المــدينة الجزائرية تفقد هويتهـــــا العمرانيـــة
فقدت المدن الجزائرية وهجها خلال العشريتين الماضيتين ،و تحولت إلى خليط من نسيج عمراني غير متجانس يجمع بين هندسة قديمة متقنة تتهاوى ومشاريع جديدة مكثفة أسقط منها عامل الجودة والتنوع بسبب حاجة ملحة للسكن، كما أصبحت المدن الكبرى مطوقة بحزام من القصدير والسكن الهش الناجم عن نزوح سكاني فرضته الأزمة الأمنية، فيما أنتج البناء الذاتي حظيرة غير مكتملة.
الجزائر، قسنطينة ، وهران و عنابة مدن توصف بالكبرى، لكنها تبقى بعيدة عن مقاييس المدن العالمية ،بسبب ما يسمه المختصون غياب سياسية تعميرية و الاكتفاء بعمليات إعادة إسكان غير مدروسة، أعادت استنساخ أحياء قصديرية في شكل عمارات تفقد للجمالية والبعد الاجتماعي.
هيئة المهندسين المعماريين تشدد على ضرورة إعادة النظر في المخططات العمرانية وتطالب بالابتعاد عن الخبرة الأجنبية البعيدة عن الواقع الجزائري و التراجع عن مشاريع المدن الجديدة لعدم توفر ما يكفي من الآليات للتحكم فيها، فيما يرى مختصون أنه لا بد من دراسات إجتماعية قبل إقرار عمليات إعادة الإسكان لتحاشي عدم التأقلم مع التركيز على ضرورة مراعاة الخصوصية الجزائرية في البناء.
عاصمة الشرق تفقد بريقها
يزداد النسيج الحضري لقسنطينة تدهورا بمرور السنوات، إلى درجة أن وسط المدينة فقد معالمه و جمالياته و صار مجرد مبان قديمة دون روح، و ذلك وسط انتشار مقلق لمظاهر الفوضى و العشوائية، التي حولت أزقة و طرقات عاصمة الشرق، إلى مفرغات للنفايات و لمجرد نقطة عبور يضطر المواطنون لسلكها، من أجل قضاء حاجياتهم اليومية، ثم “الهروب” منها قبل حلول الظلام.
من يدخل مدينة قسنطينة عن طريق «الكورنيش» لأول مرة، يتفاجأ بأكوام القمامة و بكتل الأتربة و الأوحال المترامية في جميع الاتجاهات، رغم أن جسر سيدي مسيد الذي يتقاطع شكله مع عربات التيليفيريك يضفي سحرا شوهته هذه المناظر.. و بعد ساعات من العناء و الانتظار، وسط الازدحام المروري بهذا المدخل الضيق المعروف بطوابير السيارات التي تمتد دائما على طوله، يصدمك مظهر الأرصفة المتسخة و الطرقات المهترئة، في ديكور سيئ يكتمل مع منظر حافلات النقل الحضري القديمة، و المركونة بمحطة باب القنطرة غير المهيأة و المليئة بالأوساخ، أما المداخل الأخرى للمدينة فلا تختلف كثيرا و يغلب عليها الفوضى و الطابع الريفي، بملاحظة مباني أغلبها غير مكتمل و انتشار هياكل السيارات القديمة و كل أنواع النفايات على حواف الطرقات الوطنية.
بعد كل هذا التشوه البصري يفضل كل زائر دخول وسط المدينة، الذي يفترض أن يكون القلب النابض و المعلم الأهم و الأجمل مثلما هو معروف بجميع المدن الكبرى للعالم، لكن و بمجرد دخول المكان تستقبلك الفوضى المرورية بطرقات لا تتوفر على إشارات ضوئية، ما جعل السيارات تسير بعشوائية إلى جنب الراجلين، الذين لم تُعد الأرصفة المحتلة من أصحاب المحلات و بعض الباعة الفوضويين تكفيهم، خصوصا بشارع 19 جوان أو طريق “فرنسا” مثلما يسميها القسنطينيون، كما لا تجد العائلات مكانا مريحا على شكل “كافيتيريا” أو مطاعم مناسبة تطل على معالم المدينة، حتى أن التي استحدثت بالساحة الواقعة أسفل شارع زيغود يوسف، غير مناسبة و لم يتم تهيئتها بالشكل المطلوب، ما جعل الجلوس بها صباحا شبه مستحيل بسبب أشعة الشمس الحارقة.. و غير بعيد عن هذا المكان تظل حديقة “بن ناصر” التي خضعت للتعديلات، محظورة على العائلات و لم تفلح مبادرات شبابية لجعلها فضاء للقراءة، في طرد المنحرفين منها.
و بوسط مدينة يفتقد حتى للمراحيض العمومية، لا يفارق عينا الزائر منظر الأوساخ و علب الكرتون المترامية في كل مكان و التي عجز عمال النظافة عن جمعها، بسبب عدم احترام بعض أصحاب المحلات لمواقيت رمي القمامة و غياب سلوك الحفاظ على نظافة المحيط لدى العديد من المواطنين، و فوق كل هذا تأتي ظاهرة تجول الكلاب الضالة التي افترست مؤخرا متشردا كان بحديقة “كركري” المهملة، و الأغرب هو ظهور أبقار بوسط المدينة يبدو أنها قدمت من مزارع قريبة، و ذلك بعدما كان تواجدها مقتصرا على الأحياء المحيطة بالمدينة على غرار جبل الوحش.
و على اعتبار أن قسنطينة مدينة عريقة و مرت عليها حضارات متعاقبة، صارت الكثير من مبانيها التي تعود للحقبتين العثمانية و الاستعمارية، عُرضة لانهيارات متتالية على غرار ما هو مسجل بالسويقة و حي باردو، كما أدت مشكلة انزلاقات التربة إلى سقوط عد منازل، بينما توشك أخرى على الانهيار بمنطقة “عوينة الفول”، و هو ما كان سببا في القيام بترحيلات متتالية لسكانها طيلة الأعوام الماضية و برمجة عمليات أخرى ابتداء من شهر سبتمبر المقبل، مع الشروع في عمليات ترميم للمدينة القديمة، لم تظهر نتيجتها بعد و عرفت اختلالات و مشاكل عرقلت من تقدم العملية.
الترحيلات المتعاقبة للكثير من سكان المدينة القديمة التي لم تعد قادرة على الصمود أكثر أمام الانهيارات الناجمة عن العوامل الطبيعية و عمليات الهدم المُتعمّدة، أدت لتحوّل بناياتها إلى هياكل دون روح احتُلت من فئات جعلت من بعض زواياها أمكنة محظورة، كما احتلت التجارة الفوضوية الأرصفة بعدما أصبحت مصدر رزق لعشرات العائلات، و قد جعلت كل هذه العوامل من وسط مدينة قسنطينة الذي كان القلب النابض لولايات الشرق، يتحول إلى مكان يضطر المواطنين لدخوله من أجل قضاء حاجياتهم الإدارية و التسوق، ثم الخروج بشق الأنفس بعد خوض “معركة” للظفر بمعقد بسيارة أجرة أو “فرود”، و ذلك قبل حلول الظلام و تحولها إلى أشبه بمدينة “أشباح”، خاصة و أن الإدارات و أصحاب المحلات يغلقون أبوابهم قبل حوالي الساعة السادسة مساء.
و بالرغم من أشغال التهيئة و الترميم الماراطونية التي يخضع لها وسط المدينة منذ أشهر، تحضيرا لإحياء تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، إلا أن الكثير من المواطنين غير متفائلين بتحسن جذري لمظهر عاصمة الشرق، سيما و أن عيوب هذه الورشات بدأت تظهر قبل إتمامها.. و بغض النظر عن التظاهرة يرى الكثيرون أن قسنطينة المدينة التاريخية التي تزخر بتراث ثقافي و مادي ضخم، يجب أن تحظى بالاهتمام الكافي من أجل استعادة مكانة “أم الحواضر” بإنقاذها من التريّف و جعل الحياة بها أكثر راحة مثل باقي المدن الكبرى للعالم.
مع ارتفاع الطلب على السكن بولاية قسنطينة و انتشار الأكواخ القصديرية و كذلك تزايد وتيرة الانهيارات بالمدينة القديمة، لجأت الدولة منذ أزيد من 15 سنة، إلى استحداث قطب حضري جديد سمته المدينة الجديدة علي منجلي، و رحلّت إليه أعداد كبيرة من العائلات التي وصل عدد أفرادها اليوم إلى أزيد من ربع مليون نسمة، يعيشون داخل مائات الآلاف من الوحدات السكنية من مختلف الصيغ، و قد نجم عن هذا التوسع العمراني الضخم انتشار العمارات و المباني و امتدادها إلى الحدود مع بلديتي عين اسمارة و الخروب.
لكن هذا التوسع لم يرافقه دراسات استباقية تأخذ بعين الاعتبار الجانب الجمالي و لا احتياجات السكان من مرافق التسلية و المساحات الخضراء، لتكون النتيجة مراقد على شكل كتل اسمنتية منتشرة بشكل مفرط، صحيح أنها ساهمت في القضاء أزمة السكن، لكنها خلقت أزمة أخرى في نسق الحياة داخل مدينة “ضخمة” تغلب عليها العشوائية و اللاتجانس و تفتقد حتى لإشارات المرور و بل لمساجد كافية لأداء العبادات، ما جعل السلطات تحاول استدراك الأمر، بتخصيص مبالغ ضخمة من أجل تهيئة هذا التجمع و تزويده بالمرافق الضرورية.
و قد أقر المسؤولون المتعاقبون على الولاية بأن الطابع الاستعجالي للمشاريع السكنية بالمدينة الجديدة علي منجلي، أغفل ضرورة إنجاز المرافق الخدماتية و حتى الأمنية، مع عدم مراعاة الجانب الجمالي، لتتحول علي منجلي إلى نموذج “سيئ” للمدن الجديدة بالجزائر، حيث حذر وزير السكن عبد المجيد تبون في زيارته الأخيرة للولاية من تكرار نفس السيناريو بمنطقة الرتبة، و أمر بتجنب الأخطاء المرتكبة بعلي منجلي التي لم يطابق إنجازها قوانين العمران و اعتبرها «خطأ فادحا».
الباحثة المعمارية بن عباس سامية للنصر
تُرجع الباحثة في العمران و المدن السيدة بن عباس سامية، سبب تدهور النسق العمراني لمدينة قسنطينة، إلى أزمة السكن التي أجبرت السلطات على بناء عشرات الآلاف من المباني في ظرف وجيز، ما جعل هذه المدينة و بالرغم من كونها الأصغر وطنيا من ناحية المساحة، تكتظّ ببرامج سكنية تعادل ما استفادت منه 3 ولايات كاملة.
ترى الأستاذة في كلية الهندسة المعمارية الدكتورة سامية بن عباس، أن قسنطينة فقدت معايير المدينة بسبب الخلط بين مفهومي التمدّن و التعمير، إذ لم تكن مظاهر التحضر مرافقة للتوسعات التي عرفتها، حيث تمثل الشغل الشاغل للدولة في العشريات الماضية، في الاستجابة الفورية، و مهما كانت الظروف، للطلبات التي فرضتها أزمة السكن، لتلجأ إلى بناء «تكتلات و امتدادات حضرية» لا يمكن، حسب السيدة بن عباس، إطلاق تسمية «مدينة» عليها، بعد أن أصبحت السلطات لا تبحث سوى عن أراض سهلة للتعمير و قريبة من المنشآت القاعدية، التي توفر الماء و الغاز و ذلك من أجل ربح الوقت بالنظر للطابع الاستعجالي لهذه المشاريع.
و في حديثها للنصر قالت الدكتورة بن عباس و هي كذلك عضوة منتخبة بالمجلس الشعبي الولائي، أن هذا التوسع العمراني الكبير، جعل الدولة تستهلك خلال الأربعين سنة الماضية، 20 ضعف الأراضي الصالحة للبناء التي كانت تستغل من قبل، ففي الخمس سنوات الأخيرة فقط تم استهلاك 200 هكتار من الأراضي لإنجاز مشاريع سكنية، و هو وضع كان بالإمكان، حسبها، تجنبه في حال وجود دراسات تضبط العملية، لتضيف بأن التعمير بهذه الطريقة المفرطة خلق أزمة عقار دفع بالدولة إلى البناء فوق أراضي فلاحية.
كل هذه العوامل، تؤكد الأستاذة بن عباس، خلقت تراجعا في قيمة المدينة من ناحية عناصرها الهيكلية الجمالية و البيئية، حيث يتركز 80 بالمائة من سكان الولاية بالبلدية الأم، و بالرغم من كونها أصغر ولاية و بلدية وطنيا من ناحية المساحة، خصص لقسنطينة 1 على 15 من البرامج السكنية على مستوى الوطني، أي ما يعادل حصة 3 ولايات كاملة، لكن بالرغم من كل التشوهات التي لحقت قسنطينة تؤكد المختصة أن ذلك لم يلغ حقيقة أن سيرتا “مدينة قاطبة” منذ ما قبل التاريخ و لا تزال شاهدة على حضارات متعاقبة، حتى إبان الثورة التحريرية كانت هذه المدينة التي تضم حاليا ما يقارب مليون نسمة، عاصمة لـ 17 ولاية بالشرق.
و فيما يخص المدينة القديمة التي تشهد تدهورا عمرانيا مضطردا، ترى السيدة بن عباس أنه من الخطأ إعادة إسكان المواطنين بها بعد إخضاعها للترميم، مضيفة بأن المدينة القديمة تحولت من معلم ثقافي و تاريخي إلى “سجل تجاري” بين أيدي البعض، حيث تم ترحيل المائات باسمها و الكثير منهم، حسبها، ينحدرون من 7 ولايات أخرى، كما عرّجت بن عباس إلى إشكالية انزلاق الأرضيات التي تحولت إلى هاجس للسلطات قنّن طريقة التعمير، باللجوء إلى أراض زراعية تكلف 3 مرات قيمة ما يستهلكه البناء فوق أوعية مناسبة.
و للخروج من الفوضى العمرانية التي تشهدها مدينة قسنطينة، تقترح المتحدثة العودة إلى استغلال المباني القديمة و الشاغرة باستعمال تجهيزات ذات نوعية، مضيفة بأن الفرصة لا تزال سانحة بإتمام مشروع الحظيرة بحي “باردو”، و ذلك إلى جانب الاستعانة بما يسمى بالسوسيولوجيا الحضرية، بواسطة مراعاة المعطى الاجتماعي في بناء المدن، مقدمة مثالا عن مدينة الخروب التي تعرضت للترييف و تحول مركزها إلى “إسطبل” ما يتطلب إعادة هيكلتها و “تحضيرها” من جديد.
عنابة
فقدت مدينة عنابة الكثير من ميزات نسيجها العمراني الأصيل، إلى درجة أن سكانها الحاليين أصبحوا يجمعون على أن السكنات التي يقيمون فيها ما هي سوى مراقد، لا تختلف عن «نظام الفنادق» بإتخاذها كمراكز للإيواء، في غياب الصور
و المظاهر التي كانت تطبع يوميات المواطن العنابي في سبعينيات القرن الماضي.
و لعل الوضعية الراهنة لحي لاكولون الشعبي تبقى أبرز دليل على التباين الصارخ في النمط العمراني لمدينة عنابة بين الماضي و الحاضر، لأن هذا الحي و الذي يعود تاريخ تشييده إلى أزيد من قرنين من الزمن يشهد على تاريخ المدينة، و قد أكد بعض سكانه للنصر بأن الوضع تغير كلية، لأن ميزة السكن بعنابة أصبحت مختلفة تماما عن حقيقة التراث الأصيل، موضحين بأن «بونة» كانت تشتهر بنمط إستثنائي في نسيجها العمراني، و ذلك بتشييد سكنات جماعية في شكل «فيلات» تتربع على مساحات شاسعة، و يخصص جزء من وعائها العقاري لحديقة المنزل، و هو النمط الذي كان يميز وسط المدينة، خاصة بأحياء لاكولون و البرتقال، بينما كانت ميزة الحي العتيق «البلاص دارم» بالمدينة القديمة إنجاز سكنات جماعية غالبيتها تتوفر في مخططا المعماري على حمام، الأمر الذي جعل كل حي بعاصمة الولاية يحتفظ بميزة ينفصل بها عن باقي المناطق.
لكن المعطيات أصبحت مختلفة بعد تفاقم أزمة السكن، لأن زحف الإسمنت أتى على النسيج العمراني لمدينة تمتد حضارتها في أعماق التاريخ، لأن الكثير من الأحياء العتيقة شهدت تغيرا كبيرا في هندستها المعمارية، على إعتبار أن كل المساحات التي كانت مخصصة للحدائق في المنازل بحي مثل لاكولون و كعبار عدرة وجهت لإنجاز سكنات بطريقة فوضوية، مادام المهم بالنسبة لأصحابها إيجاد سقف يأوي فيه عائلة، بينما تحولت حمامات «البلاص دارم» إلى سكنات.
إلى ذلك فإن الأحياء القديمة بعاصمة الولاية تحولت مع مرور السنوات على نقاط سوداء في النسيج العمراني، كون سكناتها الجماعية تبقى عرضة للإنهيار، بسبب غياب أشغال التهيئة و الترميم، كما هو الشأن بالنسبة لمناطق لاكولون، بني محافر، البلاص دارم و طاباكوب، حيث تبقى آلاف العائلات المقيمة بهذه المناطق تنتظر الترحيل للتخلص من هاجس الإنهيار الذي تتصاعد المخاوف منه مع حلول فصل الشتاء من كل سنة، بصرف النظر عن تشويهها للمخطط العمراني، في ظل إقدام الكثير من السكان على اللجوء إلى حلول ترقيعية بحثا عن وضعية من شأنها أن تشفع لهم بالإستفادة من برنامج إعادة الإسكان في إطار برنامج القضاء على السكن الهش، إلى درجة تحويل شرفات المنازل إلى غرف و حتى مساكن تأوي عائلة بأكملها، فضلا عن إقامة سكنات قصديرية فوق أسطح المباني الأصلية، و هي مشاهد أصبحت منتشرة بكثرة في كل أحياء المدينة القديمة.
بالموازاة مع ذلك فإن مشكل عدم توفر العقار ألقى بظلاله على المخطط العمراني لمدينة عنابة، من أجل إنجاز شطر من المشاريع الكفيلة بتلبية مطالب آلاف المواطنين بخصوص السكن، الأمر الذي جعل السلطات المحلية تعمد إلى مواصلة العمل بنظام الترحيل إلى مدن و بلديات مجاورة، لأن عنابة إتخذت من البوني مركز كمقر للترحيل في سبعينيات القرن الماضي، لكن تزايد الطلب على السكن زاد من حدة الأزمة التي أصبحت مقترنة بمشكل العقار، لأن الأكواخ القصديرية إنتشرت كالفطريات في العديد من المناطق، منها بوخضرة، سيدي حرب، سيدي سالم و الشعيبة، الأمر الذي تسبب في تشويه النسيج العمراني، بإنتشار مظاهر الترييف، على خلفية إقدام السكان على تربية المواشي في المحيط الحضري، و عليه فقد كانت الحلول الميدانية باللجوء إلى إستحداث مناطق للتوسع العمراني، وجهت بالأساس للقضاء على القصدير و السكن الهش، كما كان عليه الحال في ثمانينيات الألفية المنقضية بحي بوخضرة، و في السنوات الأخيرة بمناطق الشعيبة، العلاليق، بوزعرورة و الزعفرانية، قبل أن يتم إستحداث قطب حضري جديد بضاحية بوخضرة 3 التابعة إداريا لبلدية البوني، في الوقت الذي تم فيه توجيه تحصيصات عقارية تم إنشاؤها على مستوى المناطق الجبلية بمرتفعات سيدي عيسى و طريق سيرايدي لإنجاز سكنات فردية فاخرة، مادامت تكلفة الإنجاز باهظة.
بالموازاة مع ذلك فإن المرحلين إلى الأقطاب الحضرية الجديدة ما فتئوا يصطدمون بعديد المشاكل، كما كان عليه الحال في الشعيبة، بوخضرة 3 و الزعفرانية، حيث تم توزيع السكنات دون إتمام الأشغال المتعلقة بالربط بشبكتي الغاز و الماء، الأمر الذي زاد من معاناة السكان، بصرف النظر عن أشغال تحسين المحيط الحضري، لأن العمارات تبقى محاصرة بأكوام الأتربة و مخلفات مواد البناء، و هي النقطة التي كان أعضاء المجلس الولائي قد أثاروها في دورتهم شهر سبتمبر المنصرم، مما جعل السلطات المحلية تشترط إنهاء كل الأشغال، بما فيها تلك المتعلقة بالمحيط الحضري قبل استلام السكنات و توزيعها على المستفيدين منها.
و في سياق ذي صلة فإن معاناة المرحلين الجدد إلى مناطق التوسع العمراني أخذت أبعادا أخرى في ظل عدم توفر وسائل النقل، إذ أنه و بإستثناء ضاحية بوخضرة 3 فإن باقي التجمعات السكنية المستحدثة لم يتم ربطها بخطوط نقل حضرية أو شبه حضرية، على إعتبار أن مديرية النقل بالولاية تبقى بصدد وضع أخر الروتوشات على مخطط النقل الجديد الذي سيتم إعتماده بمدينة عنابة و المناطق المجاورة لها، ليبقى الإشكال متواصلا إلى إشعار آخر، و لو أن الجمع بين مرحلين من القصدير من مختلف الأحياء في المنطقة السكنية أو حتى في نفس العمارة قد إنعكس بصورة مباشرة على يوميات المواطنين في أحيائهم الجديدة، لأن الكثير من السكنات تبقى شاغرة، في إنتظار تأجيرها، بينما تتخذ الغالبية من التجمعات السكنية الجديدة مراكز و مقرات للإيواء فقط، مع تفضيل قضاء أوقات الفراغ في الأحياء الأصلية على مستوى المدينة القديمة.
من جهة أخرى فإن مشروع المدينة الجديدة بقرية ذراع الريش التابعة إداريا لبلدية وادي العنب يبقى قيد الإنجاز و الآمال معلقة عليه لتخليص الولاية من مشكل السكن، رغم أن الإشكال المطروح يكمن في ما مدى تجاوب سكان عاصمة الولاية مع برنامج الترحيل المسطر على المديين القصير و المتوسط، لأن هذه المنطقة تبعد عن مدينة عنابة بنحو 50 كلم، و مطلب الإستفادة من سكنات منجزة ببلديتي البوني و عنابة يبقى متواصلا، و ذلك بسبب المخاوف من تكرار سيناريو باقي مناطق التوسع العمراني، سواء مع مشكل النقل أو الربط بشبكات الماء، الغاز و الصرف الصحي. صالح فرطــاس
البروفيسور أحسن بن ميسي
اعتبر البروفيسور المتخصص في التهيئة العمرانية بمعهد تسيير التقنيات الحضرية على مستوى جامعة قسنطينة 3، أن المدن الجزائرية التي أنجزت بعد الاستقلال فاشلة، وأنتجت خليطا عمرانيا من الأحياء الفوضوية والحضرية التي لم تحقق نتائج في احتواء الكثافة السكانية.
وأوضح المتحدث بأن المدينة الجزائرية التي ظهرت بعد سنة 1967، أهملت الهوية الاستعمارية والعربية القديمة، بعد أن أصبح جزائريون يقومون بتخطيطها وإنجازها، وأشار إلى “أننا لم نحسن تخطيط مدننا”، ما نتج عنه خليط عمراني غير متناسق، مثلت فيه الأحياء الفوضوية والعشوائية أكثر من 60 بالمئة، بالرغم من أن السلطات قامت ببناء مناطق تحمل طابعا حضريا، إلا أنها أهملت الأحياء الفوضوية وغير القانونية التي كانت تبنى بطرق مخالفة للقانون والمعايير، مرجعا السبب إلى عدم امتلاكها لآليات التحكم في المشكلة، التي نجمت عن الفقر ولجوء المواطنين إلى استحداث أحياء حسب قدراتهم المادية.
وأضاف المتحدث أن الأحياء الحضرية التي تم اشتقاق أسلوبها من مخطط باسكال الفرنسي، فشلت في تحقيق النجاح الذي لاقاه نفس المخطط في فرنسا، حيث قال بأن المشكلة لا تكمن في العمارات التي بنيت بالمدن، وإنما في المرافق المجاورة كالحدائق والملاعب الجوارية، إذ أشار المتحدث إلى أن أنه رغم مرور أزيد من 40 سنة على ظهور المدن الجزائرية الجديدة، لم تنته بعد عمليات إنشاء المناطق الحضرية المحيطة بالعمارات، وأرجع سبب ذلك إلى النمو المتزايد للكثافة السكانية، الذي جعل الأولوية للإسكان على حساب تهيئة محيط العمارات، ما أدى إلى ظهور انعكاسات اجتماعية سلبية على القاطنين بهذه الأحياء. سامي حباطي
تنفرد الجزائر العاصمة بتزاوج الأنماط العمرانية الموروثة عن العهدين العثماني والاستعماري وكذا البناءات الحديثة، وماتزال الأحياء العتيقة بقلب المدينة تحتفظ بطابعها الجمالي وأزقتها الضيقة، إذ يخال من يزورها لأول مرة وكأنه أمام متحف مفتوح على الهواء، لكنه سرعان ما يصطدم بصورة مشوهة لأحياء تتناطح فيها البنايات، ويغيب عنها الانسجام والتناسق.
كلما اقترب الزائر إلى قلب العاصمة، شد انتباهه الجمال العمراني الذي تتميز العمارات والمباني التي اكتست باللون الابيض، تعلوها تماثيل فنية وزخارف وفسيفساء تعكس الحقب التاريخية التي مرت بها مدينة سيدي عبد الرحمان، وتعد شوارع العربي بن مهيدي وزيغوت يوسف وديدوش مراد وساحة الشهداء وصولا إلى حي القصبة التاريخي، خزانا لهندسة معمارية فريدة من نوعها، جعلت العاصمة تنافس أكبر المدن المتوسطية من ناحية الإرث العمراني، الذي ما يزال يبحث عن أيادي مختصين لصيانته من الاندثار، فقد اقتصرت أشغال الترميم على عمارات محاذية لمقرات رسمية، على غرار البرلمان، دون أن ترقى إلى إعادة الاعتبار لمباني تاريخية، ظلت تقاوم على امتداد قرون تقلبات الزمن، منها مدينة القصبة العتيقة الذي تحولت بعض مبانيها، أو ما يعرف لدى سكانها «بالدويرات»، إلى ما يشبه الأطلال، وتلتقي أحياء قلب العاصمة في الحركة الدؤوبة والحيوية الدائمة، لكونها تشكل وجهة يومية كل عاصمي وكل زائر للمدينة، للتمتع بجمالها ولقضاء بعض الحاجيات، أو التجول في أسواقها الشعبية ومحلاتها، فمن منا لا يعرف ساحة الشهداء و"زنقة لعرايس" وباب عزون وجامع اليهود، وجامع كتشاوة، الذي ترممه أنامل تركية، وتلك الأزقة الضيقة التي تمتد إلى أعالي العاصمة، التي تزينها محلات الحرفيين والصناعات التقليدية، والمنازل التي تذكرك بالعهد العثماني، وكذا حي باب الوادي الشهير، وأحياء عين البنيان البحر، واسطاوالي وشراقة التي تعانق البحر، وصولا إلى زرالدة.
وغير بعيد عن قلب العاصمة تمتد بنايات جميلة غير مرتفعة تحيط بها الحدائق الغناء، الموروثة عن العهد الاستعماري، وتعد أحياء المرادية والقبة وحيدرة وجزء من حي حسين داي والمدنية لوحات معمارية قمة في الجمال، تجاورها أحياء شعبية تملؤها منازل متراصة أمام بعضها البعض، كانت فيما سبق أحياء يقطنها المعمرون ما تزال الكثير منها تحتفظ بأسمائها القديمة، وبجانبها أنشأت مجمعات سكنية جديدة التي أنجزتها الدولة لامتصاص أزمة السكن، وكذا المرحلين من الأحياء الهشة والقصديرية، ومن أقدمها أحياء عين النعجة وباب الزوار والحياة، التي تحولت مع مرور السنوات إلى مدن، غير أن افتقارها إلى المرافق والهياكل الضرورية، على غرار مراكز التسلية والترفيه، والفضاءات المفتوحة للترويح عن النفس أو ممارسة الرياضة، جعلها عاجرة عن الرقي إلى مصاف المدن الحديثة.
ورغم أن الترحيل إلى مسكن لائق رفع الغبن عن المئات من الاسر العاصمية، عقب نقلها إلى أحياء جديدة بنيت على أطرف المدينة، فإن نمط العيش في حي عتيق بما يحمله من ميزات منفردة، جعل تلك الاسر تحن إلى العلاقات الحميمية التي كانت تربط بين الجيران، وإلى روح التآزر والتضامن والمحبة التي كانت تجمع بين الاسر في السراء والضراء، وهي مظاهر غابت إلى حد ما عن الأحياء الجديدة، ذلك أن جمع مرحلين من أحياء مختلفة في حي واحد أدى إلى ظهور بعض الحساسيات، تحولت في كثير من الحالات إلى اشتباكات، وزادها سوء عدم تخلي الكثير من قاطنيها عن بعض العادات السيئة، كتشويه واجهات العمارات بالهوائيات والغسيل والستائر، في ظل الغياب شبه الكلي للسلطات المحلية، أو ما يعرف بالشرطة البلدية.
كما شهدت العاصمة في فترة التسعينات توسعا عمرانيا من الجهة الغربية، من خلال تشييد مشاريع عدل، وكذا مجمعات سكنية راقية على غرار درارية والعاشور ودالي ابراهيم، التي تنتشر بها المنازل الفاخرة، والمباني المرتفعة، ورغم اعتماد الاسلوب الهندسي الحديث، إلا أن غياب الانسجام والتناسق حرمها من الصفة الجمالية التي تميز أحياء وشوارع قلب العاصمة، التي تلتقي عند نمط عمراني واحد، ما جعلها على غرار الكثير من المدن الجزائرية متضررة مما يعرف بفوضى العمران. لطيفة/ب
الباهية تحت سيطرة الفوضى
خصصت الدولة ميزانية قدرها 14 مليار أورو من أجل جعل وهران مدينة متوسطية، من خلال مشاريع تنموية مختلفة لمواكبة الظروف المعيشية بها مع نظيراتها في الضفة الثانية للمتوسط وهذا ضمن برنامج تنموي يمتد لغاية 2025.
وإضافة للسكن الذي يأخذ حصة الأسد، يندرج أيضا في هذا الصدد عدد من المشاريع لتغيير ملامح الباهية، منها الحديقة الحضرية بمنطقة سيدي امحمد التي ستحافظ على مقام هذا الولي الصالح وتغرس حديقة من الصنف الراقي مرفوعة فوق هضبة «ليفاليز» المطلة على البحر مباشرة، حيث ستتربع هذه الحديقة على مساحة قدرها 25 هكتارا وبغلاف مالي يبلغ 350 مليون دج. و»المارينا» مشروع آخر سيدخل وهران لحظيرة العواصم المتوسطية حسب المسؤولين الذين قرروا أن ينجزوا مينائين للنزهة بمنطقة عين الفرانين قرب الحديقة الحضرية، وميناء ثان في منطقة مداغ غرب الساحل الوهراني القريبة أيضا من السواحل الإسبانية تفصلها عنها جزر الهابيباس.
أما المشاريع التنموية، فهي اجتماعية من خلال البرنامج الكبير للسكن، وتوسيع مسار ترامواي ومشروع الميترو، إلى جانب التهيئة وتحسين ظروف المعيشية للمواطن بربطه بالغاز الطبيعي وقنوات الصرف الصحي والإنارة العمومية، وكذا تزفيت الطرقات وتهيئة الأرصفة وغيرها من الأشغال التي لم تتقدم بالشكل المطلوب لحد الآن.
الباهية تدفن عمرانها الثراثي وتنتقل للأحياء المراقد
وهران.. إسم لم يتغير منذ 11 قرنا ليحافظ على كل مكونات هذه المنطقة التي شيدت سنة 300 هجري، من طرف قبيلة مغراوة التي يقال أنها من البحارة الأندلسيين الذين كانوا يتصلون بقبائل النفزة ومزغن البربرية التي كانت تقطن فوق ربوة محصورة بين البحر والوادي، وهي المكان الذي يسمى لحد الآن أيضا برأس العين.
ومنذ الاستقلال أصبحت وهران منطقة استقطاب لسكان الجزائر من مختلف الأنحاء، مما جعلها تتوسع عمرانيا ولكن بنمط هندسي فوضوي، حيث جاورت البيوت القصديرية تلك الأحياء العمرانية الجميلة التي تركها المعمرون، ولكن لم تكن الحدة قوية مثلما حدث خلال العشرية السوداء، حيث شهدت الباهية زحفا كبيرا لكل المواطنين الهاربين من دواويرهم خوفا من الإرهاب، فلم يسعهم النسيج العمراني الذي كان موجودا، فاستقروا في جيوب عقارية خارج المدينة منها مجمع النجمة الذي يضم حاليا أكثر من 80 ألف نسمة ومجمع سيدي البشير ب 120 ألف نسمة و مجمع العين البيضاء كذلك ب 100 ألف نسمة ومجمع كوشة الجير بأكثر من 40 ألف نسمة، وغيرها من الأماكن التي طغى فيها القصدير والسكنات المشوهة للعمران على الوضع ، وأصبحت هذه المجمعات أوكارا للجريمة والإجرام ومختلف الآفات الاجتماعية، وتختلف تركيبتهم الاجتماعية عن سكان البناءات الهشة في أحياء الحمري ومديوني والمدينة الجديدة وسيدي الهواري و البلانتور كون هذه الأخيرة تضم سكان أصليين للمدينة.
ورغم أن المشاريع الجديدة التي برمجت منذ العشرية الأخيرة، ساهمت في التخفيف من الأزمة السكنية ومن التشويه العمراني الذي كان سائدا، إلا أن القصدير رفض مفارقة المدينة، حيث بمجرد القضاء على بقعة قصدير تنمو بقعة أخرى، ولا زالت عشرات بيوت الصفيح تنتظر ترحيل قاطنيها لاستكمال إنجاز مشاريع مستشفيات متخصصة بحي فلاوسن، بينما يتوسع الحي القصديري الجديد الذي أنشئ فوق مستنقع للمياه القذرة ببلدية سيدي الشحمي، ولازالت بيوت قصديرية تحتمي بجدار المقبرة المسيحية لقتلى الحرب العالمية الثانية بحي الضاية، و استعصى كذلك اليوم حل معظلة العديد من الأحياء الفوضوية التي تحولت لمجمعات كبيرة.
وأمام هذا المنظر المشوه للمدينة، تتوسع وهران الجديدة فوق أوعية عقارية شرق الولاية، كانت لوقت قريب مناطق عذراء سياحية تجمع بين زرقة البحر و اخضرار سفوح جبل الأسود مثل منطقة بلقايد التي ستكون قطبا سكنيا جديدا يخرج آلاف العائلات من النسيج الحضري إلى نسيج آخر تزاحمت فيه العمارات بمختلف الصيغ، وتوسعت بلدية قديل أيضا لتأوي رفقة بلدية وادي تليلات الآلاف من العائلات القادمة من السكنات الهشة التي تركت ركامها يدفن الماضي الحضاري لوهران.
هل ستكفي 99 ألف وحدة سكنية لاسترجاع الباهية؟
وجاء قرار وزارة السكن الأخير ليعلن عن طريق الأمين العام منذ أشهر، أنه سيتم تحويل برنامج سكني يضم 3000 وحدة كان مقررا تجسيدها ببلدية الكرمة إلى بلديتي بطيوة ووادي تليلات، وبهذه الأخيرة تم العام المنصرم إلغاء مشروع بـ 4 آلاف سكن بسبب طبيعة الأراضي الفلاحية، بينما مشروع الكرمة جاء بتبرير أن الأرضية جوفاء وغير مناسبة. كما أعلنت الوزارة أيضا عن تخصيص الأوعية العقارية المسترجعة بعد عمليات ترحيل قاطني السكنات الهشة للامتياز، وهذا ما يعيد للأذهان المشروع القديم لتجسيد مناطق سياحية بامتياز في سفح المرجاجو وهذا بشراكة أجنبية، على رأسها استثمارات خليجية لتشييد مركبات ومنتجعات سياحية ذات نوعية راقية.
بالمقابل يجري حاليا منح بعض العقارات التي رحل أصحابها لإنجاز سكنات ترقوية بأحياء الحمري ومديوني والمدينة الجديدة، فلا يمكن للمتجول في هذه الأحياء العريقة أن لا يرى الصعود السريع للأبراج والمساحات التجارية الكبرى التي أصبحت تزاحم النسيج القديم للعمران مما جعل المنظر مشوها ولا يوحي بالمحافظة على تاريخ وتراث المدينة ولا يعطي الإنطباع بعمران عصري متناسق.
وبهذا الخصوص فقد شهدت سنة 2014 أكبر عمليات الترحيل في إطار المخطط الإستعجالي للقضاء على السكن الهش، مست آلاف العائلات التي انتقلت من بناءات كانت شاهدة على تلك العهود القديمة خاصة الفرنسيين والأتراك، نحو سكنات جديدة أغلبها خارج مدينة وهران أي بالبلديات المجاورة، حيث تنقلت 3404 عائلة نحو وادي تليلات وقديل في إطار عمليات إسكان أصحاب الإستفادات المسبقة، كما تواصلت عمليات ترحيل سكان حي الصنوبر ضمن حصة 11 ألف سكن المخصصة لهذا الحي العريق الذي يقطن أغلب ساكنيه كهوفا حفرت في سفح جبل المرجاجو جعلتها هذه العائلات منازل لها على مدار عقود من الزمن. كما برمجت ولاية وهران 10 آلاف وحدة سكنية من صنف الاجتماعي الإيجاري. وينتظر أن تتواصل هذه العمليات في 2015 بعد انتهاء مشاريع تقدر إجماليا ب 99 الف وحدة سكنية لإخراج وهران من أزمتها.
رئيس المجلس الشعبي الولائي:
قال رئيس المجلس الشعبي الوطني، عبد الحق كازي ثاني، أن مشروع «وهران حضيرة متوسطية» أو وهران ميتروبول، يعود لسنوات الثمانينات، ولكن تجسيده تأخر حوالي 20 سنة بسبب الظروف الأمنية التي مرت بها البلاد، وأعيد بعثه من خلال البرامج التنموية المندرجة ضمن المخططات الخماسية التي أقرها رئيس الجمهورية، حيث مكنت هذه المشاريع من جعل وهران قطبا متميزا في العديد من المجالات. مؤكدا أن وهران اليوم ورشة مفتوحة في جميع القطاعات، وهذا طبيعي جدا كونها مدينة تزخر بساحل يصل ل 120 كم وتتربع فوق مساحة تقدر ب 200 ألف كم مربع، وتجمع حولها 26 بلدية ملتصقة بها.
هذه العوامل وبالنظر للأهداف المسطرة، حسب رئيس «الأبيوي» فالتنمية موجودة ولكن بشكلها العصري، ويتجسد ذلك في مسار الترامواي الموجود حاليا على طول 18 كم وسيتوسع شرقا وغربا وجنوبا ليصل طوله لغاية 53 كم في غضون 2017، إلى جانب الميترو الذي إنتهت الدراسة الخاصة به والذي سيربط أقصى غرب المدينة بأقصى شرقها بطول قد يتجاوز 18 كم، وكذا مشروع المطار الدولي الذي تقدمت أشغاله لتستقبل وهران 4 ملايين مسافر سنويا. وغيرها من المشاريع التي ستنعش كذلك النشاط السياحي بالولاية.
أما من الناحية العمرانية وتفاديا لبعض الأخطاء المرتكبة سابقا في إنجاز الأحياء الجديدة التي هي «أحياء مراقد» تقريبا، أوضح المتحدث أن القطب الجديد للتوسع العمراني والذي سيكون في الجهة الغربية للولاية ب 200 ألف سكن، سينجز بمقاييس المدن المتوسطية ذات الخصوصيات الراقية في كل المجالات الحياتية، وفي هذا الإطار تمت استشارة جمعية باريس للهندسة، وهي التي أنجزت الدراسة المتعلقة بتحديث أحياء باريس. والإستشارات متواصلة مع خبراء لتحقيق هذا المشروع النموذجي.
ومن بين المشاكل التي رصدتها مختلف لجان المجلس الولائي من خلال خرجاتها الميدانية المتواصلة على مدار السنة، سرد كازي ثاني 3 محاور كبرى هي، السكن الذي حسبه يبقى القضاء على الأحياء الهشة التي تشوه منظر المدينة من أولوياته لهذه السنة.
أما بالنسبة لرئيس الهيئة الولائية المنتخبة، فإن المشكل العويص حاليا هو تسوية العقار الذي يسير بخطى متثاقلة ولا يمكن تركها تواصل بهذا الريتم و إلا فإن الثلاثة سنوات التي أضافتها السلطات العليا كتمديد للعملية لن تكفي للوصول لنتيجة.
وركز كازي ثاني على ضرورة تكثيف التوعية والتحسيس بأهمية هذه العملية، مشيرا بأن المجلس الولائي نظم مؤخرا يوما دراسيا خاصا بكيفية التعامل مع هذا الملف، لأن تسوية الوضعية العقارية للسكن تزيح العديد من العراقيل التنموية بالولاية، بينما شدد المتحدث على أن أكبر مشكل رصدته لجان المجلس هو التهيئة التي تغيب عن أكثر من 400 حي منها أحياء لازالت تعتمد على الطرق البدائية في حياتها اليومية مثل المطامر عوض قنوات الصرف الصحي و انعدام الغاز الطبيعي وغيرها من الضروريات التي لا يمكن لوهران أن ترتقي لحضيرة متوسطية دون توفيرها لكل ساكنتها، مبرزا أن الوتيرة الحالية للتعامل مع هذا المشكل والمقدرة بـ حوالي 20 حيا سنويا، وتيرة ضعيفة و قد تساهم في تأخر الهدف الأساسي للمتروبول لـ 20 سنة أخرى، مثله مثل الإشكال القائم في بعض المناطق المحاذية للسبخة خاصة، وهو الفيضانات التي أصبحت هاجسا يعود كل شتاء ويؤرق السكان والمسؤولين على حد السواء، ولكن مثلما أضاف رئيس «الأبيوي» فإن الإجراءات اتخذت للتكفل به وسيتم وضع حد لهذه المياه المتدفقة في القريب.
درويش بلاحة مختص في العمران
قال الأستاذ درويش بلاحة الذي كان رئيسا مديرا عاما لمكتب الدراسات والإنجاز العمراني «إيرسا»، أنه عندما ظفرت هذه الهيئة بالمناقصة الوطنية لدراسة وإنجاز المخطط التوجيهي للتهيئة والعمران لولاية وهران سنة 1994، كانت فكرة المدينة المتوسطية قائمة.
وأوضح الأستاذ أنه عند إنجاز أية مخطط توجيهي للعمران لأية منطقة يجب الأخذ بعين الاعتبار التركيبة الاجتماعية لها، ويجب إشراك كل الفاعلين في كل المجالات الحياتية لأن «المدينة هي قضية الجميع»، مركزا على أنه اليوم دور المجتمع المدني هو الأقوى في الحلقة. ومن أجل تجسيد هذا المخطط التوجيهي الذي أشرف عليه قال أنه أنشأ 14 ورشة تشمل كل الاختصاصات المطلوبة و انتهى العمل سنة 1998.
و أشار الأستاذ أن هذا العمل عرض خلال ملتقى دولي آنذاك بمدينة «البندقية» الإيطالية ونال إعجاب العديد من الخبراء، لكن المخطط لم يجسد كما خطط له بل كما أريد له أن يتجسد من طرف المسؤولين المتعاقبين على الولاية حسب الخبير العمراني الأستاذ درويش، الذي شرح لنا هذا العمل مركزا أن المخطط التوجيهي لوهران يقترح أن يكون توسع النسيج العمراني بشكل نصف دائري تقريبا نحو الجنوب متتبعا مسار المحاور الطرقية الإجتنابية الأربعة التي وضعت آنذاك والمجسدة حاليا في الواقع، لكن العمران لم يتجسد مثلما تم التخطيط له لأن مسؤولي قطاع الفلاحة آنذاك رفضوا المساس بالعقار الفلاحي في المناطق المقترحة للتوسع العمراني، وبالتالي تم تعديل المخطط ليتجه العمران نحو الجهة الشرقية للولاية، مضيفا أن هذا ما كلف تحمل أمور لم تكن في الحسبان. فمثلا تم خلق أحياء لم يسكنها المستفيدون، لأنها لم تكن مرفوقة بمحيط معيشي مواكب للذي كان يتعامل معه السكان سابقا.
وأعطى المختص في العمران مثالا عن أعرق وأعقد تركيبة اجتماعية في وهران، وهي بحي الصنوبر أو «البلانتور»، حيث قال أن «إيرسا» درست هذا الواقع منزل بمنزل وتعرفت على كل الخبايا، وكان من المفروض أن يتم ترحيل العائلات في أماكن توفر لهم نفس النسق البيئي الذي كانوا يتعاملون معه، ولكن نقلوا لعمارات لم تكن مبنية بالشكل الذي يجعلهم مستقرين بها، والدليل حسب الأستاذ هو أن الأغلبية الساحقة من الذين تم ترحيلهم باعوا السكنات وعادوا ليكونوا أحياء شبه قصديرية غير بعيد عن أحيائهم الأصلية في سفح جبل مرجاجو، وركز في هذا الصدد على أن عملية ترحيل السكان ليست بمعنى نقل أشخاص من سكن إلى آخر أحسن منه، بل هي تحويل سوسيولوجي لتركيبة مجتمعية، فالعمارات التي تنجز حاليا لا توفر للمواطن ذات الجو الذي كان يعيش فيه ولا تأخذ بعين الاعتبار حاجياته ومتطلباته اليومية ليس فقط المرافق ولكن حتى داخل الشقة الواحدة.
بالإضافة لذلك يتساءل الأستاذ عن عدم متابعة الهيئات المسؤولة على السكنات الموزعة، للمرحلين الذين يعيدون بيع الشقق أو للذين يستغلون الفضاءات الخارجية لإنشاء إضافات عمرانية قصديرية لمنازلهم خاصة الذين يسكنون في الطابق السفلي، ولعل حي الياسمين أحسن عينة على التشوه الحاصل في الأحياء الجديدة.
كما يقول الأستاذ أن توزيع القطع الأرضية الاجتماعية في وقت مضى، أنتج تشوها عمرانيا لأن المستفيدين منها هم من الطبقات المتوسطة استطاعوا شراء الأراضي ولكن عجزوا عن إكمال بنائها، والملاحظ حسبما أوضح الأستاذ درويش هو وجود أحياء بسكنات متباينة تسبب تلوث في الجمالية البيئية.
ولا يمكن حسب الأستاذ درويش الحديث عن مدينة جديدة لأن وهران ليست مدينة كبيرة جدا كي نلجأ لمدينة جديدة لتخفيف الضغط عنها، مشيرا أنه علميا و لخلق مدينة جديدة يجب أن تكون بعيدة عن المدينة الأولى على الأقل بـ 60 كم، حتى لا نبني مدينة مرقد، بمعنى كلما كانت المدينة الجديدة بعيدة إلا وسيستقر فيها سكانها ويعملون فيها ويجدون فيها ما يحتاجونه عوض التنقل يوميا للمدينة القديمة من أجل العمل أو قضاء حاجياتهم، من جانب آخر، فالمدينة الجديدة تكون ناتجة عن مدن يفوق عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وهذا لا يتوافق مع وهران التي لا تتعدى مليون نسمة في المدينة و2 مليون نسمة في الولاية.
وأكد في ذات السياق، أن القطب الجديد المبرمج إنجازه جنوب غرب الولاية ب 200 ألف سكن، يجب أن يدرس جيدا حتى لا تتكرر التناقضات والتشوهات التي تعرفها الأحياء الجديدة. هوارية ب
رئيس المجلس الوطني للهيئة الوطنية للمهندسين المعماريين جمال شرفي
لماذا نجد العمارة القديمة أكثر تنظيما وتناسقا مما نراه اليوم؟
غالبية المدن كانت تخضع لنظام مبني على احترام قواعد البناء، كان هناك أحياء للفيلات التي بها حدائق لا يسمح فيها ببناء عمارات ومناطق تسلسل للتجهيزات ومرافق وبنايات جماعية ، البناءات الفردية كانت تخضع لمخطط التعمير وقواعد مضبوطة ومفروضة بقوة القانون، المهندس كان له دور محوري في العملية التعميرية.
هل الحاجة إلى السكن الاجتماعي من أسباب الفوضى العمرانية؟
السكن الاجتماعي أتى ضمن ما يعرف بمخطط ديغول ثم مارشال، لكن ظلت المدن مهيكلة، طريق رئيسي و أرصفة واسعة وطرق فرعية، الأمر كان يدار بشكل منظم لوجود إدارة خاصة تشرف على تنفيذ مخططات التعمير تابعة للبلديات، بحيث منع البناء دون مخططات المهندس الذي كانت له مهام واضحة.
لكن يرى المؤرخون أن النزوح الذي أعقب الاستقلال أربك السلطات وكانت له تبعات عمرانية وخيمة بداية من 62 عرفت المدن نزوحا كبيرا للدراسة والعمل ،ما أدى إلى اكتظاظها وظهور أزمات سكن تفاقمت في التسعينات، ما تطلب إنجاز برامج سكنية خاصة كان الهدف منها إيجاد حل للأزمة بعيدا عن التخطيط العمراني في ظروف إستعجالية ترتبت عنها الكثير من الأخطاء، وهي فترة عرفت انتشار البناء القصديري حول المدن، ليتفشى البناء دون ترخيص.
يبدو أن تلك الفترة عرفت انسحابا تاما للجهات التقنية
لم تكن هناك قوانين لإلزامية التوجه إلى المهندس المعماري، كما أن الهاجس آنذاك كان إيجاد سقف لا سكن وبحلول العشرية السوداء أصبح من الصعب التحكم في عمليات البناء والتوسع العشوائي للمدن.
وتعقد الأمر مع الأزمة الاقتصادية وما تلاه من غياب لإمكانات إنجاز برامج سكنية، ما جعل الدولة تتخلى للمواطن عن مهمة التعمير ليبني بكيفياته.
هناك من يعتبر عمليات تسوية البناء الفوضوي من أهم أسباب انتشاره
أول عملية تسوية كانت سنة 1985، ما شجع على الفوضى، لأن المواطن أصبح يكتفي بشراء قطعة أرض بطريقة غير قانونية أو الاستيلاء على أراضي الدولة، وبتزايد النزوح خلال الأزمة الأمنية وفي ظل إفلاس الدولة ظهر ما يسمى بمافيا العقار استولت على أراضي الدولة والأراضي الفلاحية، كما تم اعتماد ما يسمى بالتحاصيص كخيار لأزمة السكن، لكن ذلك الأسلوب كان بدفاتر شروط مفرغة من محتواها ما جعل مئات الآلاف من السكنات تنشأ بهندسة مشوهة وشكلت ما يشبه الأحياء القصديرية المقننة.
أي أنه يتم الاكتفاء ببناء الداخل دون الاهتمام بخارج البناية وعدم إتمامها في أغلب الحالات، وذلك أتى بنتيجة كارثية على العمران.
برأيكم لماذا لم توفق محاولات القضاء على العشوائية في العمران؟
فترة الرخاء التي تعرفها الجزائر منذ سنوات كان من الصعوبة معها الاهتمام بالعمران قبل حل أزمة سكن خانقة فجاءت فكرة بناء مدن جديدة مع برامج سكنية ضخمة، بداية من الخماسي 2005 /2009 بمليون سكن ، ثم برنامج 2010 /2014 ب2.2 مليون سكن، مع خلق مدن كبرى كعلي منجلي عين نحاس حاسي مسعود بوقزول .
حتى المدن الجديدة وصفت بالتجربة الفاشلة والخطأ التعميري الفادح
هي مدن لم يتم التحكم فيها، مثلا «بوقدول» كانت فكرة عاصمة سياسية ثم مدينة، التخطيط لم يكن ممنهجا وبحجة انعدام مؤهلات جزائرية منحت في تلك الفترة مشاريع المدن الجديدة لمكاتب دراسات كورية، والنتيجة ما نراه اليوم، عادة المدينة بها أبعاد سوسيولوجية وتاريخية وثقافية، وهي جوانب أسقطت من الدراسات لأنها أعدت من وراء مكاتب تقع في سيول رغم أنه لا يمكن وضع عمارة حديثة دون المحافظة على الهوية.
اللجوء إلى الخبرة الأجنبية اعتبر جزء من الحلول و من كلامك نفهم أنه خطأ
نستعين بمكاتب أجنبية لأن لدينا عقدة، سنة 2013 عرفت إعادة مراجعة سياسات المدن الجديدة وتم التوصل إلى انه ليس كل ما هو أجنبي معناه دراسة جيدة. قبل 2012 كان اهتمام المسؤولين بداية من الحكومة إلى المدير التنفيذي الوصول إلى نتائج بغض النظر عن الطريقة، الوسائل والسياسات كانت فاشلة لهذا السبب، بدليل أن دائرة المدينة لم تنتقل إلى وزارة السكن إلا في 2012.
تقصد أن وزارة السكن لم تخطط بالشكل المطلوب وأهملت مفهوم المدينة كنسق عمراني؟
لا يمكننا أن نحمل وزارة السكن مسؤولية الهفوات والكوارث التعميرية، لأن حلقة المدينة كانت مفقودة ضمن دائرة صلاحياتها وأمامها تحديات كبرى هي، فك معضلة المدن القديمة ،تسوية البناءات الفوضوية ،إيجاد عقار لاستيعاب البرامج الضخمة الوصول إلى نوعية عمرانية والحفاظ على العمران، أي تحقيق معادلة الكم والكيف والهوية والبعد التاريخي.
برأيك هل يجب إعادة النظر في تصور المدن الجديدة؟
المدن الجديدة سياسة يجب أن تمر على الحكومة إي أن هناك مشكل قانون خاص، أما الأقطاب فمشاريع وزارية تكلف بها مديريات التعمير، لكن حلول المدن الجزائرية يجب أن تخضع لنماذج خاصة ولسياسة الأحياء المتكاملة والقضاء على المدن المراقد. يجب أن لا تكون مجرد وعاء لاستيعاب البرامج السكنية ،يجب أن تناسب الفضاءات المشتركة، وان تحمل صفة المدينة العمق، ولا تكون فقط صفة الاستثمار بل الإنتاج أيضا.. توفر فرص عمل، أي لا تكون مجرد مراقد على أن تعكس في عمرانها استيعاب هندسة عمرانية ذات عمق تاريخي وطني.
وهل هناك خطوات في هذا الاتجاه؟
رسالة الرئيس التي وجهها للمهندسين في مارس 2014 للحفاظ على الهوية المعمارية الجزائرية تضعنا أمام مسؤولية كبيرة رفضت السلطات سابقا ان تشركنا فيها و استبعدتنا.
أفهم أنك تريد أن تبرئ المهندس الجزائري من تلك الأخطاء؟
لم نشرك في تلك المراحل أين تمت الاستعانة بالأجانب ولسنا مسؤولين لا من قريب ولا من بعيد، في السنوات الماضية أين تم استقدام الأجانب لمخطط المدن، المهندس الجزائري أبعد وهو أمر غير منطقي لأن الجزائري مثلا لا يمكنه أن يصمم مدنا كورية مثلا.
هناك مآخذ على الكفاءات الجزائرية وعدم قدرة المهندس على الاشتغال على مشاريع ضخمة
لا يمكن التشكيك في الكفاءات الجزائرية ، هناك مهندسون برزوا في الخارج كدول الخليج و فرنسا و كندا .. لدينا جزائريون شاركوا في تصميم المخطط الإستراتيجي لباريس الكبرى، وكانت لآخرين مشاركات بارزة في ألمانيا.. هناك كفاءات وطنية لكن في المقابل هناك تعجيز.
أين يكمن التعجيز؟
دفاتر الشروط تعجيزية ولا تسمح بالبروز، إنجاز مدينة يتطلب مكتب دراسات لديه خبرة في المدن الجديدة وهو ما يحد من فرص التعبير عن الأفكار، وفي المقابل نجد منتوج أجنبي ذو نوعية رديئة.
لدينا مشاريع مدن جديدة أزلية كبوغزول، سيدي عبد الله و إيمدغاسن ، عمرها يزيد عن الثلاثين سنة، أين هي الآن ؟ كان هناك تكتم حول التخطيط ولا أثر للتخطيط ، كانت مجرد عقدة تجاه كل ما هو جزائري، ففي تلك الفترة التوجه نحو الأجنبي وفقط مهما كان مستواه، حاسي مسعود صممها كوريون ، نتساءل هل التخطيط بهذه الطريقة، هل ستنجز وفق خصوصيات المنطقة بيئيا وتاريخيا.
لكن هناك نمادج مدن كبرى في العالم ظهرت من العدم، كدبي مثلا وبكفاءات أجنبية؟
دبي خطط لها داخليا والرؤيا والسياسات كانت إماراتية وما حصل أنهم استعانوا بخبراء أجانب لنقل التكنولوجيا ، الآن هناك مكاتب دراسات إماراتية مائة بالمائة ، وشركات تطوير عقارية استقدمت كفاءات أجنبية من كل مكان في العالم .
لكن الجزائر حاليا تشهد مرحلة حاسمة في مجال الإنجاز وبرامجها السكنية تعد الأضخم في المنطقة والعالم
الجزائر أكبر مرق عقاري في العالم، لكن الخطأ الذي حدث هو أنه تم القضاء على وسائل الإنجاز العمومية ما بعد الأزمة الاقتصادية وما تبعها من حل وتصفية للمؤسسات، الجزائر بنت في الستينات بمقاولات جزائرية وبرأس مال ضاع فيما بعد، والآن وبعد الانتعاش وتحديدا بداية من 2003 تم إقرار برامج إستعجالية لم تراع فيها النوعية، الآن قضي على الأداة الوظيفية أي المقاولات الكبرى ، حتى في القطاع الخاص تم تسريح العمال ، زيادة على وجود مشكلة أخرى هو أنه لا يوجد فكر مقاولاتي في الجزائر هناك فكر أحادي فقط، ليس هناك شركات مهيكلة بنظام شركات.
وماذا يحول دون التكتل الهندسي في بلادنا؟
هناك عقم في القوانين ، سواء القوانين التي تعنى بالنوعية أو تلك المتعلقة بتسيير المشاريع و الأنماط العمرانية و التخطيط، مؤخرا هناك توجه نحو الإنتاج الوطني في إطار سياسة ترشيد الإنفاق للقضاء على تحويل العملة إلى الخارج ، ننتظر نصوص قانونية تمنح الفرصة لمعاجلة دفاتر شروط ، حيث تم تنصيب لجنة خبراء وطنية ودولية لمراجعة قانون التعمير 90 / 29 نريده أن يتجاوب مع متطلبات السوق الجزائرية والعمران الجزائري أيضا .
في تصوركم كهيئة للمهندسين كيف يمكن تحقيق عمارة جزائرية متكاملة؟
للوصول نحو عمارة خاصة بالجزائر وترقية المنتوج العمراني أولا يجب الرجوع إلى المنتوج الجزائري والثقة فيه ومنح المكاتب الجزائرية نفس المساحة التي تمنح للأجنبي، مع إعداد نصوص قانونية تعنى بترقية المنتوج المعماري والعمراني، كما يجب منح وقت أكبر للدراسات لأننا حاليا نمنح أهمية للإنجاز فقط، عندنا الدراسات ومهما كانت المشاريع تمنح لها مهلة أيام لا أشهر حتى.. ما يؤدي إلى دراسات مستعجلة، والسرعة تعني أخطاء لهذا نلاحظ أن جميع مشاريعنا تضاف إليها أشغال تكميلية وإضافية لعدم نضج الدراسات، وهو ما يسبب الأخطاء و الإنفاق الزائد وحتى تبديد المال العام.
سبق و أن طالب مجلس المهندسين بمراجعة أسعار الدراسات بالنسبة لمكاتب الدراسات
الاعتماد على الكفاءات الجزائرية سيجنب نقل الأموال إلى الخارج، الدراسات تمنح إلى أجانب بأسعار خيالية لان الأجنبي يعتمد على التفاوض والجزائري تطبق عليه أسعار متدنية جدا لم تتم مراجعتها منذ 88 ، ما يحصل عليه المهندس الأجنبي يعادل عشرة أضعاف ما يحصل عليه المهندس الجزائري، والأدهى أن من ينجز في النهاية جزائري لان الأجانب يتعاقدون مع مؤسسات ومكاتب جزائرية للإنجاز، ثم أن الصفقات تتم بالتراضي دون المرور على قانون المنافسة والإعلان، تحت مبرر الاستعجال مثلما حدث في حالة عاصمة الثقافة العربية.
النقطة الأهم أن اختيار مكاتب دراسات أجنبية يرفع الثلث الخاص بالتمويل الأجنبي للعملة.
هناك من ينتقدون منح المشاريع دارسة وإنجاز ويطالبون بالفصل بين الصفقتين
لا يمكننا الحديث عن النوعية في ظل منح المشاريع دراسة وإنجاز، لأن ذلك يجعل المهندس تابعا لمؤسسة الإنجاز لا متعاقدا مباشر مع صاحب المشروع، ما يعرضه للتهديد في حال وجه ملاحظات، كون المؤسسة لا تبحث سوى عن هامش ربح.
هذه التراكمات برأيكم كيف يمكن التخلص منها؟
كل هذه الأخطاء يجب تداركها بتعديل القوانين خاصة قانون الصفقات و كذلك يجب خلق إطار للمسابقات العمرانية والفصل بين الدراسة والإنجاز و الابتعاد عن صفقات التراضي لخلق منافسة ، وفي العمران يجب الفصل بين قانون المناقصة والمسابقة العمرانية، لان الأمر يتعلق بمهنة فيها إبداع، لا بد من إطار قانوني للتخلص من 50 سنة من الأخطاء.
وكيف يمكن التخلص من التمركز السكاني والتعمير العشوائي للمدن؟
يجب التوجه إلى خارج المدن لخلق توسع حضري مدروس و الابتعاد عن تكثيف المدن، لكن ذلك يجب ان يكون محددا عدديا وزمنيا، لخلق التوازن، لان المدن الكبرى كالقاهرة مثلا، نعجز نحن عن تسييرها، يجب التراجع عن فكرة «ميغابول» و»ميتروبول» لأن التوسع غير المحدود له أبعاد كارثية ، في حالة العاصمة هناك مخطط أراه غير قابل للتجسيد لأننا لا نملك البنى التحتية فنحن نملك أضعف شبكة ميترو في العالم مثلا.
والأهم يجب ترك المساحات التي تم إخلاؤها في عمليات الترحيل شاغرة و استغلالها كفضاءات للتنفس وإعطاء المدينة وجها آخر بإنجاز مساحات خضراء وخلق توازن بين الضاحية والمدينة. حاورته نرجس كرميش
روبورتاج: ياسمين بوالجدري