجر والتعليم، وفي وسائط الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة وعند الساسة بطريقة تعبر عن العفوية والحب أكثر من كونها قسرا وإكراها أو تظاهرا. لذلك لا أريد أن أخوض في أزمة اللغة العربية في المجالات السابقة، يكفي أن ننظر إلى المحصلة عند أغلب التلاميذ والطلبة لنعلم حجم الكارثة.
قد يُتفهم الأمر حينما تستعمل اللغة الدارجة أو لغة الأم بوصفها مدخلا لتعلم اللغة العربية أو أية لغة في السنوات العمرية الأولى وهو أمر واقع بل يمكن القول وبصراحة أن الدارجة والفرنسية لم تنتفيا بوصفهما لغات تعليم في الجزائر، أما أن تعتبر بديلا دائما للغة العربية فهذا عين التجني، أقول هذا الكلام وفي قلبي وعقلي غصة عن وضعية اللغة العربية، وأرى أن أغلبية متكلميها يتحملون وزر وضعيتها، فإلى جوار طرائق بدائية لتعليم القواعد عند الكثيرين، ثمة تخشب ضار يتمثل في الروح الدوغمائية التي يتسم بها البعض لمماثلتهم بين الخطأ اللغوي والخطيئة في اهتمامهم بظاهر الكلام على حساب المضامين والمعاني، في الانجليزية مثلا وعلى مستوى التواصل المهم أن تتحدث ليصل المعنى، وإلى اليوم لازلت أذكر نصوصا مشوقة في تعلمها، كما أن شبكة النت تعج بمواقع تعلمها صوتا وصورة. إن أنسب طريقة لمعالجة وضعية اللغة العربية في مقاربتها مع العامية، تكمن في فتح حوار ونقاش مجتمعي يؤطره مختصون ومثقفون وخبراء وفق مقاربات علمية للفهم، خارج كثير من التحليلات السياسية ذات الطابع الإجرائي والتي يكون غرضها في الغالب مسايرة الموقف العام طمعا في قاعدة شعبية واسعة، ومن ثمة أصوات انتخابية.