تخيل الحاضر السياسي من خلال الموروث الشعبي
• الدكتور مومني بوزيد
يعدّ العنوان العتبة الأولى للولوج إلى النص وفك شفراته العصيّة، إنه الصوت الأول في بوح النص، وتشظي الهوية أو الذات في روايات كمال قرور بارز واضح إذ يمكن أن نلمح الغربة النفسيّة التي تلف الذات المبدعة وهي تخط أولى عتبات النص، ففي رواية "حضرة الجنرال" يقفز العنوان ساهما ذاهلا، يؤشر على ذات أنهكها الصمت، وأتعبها البوح!! ذات تتردد بين نقطة تشدها أقصى اليمين ونقطة تشدها أقصى الشمال.
إن عنوان "حضرة الجنرال" يشير إلى جثة الذات المرمية التي تصارع عبثا بحرًا قويا يفتُّ من قواها، إنها تمنح لنفسها الأمل وسرعان ما تخنقه سريعا بيديها، وهي تقدم للرواية مقطعا من كلام أفلاطون: "إذا انحرفت الأرستقراطية وتحوّل أبناؤها إلى إيثار الثروة على الشّرف تحوّلت إلى الأوليغارشية(Oligarchie) /حكم القلة التي لبابها جعْلُ الثروة أساس الجدارة وهو إثم فظيع".
ثمّ يستند إلى قول أرسطو: "الأرستقراطية حكومة الأقليّة الفاضلة العادلة، إلا أن الأوليغارشية فساد طبيعي لها".
وأخيرا يحتكم إلى ابن المقفّع في قوله: "وأمّا ملك الهوى، فلعب ساعة ودمار دهر".
إنها مقدّمات واقعية تميل إلى السوداوية، وتغرق في بحر اللّامكان واللّازمان، وتطير إلى أفضية صنعتها الذات المغرقة في تشظيها. هاربة إلى اللامعقول، للإفلات من قبضة سلطة عليا شديدة القسوة، تختلف مسمياتها لكن يدها الخانقة لها التأثير نفسه عليها، إنها تضغط على أنفاسها، وتصادر حريتها، وتقتل شيئا كثيرا من إرادتها.
"إنّ الهمّ السياسي يسكنني حتى النخاع والسخرية هي سلاحي النووي لتفجير المستبدين والمرتشين والفاسدين" مقولة قالها الكاتب في إحدى حواراته الصحفية. وجسّدها في روايته "حضرة الجنرال/ التخريبة الرسمية للزعيم المفدى ذياب الزغبي كما رواها غارسيا ماركيز"، فكلمة "تخريبة" تحيل إلى "التغريبة الهلالية" التي يتنوع أبطالها من أبي زيد إلى ذياب بن غانم الزغبي حسب كل منطقة. وهي ليست مجرد حكايات، وإنما لها ارتباط بأصول قطاع من سكان هذه المنطقة، ومن هنا جاء اختيار هذه الشخصية و"التخفّي" وراءها كحيلة فنية لقول كثير من الأمور السياسية الحالية. (كما أشار إليها الروائي الخير شوار).
العنوان، "إنه لمثير لشهية القارئ" حسب رولان بارث، ولا غرابة أن يكتسي أهمية كبيرة عند المؤلفين والقراء على حد سواء، حيث لطالما شكل الهاجس الأكبر للكُتاب، فهو الحبل السري بين المتلقي والنص، أو بتعبير آخر إنه "البنية الرحمية لكل نص، وتشكل هذه البنيةُ بدورها سلطتَه وواجهتَه الإعلامية، لما تحمله من وظائف: جمالية/ تأثيرية/ إغرائية/... تمارس على المتلقي إكراها يسهم بشكل أو بآخر في توجيه عملية القراءة وربط نوع من التواصل بين المتلقي وبين النص، إضافة إلى خلق نوع من التقارب بينهما، لتحريض المتلقي على القراءة والتلقي ومحاولة تقليص المسافة بينه وبين المكتوب و"حضرة الجنرال" عنوان لا نظن أنه يخرج عن هذا النسق، ففيه دلالات عديدة، فهو مؤشر على العسكر وحكمه على الحروب، على القوة، على عكس المدنية، على الطاعة العمياء، على الحاكم والمحكوم، على الدولة... وانطلاقا من هذه الدلالات نتساءل ماذا يقصد الكاتب بــ"حضرة الجنرال"؟ ليأتي عنوان فرعي يقلّص ما ذهبنا إليه في قوله: "التخريبة الرسمية للزعيم المفدّى ذياب الزغبي كما رواها غارسيا ماركيز"، فالتخريبة تحيلنا إلى التغريبة الهلالية، (وكما رواها غارسيا ماركيز) وانطلاقا من ثقافتنا نفترض أن الكاتب سيحدثنا عن ديكتاتور ليس أمريكيا بل عربيا متمثلا في ذياب الزغبي وبتوغلنا داخل دفتي الرواية سيسقطنا في مجموعة من الدلالات لهذا العنوان، حيث يعني تتبع مسيرة ديكتاتوري عربي رواها بنفسه أو أملاها على الروائي الشهير ماركيز دون تدخّل الراوي في البناء والسرد والتخييل: "إيه... غارسيا ماركيز، كاتب شهير ومتألّق أنت ومهووس بكتابة سير أشهر ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية... وأنا فارس وجنرال وديكتاتور أوليغارشي محلي منسي يبحث عن قلم يمنحه أضواء الشهرة" وفي موضع آخر: "قاوم أيها المبدع واكتب سيرتي الرسمية للأجيال لتعرف حقيقة المأساة". "أنا متحمس ومتشوق لسماع سيرة مختلفة لديكتاتور عربي محلي مغمور وهو يرويها وأنا أدوّنها بضميره وليس بضمير أحد".
العنوان يزيد من فضول القارئ ويؤثر فيه لما يوضع في طبق يغري بذلك، ونعني به الصورة التي تزركش غلاف الرواية، وهو ما سيشكل قطب الرحى في النقطة التالية. الصورة: تكتسي الصورة أهمية كبيرة لدى الناشر، والكاتب أيضا، باعتبارها كما أسلفنا الذكر من المحفزات على استكشاف عوالم النص، فما الصورة؟
إذا كانت الصورة قلبا للحقائق وتشويها للواقع كما يذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة، فإن إحدى الأكاديميات المغربيات المختصات في نوع الرواية تعتبرها "علامة بصرية ندرك من خلالها نوعا من محاكاة الواقع، وليس الواقع ذاته"، وعليه نتساءل ما هي عناصر الصورة عندنا في هذا الغلاف؟ وما هي إيحاءاتها؟
تظهر لنا على الصورة، قبعة العسكري ومسدّسه وهما يخدمان العنوان "حضرة الجنرال" بالإضافة إلى نصف وجه امرأة تظهر منه العين بين حالتي الحب والكره، أما عن الألوان، ونعلم ما لها من تأثير بالغ على نفسية المتلقي، فيغلب عليها الانغلاق والعتمة والدم، ولاسيما اللون الأسود والبني والأحمر. إنها ألوان لم تُختر عشوائيا، بل تشي إلى شيء ما، وتبقى أبواب التحليل مشرعة أمام القراء والكلام الفيصل للنقاد المختصين.
تنطلق الرواية باستفزاز السارد للقارئ انطلاقا من توظيفه لفقرة من العبودية المختارة لأتين دي لابويسيو التي يقول فيها: "... أيّ قوّة والطاغية واحد بينما محتملوه على كره بالملايين؟ أنقول إنه الجبن؟ قد يخشى اثنان واحدا وقد يخشاه عشرة... أما ألف مدينة؟ إن هي لم تنهض دفاعا عن نفسها في وجه واحد فما هذا الجبن؟ لأن الجبن لم يذهب إلى هذا المدى كما أن الشجاعة لا تعني أن يتسلّق امرؤ وحده حصنا أو يهاجم جيشا أو يغزو مملكة، فأيّ مسخ من مسوخ الرذيلة هذا الذي لا يستحق حتى اسم الجبن ولا يجد كلمة تكفي قبحه والذي تنكر الطبيعة صنعه وتأبى اللغة تسميته...".
ومنه نحكم على أن هذه الرواية سياسية Roman politique والتي تصبت على مناقشة الأفكار السياسية وبرامج الحكّام النظرية والعملية، وتحديد تصورات المذاهب السياسية وتبيان مواطن اختلافها وتشابهها، مع رصد جدلية الصراع بين الحاكم والمحكوم والعامل مع أرباب وسائل الإنتاج.
كما تقوم الرواية السياسية بعدّها نزعة روائية "على أطروحة الدعوة إلى أفكار سياسية معينة وتفنيد غيرها مما يفسح المجال أكثر لحوارات تتخذ شكل مجادلات سياسية على حساب التقليل من أهمية العناصر السردية الأخرى. وتنزع هذه الرواية ذات المنحى السياسي نحو نوع من الواقعية القرارية، ولا تتميز عن غيرها من الروايات إلا بتأكيدها على الحدث السياسي. كما أن الرواية التي" يتمكن كاتبها من تقديم رؤيته السياسية كقضية من قضايا الواقع السياسي من خلال معالجة فنية جيدة هي رواية سياسية."
هذا، وتركز الرواية السياسية غالبا على القضايا السياسية المحلية والوطنية والقطرية والقومية لمعالجتها ضمن توجهات مختلفة ومحاور متعددة مستوعبة المراحل المتنوعة التي مرت بها القضية مع وقفات عند أحداث معينة لها خصوصيتها المتميزة. كما تنبني هذه الرواية على ذم السلطة والحكم مصورة الاستبداد ومصادرة حقوق الإنسان.
وبذلك يتم التأشير على الخطاب السياسي والعقيدة الإيديولوجية والرؤية السياسية إلى العالم وعلاقة الإنسان بالسلطة ومنظوره إلى واقعه الضيق أو الواسع. ومن النقاد الذين عرفوا الرواية السياسية نجد جوزف بلوتنرBlotner في كتابه الرواية السياسيةThe Political Novel الذي نُشر سنة 1955، والناقد الأمريكي إيرفنغ هاوIrving Howe في كتابه: السياسي والروايةPolitics and the novel الذي صدر سنة 1957.
ينطلق بلوتنرBlotner في تعريفاته للرواية السياسية من رؤيته للمجتمع الغربي فيقول: "إذا حصرنا الرواية السياسية في نشاط بعض المؤسسات كالكونگرس أو البرلمان، فهذا يعني أن نراعي بذلك الطابق العلوي للبناء السياسي، ونتجاهل الطابق الرئيسي والقاعدة التي تسانده". وهذه القاعدة التي ينبغي أن تخوض الصراع السياسي هي طبقات المجتمع، خاصة الطبقة العاملة التي ينبغي أن تضطلع بــــ"أدوار سياسية أو تتحرك في وسط سياسي".
ونظرا لديمقراطية المجتمع الغربي، يرفض جوزيف بلوتنر الروايات السياسية التي توظف الأقنعة التراثية والمجازية والتاريخية للتعبير عن القضايا السياسية، بل يفضل الرواية التي تقدم الخطاب السياسي مباشرة. وهكذا يبعد بلوتنر الروايات التي تعالج القضايا السياسية بشكل مجازي أو رمزي، ويرى "أن الرواية السياسية هي كتاب يصف مباشرة ويفسر ويحلل ظاهرة سياسية".
بيد أن هذا الرأي لا يمكن استحسانه في عالمنا العربي الذي مازال لم يتخلص بعد من أنظمة القهر والاستبداد والعنف العسكري وطغيان جهاز المخابرات وانعدام حقوق الإنسان، فلابد من اللجوء إلى استعمال الرموز والأقنعة والعودة إلى التراث أو اتخاذ التاريخ ذريعة للتعريض والنقد. وهذا الاستخدام الرمزي لما هو سياسي موجود اليوم حتى عند كتاب الولايات المتحدة الأمريكية التي صارت تحارب الديمقراطية والعدالة وتسكت كل من يقف في وجه الحق وينادي بالمشروعية الدولية.
"ولابد لكاتب الرواية السياسية أن يكون معايشا للأحداث، ذا رؤية واقعية محنكة بالتجارب والأحداث السياسية، وأن يكون متصلا" بالأدوار التي تلعبها الشخصيات، وأن يكون معهم على نفس خطوطهم في الحديث وغاياتهم التي يهدفون إليها، وإستراتيجيتهم التي يستخدمونها". وهذا فعلا ما تلمسته في رواية "حضرة الجنرال".
يرى عبد الرحمن منيف بأن الرواية مرآة صادقة عن الواقع، وأنها الأداة الفضلى والمتميزة في توعية الجماهير وتنويرهم وتفهم واقعهم من أجل الارتقاء به إلى عالم أفضل. وليست مهمة الأدب أو الرواية تحديدا: "تقديم برنامج سياسي، وليس الأدب ترديدا لشعارات أو مواقف. الرواية، هي قراءة حقيقية وصادقة للواقع مع كمية من الأحلام والرغبات في الوصول إلى واقع أفضل، إلى حياة أقل شقاء. ولذلك، فإن مهمة الرواية هي أن توصل كمًا من المعلومات والوقائع وأن تجعل الناس أكثر قدرة ووعيا لواقعهم وأن تحرض أقوى ما فيهم من المشاعر، من أجل أن يكونوا بشرا فاعلين. إن الرواية -أو أي عمل أدبي– لا يمكن أن تغير الواقع. إن الإنسان هو من يغيره، الإنسان حين يكون أكثر إدراكا وأكثر حساسية يكون بالنتيجة أكثر فاعلية، ومهمة الرواية أن تساهم في خلق هذا الإنسان".
وفي الأخير أقول: إن رواية "حضرة الجنرال" قد حققت نجاحا كبيرا في التأثير عليّ كقارئ، كما أحسست بالمتعة التي تكاد تغيب في الروايات الأخرى، فنجد الروائي كمال قرور قد اعتمد على استلهام التراث التاريخي والفلسفي والصوفي والسياسي للتعبير عن الحاضر بطريقة فنية جميلة قائمة على التهجين، والباروديا/ المحاكاة الساخرة، والأسلبة، والمفارقة، والتناص، والمعارضة، ومحاكاة المصادر واستعمال المستنسخات. فنقل القرار إلى استغوار اللاشعور السياسي واكتشاف مكبوتات التسييس وتجلياته في "الطابوهات"، كما رحل به إلى أجواء التراث الوسيط بالخصوص والزمن الماضي لمعايشة الأجواء السياسية وتناقضات المجتمع وصراع الإنسان مع السلطة القاهرة، ليقارن ذلك بعصرنا المكهرب الذي نعيش فيه، كما تخيلت حاضرنا سياسيا وذلك من خلال الموروث الشعبي.