القطاع العام لن ينهض بعمال يأكلون بملاعق من ذهب
يشتكي المقاولون والحرفيون ورجال المال والأعمال وحتى التجار وأصحاب الورشات والمقاولات الخاصة من نقص فادح للعمالة أي اليد العاملة . ويؤكدون أن فرص الشغل والعمل متوفرة في الجزائر، لكن الشباب الجزائري البطال متقاعس وكسول لا يريد أن يعمل . بل إنه يبحث عن مهن ووظائف من نوع خاص : مثل حارس حظيرة ولكن في الليل فقط ( ؟ ) . سائق في شركة ولكن لنصف يوم . عمل في دكان لبيع الهواتف المحمولة أو ملابس النساء . حارس في مبيت جامعي للبنات ...
هذا ما دفع أحد المسؤولين الكبار في الجزائر إلى القول بأن الشباب الجزائري البطال يريد وظيفة على المقاس أوحسب الشروط التي ترتسم داخل رأسه . أي يريد الأكل بملاعق ذهبية ، على أن يوضع الأكل في فمه وليس أن يوضع أمامه فوق المائدة . وذهب كثير من هؤلاء المسيرين وأصحاب المؤسسات والمقاولات وشركات الإنجاز إلى حد المطالبة باللجوء والإستنجاد باليد العاملة الأجنبية ، لتدارك العجز المسجل سواء في إنطلاق المشاريع ، أو لإحترام آجال تسليمها ، بإعطاء دفع لوتيرة الإنجاز . ويرون أن الإعتماد على اليد العاملة الصينية والهندية والكورية والمغربية والمصرية والتونسية والتركية وحتى الإفريقية ، كفيل بسد هذا الإحتياج ووضع حد لمعاناتهم مع هذا النقص الفادح لليد العاملة ، سيما المؤهلة منها .
الأسبوع الماضي إشتكى منتجو البطاطا والتفاح والزيتون على الخصوص ، من ضياع محاصيلهم وعدم تمكنهم من توفير عمال لجني المحاصيل . وربما كان هذا سببا في إرتفاع الأسعار. وأوضحوا أن الأمر لا يتعلق بظروف العمل أو تدني الأجور ، حيث عرضوا – كما يؤكدون - أجورا وإغراءات مالية على الراغبين ، لكنهم لم يتمكنوا سوى من توظيف أعداد قليلة من العمال . أكثر من ذلك ، فإن المستخدمين باتوا يصطدمون بعقليات جديدة من العمال .
هؤلاء لا يلتزمون بمواقيت وشروط ومقتضيات العمل : يأتون متأخرين عن ساعات العمل . يغادرون قبل نهاية التوقيت المحدد . يغيبون لأبسط مبرر دون أعذار طبية أو موضوعية مقبولة . نهايات الأسبوع تكاد تكون عطلا مدفوعة الأجر تنضاف إلى نهاية العطلة الأسبوعية الرسمية . أيام البرد والثلوج عطل لا تحتاج إلى تبرير ... وكذلك الأيام التي تلي الأعياد الدينية كعيدي الفطر والإضحى وما يسبقهما بيوم أو يومين . دون إعتبار العطل المرضية القانونية والتي تحسب جمعا بالسنوات ، أوعطل الأمومة . وكذلك الإحتجاجات والإضرابات التي لا تكاد تتوقف حتى تبدأ . من ذلك ما ذكره المفتش العام لوزارة التربية قبل يومين حيث ذكر أن الإضرابات التي مست قطاع التربية خلال السنوات الأخيرة فاقت إجمالا سنتين دراسيتين كاملتين . ينضاف هذا الرقم إلى إحصائية أخرى مفزعة لعام 2014 ، بتسجيل أكثر من 15 ألف إحتجاج . ناهيك عن قطع الطرق التي تتسبب هي الأخرى في التأخر عن الإلتحاق بأماكن ومناصب العمل أو الغياب .
مؤسف ما وصل إليه حال الشغل والعمل في الجزائر . ذهنيات لم نتعود عليها في السبعينات على الأقل . العمل عبادة شرعا . وعلى المساجد ودور العبادة والإئمة ورجال الدين والنصح تحسيس الناس بذلك . والعمل أيضا هو حق قانونا ، وعلى المصؤولين تحمل مسؤولياتهم كاملة في السهر على تطبيق القانون بحزم ، لكن دون عسف أو ظلم أو خروج عن تشريعات العمل والقوانين . وهو كذلك وسيلة للعيش وتحسين الظروف المعيشية عموما . لكن فيما يبدو ، وحسب ما يسجل هنا وهناك أصبح عند الكثيرين عقوبة .
المسيرون والمستخدمون وأصحاب المؤسسات والشركات والمرقون ... يقولون أن تطبيق القانون في مثل هذه الحالات ( الغيابات ) لم يعد حلا أو على الأقل لم يعد يلجأ إليه ، وهذا بسبب نقص اليد العاملة . أي أن يأتي العامل متأخرا خير من أن لايأتي بتاتا . وأصبح تطبيق القانون إجراء صعبا ، حتى لا أقول شبه مستحيل من طرف المسيرين ومديري المؤسسات والشركات والمقاولات . حيث ، وبسبب نقص اليد العاملة ونقص المؤهلين ، يتغاضى هؤلاء عن " الصرامة " للأسباب السالفة الذكر .
قد يكون نقص اليد العاملة ، أو هذه الذهنيات الجديدة المتقاعسة والتي تميل إلى الخمول ولم تعد تتحمس للعمل ، أوغيرها من الأسباب التي باتت تعتبر من معوقات التسيير والتنمية ، ووراء تعطل المشاريع وتذبذب وتيرة الإنتاج هي أسباب يمكن تحميلها " المسؤولية " ، لكن هل هي وحدها السبب ؟ .
الموضوعية في التحليل تدفعنا إلى إستنباط أسباب وعوامل أخرى متداخلة ، هي أيضا قد تكون وراء النفور من العمل .
أولا : إنالسياساتالإجتماعية المعتمدة منذ الإستقلال تقريبا والمغلفة ب " الشعبوية السياسوية " أو من منطلق الحفاظ على الإستقرار والسلم الإجتماعي ، أفقدت العمل قيمه ومفاهيمه وأبعاده . وجردته من وظيفته الروحية قبل المهنية الإجتماعية . فلم يعد العمل حقا وواجبا أووظيفة ووسيلة للعيش الكريم والرفاهية المشروعة ، أو مصدرا للرزق والإسترزاق . لقد أصبح العمل في أذهان للكثيرين مضيعة للوقت ، مادامت الدولة قد تقمصت دورا ، المفروض أن لا تقوم به ، وهو : " الدولة المانحة للأرزاق " . تطعم الناس وهم مستلقون فوق الأسرة والأرائك ينعمون . توزع المال والربح على من تشاء . في الجزائر، وربما في بلدان أخرى مماثلة إنهارت إقتصادياتها بفعل هذه السياسات بعد ذلك ، يمكن لكل مواطن لا دخل له ، ولا عمل له أن يصبح من أثرياء القوم . طبعا إذا تمكن من الأساليب والقنوات الموصلة إلى ذلك (..... ) . والعكس صحيح أيضا ، أي ركوب منحدر الفقر . يكفي أن يتحصل الواحد على قرض ، أو يتمكن مهرب من صفقة العمر بتهريب أموال أوسلع وبضائع عبر الحدود البرية أو البحرية أو الجوية ليصبح من أغنياء الناس . بينما يقضي عامل ذي أجر ومدخول ضعيف عمره في مكابدة توفير لقمة العيش . وفي مواجهة الحرمان وتقسيم أجرته في جسوم كثيرة . والبحث عن أفضل الوسائل للحد من الإستدانة وعدم رهن نفسه عند الخباز والخضار ...
سقطت سلطة القانون وإحترام القانون من رؤوس الكثيرين . وأن من يعفس على النظم والقوانين هو الشاطر و" القافز " . وسقطت قيم " الحلال والحرام " من أذهان الناس ومن منطق التعاملات التجارية . وأصبحت التجارة الموازية أوغير المشروعة هي الأصل والأمر الواقع ، وغيرها الشاذ . أصبح الكثيرون ينظرون إلى مصالح التجارة والضرائب من زاوية العدو البخيل الذي لا يريد الخير للتجار والمواطنين .
إن فرض إحترام القانون وإلزام الجميع بذلك جزء من الحل الجذري . هو الأسلوب الأمثل والأنجع لوضع حد للكسب والثراء غير المشروع . إعادة الروح والقيم المثلى للعمل تبدأ بإزالة منابع الفساد والربح غير المشروع . يجب أن يكون العمل هو المورد الرئيسي والأساسي لكل دخل . أي أن يقابل كل دخل مجهود فكري أو مهني . أن لا يأكل الناس جميعا إلا مما ينتجون وما يبذلون من جهد في توفير قوتهم ومداخيلهم ، مهما كان نوع النشاط أو قيمة المدخول ومبلغه وحجمه . إن تكريس الشعور والإحساس بالقيمة المادية والمعنوية للمنتوجات وللإنجازات في ذهن كل عامل أو مواطن هو الكفيل بوضع حد للتبذير واللامبالاة . مؤسف أن يبذر الجزائريون ويرمون 160 مليون خبزة في المزابل خلال شهر رمضان الماضي فقط . ناهيك عن مختلف ما يلقونه بالأطنان من المواد الغذائية الأخرى ، كثير منها يستورد ب " الدوفيز " .
ثانيا : إن العقلية العمومية التي ترسخت في أذهان الغالبية العظمى من المواطنين ، على أن العمل صدقة جارية . وأن الدولة مطالبة بتوفير الغذاء والماء والدواء والسكن والتعليم ... مجانا ، دون مقابل أو جهد من طرف أي مواطن ، هذا أيضا سبب آخر في تدهور قيمة العمل وتفشي الخمول و" عقلية البايلك " وأن كل شيئ مضمون دون جهد . إذ لا بد من ربط كل عمل بالمردودية والإنتاجية .
ثالثا : مراجعة قانون العمل أصبح أكثر من ضرورة وأولوية . الخبراء وأهل التشريع المهني لعلاقات العمل ، يعتبرون أن قانون العمل الساري المفعول يشكل جزءا من المشكلة وليس جزءا من التنظيم أوالحل . نظام الدوام المتواصل ، أي أن التوظيف بعقود عمل مفتوحة ، غير محددة المدة أو متجددة ، أسهمت في تدهور المردودية وضعف الإنتاج بصفة عامة . غالبية العمال باتوا يعتقدون بأن الأجور حقوق ثابتة ، غير قابلة للإلغاء أو النقصان والتخفيض . وأن العامل غير مطالب ببذل الجهد وتبرير راتبه . بل حتى أيام الغيابات والإضرابات لم تعد تخصم من الأجور تفاديا للإحتجاجات أو ما يعرف بالمحافظة على الإستقرار والسلم الإجتماعي . مؤسف ما آلت إليه أوضاع التسيير في عديد المؤسسات ، سيما العمومية منها .
إن بداية التقويم وإصلاح الإعوجاج تبدأ بربط الأجور فعلا بالمردودية والإنتاج . ولن يتم ذلك إلا بتغيير عقود العمل التي يجب أن تكون متجددة دوريا ، لكن دون تعسف أو إستغلال للعامل ومع ضمان كل الحقوق المهنية والإجتماعية له . أكثر من ذلك لابد من إخراج المؤسسات من وضعية " المحاشر " لجمع الناس ولا نقول العمال ، لأن الوضع الحالي الذي تعيشه كثير من الإدارات والشركات والمؤسسات هو ما يشبه " دور الجمعيات الخيرية " أو " دور العجزة " . حيث يكاد ينحصر نشاطها ودورها في توزيع الأرباح ولا أقول الأجور ، لأن الأجور والرواتب تتطلب مردودية وبذل جهد ومقابل . ثم لابد من ربط التوظيف بالفعالية والمردودية والنجاح الإقتصادي . حين يتعب كل واحد أو عامل من أجل قوته وأجره الشهري أو مدخوله المالي والتجاري وقتئذ فقط تعود قيمة العمل إلى أذهان الناس جميعا . حاليا ، إلا من رحم ربك طبعا ، فإن العمل في أذهان كثير من العمال مجرد مضيعة للوقت أو " كرفي " للحصول على أجرة في نهاية الشهر. يحدث هذا على الخصوص في إدارات ومؤسسات القطاع العام .
أصبح من الصعب أن تطالب موظفا أو عاملا في مؤسسة عمومية بأداء المطلوب منه في الساعات المحددة والملزمة بالتوقيت فمابالك بالتضحية أو الوقت الإضافي ؟ .
رابعا : السؤال الأخير الذي يجب طرحه وإن يغضب البعض : هل يستفيد الفقراء وذوو الدخل الضعيف من دعم الدولة للأسعار ؟ . ومن المستفيد الفعلي من دعم المنتوجات الغذائية الواسعة الإستهلاك كالخبز والسميد والسكر والزيت والحليب والخضر ، أو من دعم أسعار الدواء والسكن والتعليم ...؟ .
الجواب بالتأكيد يعلمه الجميع : مواطنون وسلطة وسياسيون . وعلى الخصوص أولئك الذين يدفعون فاتورة لهيب الأسعار يوميا ويعجزون عن ملإ قفافهم وسلاتهم . لم يعد من العدل الإجتماعي أن يستفيد الجميع من دعم البطاطا والسكر والصحة والدواء ... وأن يتساوى البطال وذوو الدخل الضعيف والفقراء من جهة ، وأصحاب المال والأثرياء وذوي الرواتب المرتفعة من جهة أخرى في دفع نفس الأسعار لشراء كلغ بطاطا ، أو في دفع رسوم التمدرس أو علبة دواء أو ملف سكني أو وسيلة نقل ... ومن المستفيد من العلاج المجاني في نهاية الأمر ؟ . يتوفر السرير والتحاليل المخبرية والطبيب والدواء وخيط الجراحة والممرضة بأمر أو إشارة واحدة حين يكون الجيب منتفخا ، ويصطف غيرهم في طوابير الإنتظار عل وعسى ... إذن لماذا لا يتم رفع الدعم حتى يتساوى الجميع وذلك بإرجاع الفعالية والجدية لكل المؤسسات على أن توجه أموال الدعم للغذاء والتعليم والدواء ... وهي مبالغ كبيرة تخصصها الدولة في ميزانياتها السنوية إلى الفقراء وذوي الدخل الضعيف ، فيتم منحها بشكل مباشر للمستحقين المحتاجين فعليا بموجب عمليات إحصائية محلية يمكن مراقبتها وتدقيقها من مختلف المصالح المختصة ؟.