تشكيلة نادرة لرسامين عالميين في متحف سيرتا
تحتل أعمال الفنانين المستشرقين من رواد المدرسة الواقعية، حيزا بارزا في جناح الفنون الجميلة بالمتحف العمومي الوطني سيرتا، أين خصصت أربع قاعات، لتحف يعود تاريخ أغلبها إلى القرنين التاسع عشر والعشرين، بالإضافة إلى لوحة يزيد عمرها عن الأربعة قرون أبدع في رسمها الفنان جون بابتيست مونويي، فضلا عن اللوحة اللغز الموسومة «الحشاشين» لغابرييل فيريي المنجزة في بداية القرن العشرين و التي لا زالت تستقطب الزوار و عشاق الرسم حتى من خارج الجزائر.
مجموعة فنية مهمة غير مستغلة سياحيا
سردية المستشرق الكلاسيكي تطبع الكثير من اللوحات و بشكل خاص بالقاعة الكبرى بالطابق الأرضي، أين ينافس سحر الفسيفساء، اللوحات الزيتية الغالبة عليها الطبيعة الصامتة، و المناظر الخلابة لصخر قسنطينة، حيث أوضحت مرافقتنا شفيقة بن دالي حسين المسؤولة عن مجموعة الفنون الجميلة بالمتحف منذ سنة 2005 بأن عدد اللوحات المعروضة للزوار لا تتجاوز 80لوحة، فيما لا زالت مجموعة كبيرة غير مستغلة بمخزن المتحف و التي علمنا من أشخاص مطلعين بأن عددها يصل إلى 500لوحة و هو ما رفضت مرافقتنا تأكيده أو نفيه لاعتبارات أمنية، و اكتفت بالقول بأن المجموعة مهمة من حيث القيمة و العدد.
مديرة المتحف السيدة كلثوم قيطوني دحو أشارت من جهتها إلى ضيق الفضاء بالمتحف، مما حال دون إبراز أعمال نادرة يتم حاليا حفظها بقاعة بالطابق السفلي بالمتحف والتي رغم إجراءات وتدابير الصيانة والحفاظ عليها، تبقى مهددة بالتلف جرّاء عامل الرطوبة، معربة عن أملها في تخصيص متحف للفنون الجميلة، يليق بقيمة هذه التحف، التي ألهمت الفنانين الذين كان لهم حظ الدراسة بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة التي كان مقرها بالمتحف، و الذين تتلمذوا على يد أساتذة مختصين أوروبيين و مشارقة.
«الحشاشين» اللوحة الكنز، ملهمة التشكيليين
أول لوحة تجذب الزائر عند ولوجه القاعة الكبرى، بحجمها الكبير و سحر ألوانها و مضمونها، تلك التي تحمل توقيع الفنان غابرييل فيريي المولود عام 1847 و المتوفي عام 1914، و الموسومة بـ«متعاطي الكيف» أو «الحشاشين» التي تم تجسيدها في بداية القرن العشرين، و هي تحفة فنية نادرة، تصوّر جلسة سمر قسنطينية بإحدى «فنادق»المدينة العتيقة و تنقل بعناية تفاصيل دقيقة، يقول البعض أن الفنان استلهمها بعد زيارة له إلى الجزائر، أين قام برسومات تخطيطية لمشاهد و مظاهر للحياة الاجتماعية، فيما يرى البعض الآخر بأن الصورة لا تمت بصلة للواقع الجزائري، و إنما هي من وحي المخيال الاستشراقي، و رغم كل ذلك تبقى هذه اللوحة اللغز البالغ طولها حوالي 3.80مترا، تظهر بعض خصوصيات و ملامح اللمات الحميمية بفنادق قسنطينة، و الأشياء التي اشتهرت بها مدينة الجسور المعلّقة كالأواني النحاسية و الفندق و الزي العروبي.
وذكرت مرافقتنا و هي أيضا فنانة تشكيلية بأن اللوحة كانت و لا زالت تستقطب اهتمام عشاق الرسم ومحترفيه الذين يأتون من كل حدب و صوب، لأجل الاطلاع على إحدى أشهر منجزات فيريي الرسام العالمي المتخصص في رسم البورتريه و الحائز على جائزة روما عام 1872.
ويكمن سحر اللوحة في شخصياتها الـ 14التي تخفي ملامح كل واحدة منها و كذا وضعيتها قصصا و أسرارا تبعث على الفضول بالإضافة إلى ألوانها الطبيعية التي تحاكي الزمن و المكان و تبرز متناقضات الحياة من مظاهر الرفاه والبؤس في آن واحد و ذلك من خلال بعض العناصر والتفاصيل التي لم يغفلها الرسام أو تعمّد إبرازها ككانون الطين الذي يظهر في يمين الصورة تعبيرا عن بساطة أو فقر الحشاشين، يقابله في اليسار كانون النحاس والتحف التزيينية الفاخرة، إضافة إلى شخصية الدرويش و العازف و غيرها من التفاصيل المثيرة للإعجاب.
و على يسار لوحة «الحشاشين»النادرة تظهر مناظر قسنطينة الساحرة من خلال صخورها التي سلبت قلوب التشكيليين أمثال الرسام المعروف غوستاف ديبا و ابنه روجي اللذين تركا أعمالا خالدة مستوحاة من الصخر العتيق.
قسنطينة فاتنة المستشرقين
و من أهم المناطق و المواقع التي أبدع الرسامون في تجسيدها «درب السواح»، الذي أبدع في رسمه «ماكسيم أورلان» الذي تجهل سيرته، رغم تركه لأربعة أعمال فنية رائعة أهمها هذه اللوحة، التي اعتمد عليها المشرفون على ترميم هذا المعلم السياحي المهم. لما تحمله من تفاصيل دقيقة عنه، توجد تحفة زيتية لا تقل تألقا عن الأولى و التي تصوّر خوانق الرمال، و الصخر العتيق، بالإضافة إلى لمسة «أونريدابادي» (1867-1949) على لوحة كبيرة مستوحاة من منظر ببجاية، لامرأة تتأمل البحر و لوحة لامرأة عاصمية بزي أنيق و فاخر مع وصيفتها.
وفي قاعة حملت تسمية قسنطينة، كانت لوحات الأب والابن ديبا مرة أخرى حاضرة برونق المدينة الفاتنة، بجسورها المعلّقة و أزقتها وأسواقها وعمرانها ونسائها و أزيائهن التقليدية بما فيها «الشاشية» المرصعة بقطع «لويز» منها ما حملت بصمة الفنانة مارسيل بابيو التي عاشت بحي عوينة الفول، و الرسام بيير بول بوشي و غيرهم من الرسامين الذين كرّسوا وقتهم للتوثيق لمدينة الصخر العتيق على طريقتهم، بما في ذلك فترة سقوطها بين أيدي المستعمر الفرنسي.
القاعة تحتوي كذلك على مجسمات لهذه المدينة الأسطورة أهمها تلك التي جسدها ألفونس إيلي جيج في بداية الاحتلال.
أما حظ التشكيليين الجزائريين ضمن المجموعة فبسيط و لا يتجاوز العشرين عملا، رصعت جدران رواق صغير بين قاعة قسنطينة و قاعة «يونفارساليس»أو «الفن الكوني، حيث برزت بعض أشهر الأسماء نذكر منها محمد راسم، عمار علالوش، محمد حداد، صادق أمين خوجة، محمد بوشريحة، شريف مرزوق، زعيمش مهدي وغيرهم.
خصائص الفن الاستشراقي تظهر أيضا بقاعة «يونفرساليس» التي عوضت القاعة الأوروبية بعد توسيع قائمة تحف التشكيليين العالميين لا تقل أهمية عن أعمالهم الموجودة بمتاحف العالم، أهمها اللوفر كإيجين فرومنتين و بوفي دي شافان و إيميل أوبري و آلبير ماركي و إتيان ديني، كاستيلي، و غيرهم من التشكيليين الذين انبهروا بسحر الشرق المفعم بالحكايا و الأساطير و الغموض المثير الذي ألهم الكثيرين سيما مظاهر الفروسية و اللباس التقليدي و النساء و غيرها من المظاهر التي رصدوها بلغة فنية كلاسيكية رصينة و بتقنية تصوير عالية وصلت إلى حد الإعجاز المدهش.
لوحة جون بابتيست مونويي الأقدم و الأكثر صمودا
ومن اللوحات المثيرة للاهتمام تلك التي تعد أقدم لوحة في المجموعة والتي يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر، وقعتها أنامل جون بابتيست مونويي1634-1699 و الحاملة لصورة من الطبيعة الصامتة، أبدع الفنان في رسم الفواكه الظاهرة فيها بألوان رائعة تعكس تفاني و مهارة فنان عبقري، كان همه تخليد عمله و نجح فعلا في ذلك، حيث بقيت لوحته صامدة أكثر من أربعة قرون، دون أن تتأثر كغيرها من اللوحات بعامل الضوء و الرطوبة، رغم نقص إمكانيات الصيانة و التي تقتصر على إزالة الغبار و استعمال ماء المطر أحيانا لمسحها.
هناك أسماء فنانين وعناوين لوحاتهم مذكورة في مراجع لكن لم يوجد لها أثر، بعضها كانت بمقر الولاية وبعضها بالبلدية، لكن بالمتحف وجدت كل اللوحات المذكورة في تقارير الجرد، بل ثمة لوحات كثيرة أخرى لم يتم ذكرها من قبل، ثم العثور عليها بالمخزن وأعيد لها الاعتبار. والتي حرصت المسؤولة على المتحف على تهيئة قاعة الخزن التي تتربع على مساحة سبعة أمتار مرّبع، برفوف معدنية، وأروقة منتظمة رتبت بها اللوحات بعناية لحمايتها من آثار الرطوبة وكذا خطر التشوّه.
المسؤولة عن المجموعة النادرة أوضحت بأن الألوان الزيتية تدوم لقرون، إذا وفرت الظروف المناسبة للحفظ و الصيانة أيضا، معترفة في ذات الوقت بنقص الإمكانيات في هذا الإطار لانعدام المتخصصين في الصيانة و الترميم الفني ، حيث يكتفون بإزالة الغبار، مشيرة إلى عدم ملاءمة الفضاء لعرض مثل هذه التحف، قائلة بأن المتحف كان مخصصا منذ البداية للآثار، غير أن الصدفة جعلت من هذه المجموعة النادرة و المهمة تحفظ و تعرض به.
و لا يمكن مغادرة قاعة يونفرساليس دون تأمل «عرافة «اتيان دينيه و لوحة «قبلة الخداع» لريمون إيبوليلاسيرج، وكذا لوحة الفارس الذي يتابع بحزن لحظات وفاة حصانه، ناهيك عن منحوتات البرونز والجبس، التي جسدها تشكيليون فرنسيون، فضلا عن تحف النحات الجزائري المبدع أحمد عكريش، التي تتوسط المجموعة الفنية القيّمة.
مريم/ب