عبد الله حمادي.. المثقف المتعدّد
غادر الدكتور عبد الله حمادي، هذا الموسم، الجامعة بعد مسار طويل زاد عن الأربعين عاما. غادر وفي قلبه غصة: لم يستمهله أحد ولم يطلب منه أحد البقاء، هو الذي كان يحسب أن الجامعة تستعذب حضوره و أن ما بينها وبينه أكبر من إمضاء جاف يمهر بهم مسؤول في عجلة من أمره ورقة الطلاق الكريهة، هو الذي كان يحسب أن العلوم التي استأنسها ستمنحه منبرا أبديا بين مريدي المعارف. لذلك انصرف غاضبا إلى حياة أخرى يعرفها جيدا، حياة لم ينصرف عنها، كما فعل غيره، طيلة عقود التعليم. حياة حقيقية لا يشيخ الناس فيها ولا يُسمح لهم بالمغادرة. هناك سيستعيد نفسه وتاريخه بالكتابة الباقية. الكتابة التي لم يقصر في حقها. الكتابة التي تستمهله وتستعذبه وتحول بينه وبين باب الخروج. النصر التي تشرفت بمرافقة المسار العلمي والأدبي للدكتور عبد الله حمادي تنشر في هذا العدد شهادات احتفاء من طلبته الذين كبروا.
الموريسكي الذي هزم محاكم التفتيش !
بقلم / يوسف وغليسي
لا يهمّ أن يكون عبد الله حمادي عالما غلب عليه الشعر، أو يكون شاعرا غلب عليه العلم (كما قال البحتري عن الشافعي وأبي تمام) لأنّ المهمّ أنّه شاعر وعالم معا بل الأهمّ أنّه أسّس دولة كاملة في عالم الكتابة، تحظى باعتراف هيئة الأمم كلها منذ ما يقارب خمسين عاما من الوجود.
وعلى فضاء هذه (الدولة الحمادية) تتلاقح الحضارات وتتعايش الثقافات، وتتنوّع الأجناس وتتجانس الأنواع...
عبد الله حمادي كاتبٌ من جيل يصدق عليه وصف الشاعر القديم : (بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا)؛ فهو الكاتب "السبعيني" الذي خاض رحلة كتابية عسيرة، سقط أكثر من عاصرها من أترابه وأنداده (السبعينيين) في بداية الرحلة، لكنّه واصلها بالقوة النظرية والفعل الإبداعي مفردا بصيغة الجمع (لأنّه الكاتب المتعدّد الميول الشعرية والاتجاهات الفكرية والثقافات اللغوية)، وجمعا بصيغة المفرد (لأنّ هذه الميول والاتجاهات والثقافات المختلفات المتناحرات قد تعايشت وتواءمت داخل شخصه المفرد المتفرّد من غير أن تؤول إلى انفصام في شخصيته)،...
عبد الله حمادي هو سفير الثقافات العربية في بلاد الإسبان، وذاكرةُ ليالي الوصل بالأندلس، وترجمان الروائع الأمريكولاتينية...
هو القاضي التاريخي الذي نافح عن الموريسكيين وكافح محاكم التفتيش، وتعاطف مع الجبهة الصندينية...
هو المحقق الذي أحيا عبدالقادر الراشدي وابن هذيل الغرناطي وابن العطار والعزفي، وبعث محمد الزاهي ومحمد الهادي السنوسي وأحمد الغوالمي...
هو الباحث المؤرخ الذي ترأس (مركز الدراسات التاريخية)، وأرّخ لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجزائر القرن السادس عشر، والحركة الطلابية الجزائرية، وبعض الحركات الأدبية العالمية، وخاض في سيرة خير الدين بربروس، وهنْدس (ملحمة قسنطينة)،...
هو المنظّر الذي فلسف ماهية الشعر؛ وتأمّل دلالية الخطاب الشعري، ورصد مفاصل الصراع في هيكل الشعرية العربية، ...
هو الشاعر الذي وحّد العشق المتحزّب، وهاجر نحو مدن الجنوب؛ وحاور النسيان، وعبر البرزخ حاملا سكينا، ثم نطق عن الهوى تأكيدا لشاعريته البشرية "الخطّاءة"، وقد تاب بعد عمر من الخطايا الشعرية فراح ينسج (الدر المنظم في المولد النبوي المعظّم)!...
وهو الشاعر الغجري المجنون المسافر في كلّ الدنيا وشتّى الدروب الممكنة المؤدية إلى جوهر الشعر؛ من الدفاع التراثي البريء عن الشكل العمودي، فالدعوة إلى ترميم العمود الخليلي بلوازم الحداثة والمعاصرة، إلى الخروج عن عمود الشعر والدخول في مفازات التجريب.
هو الأكاديمي الكبير الذي صنع عصْبةً من العلماء الحقيقيين مقابل عصابات من بُغاثِ الطير الجامعي المستنسر!
هو المفكر الذي ساءل الفكر والأدب، وتأمل الأدب والسياسة، واستنطق الأندلسيين المعاصرين من شعراء الجنوب الإسباني في إطار حوار الحضارات وتحالفها، قبل أن تغدو الفكرة عنوانا لمداخلة السيد (خوسيه ثاباتيرو) ذات قمة من قمم الجامعة العربية...
وهو المثقف العارف بذاته، الواثق بإمكاناته، العابر لأنهار الاختصاصات العلمية المتباعدة، المتنقّل كنحلة تستجمع رحيق المعارف بسهولة عجيبة من هذه الزهرة إلى تلك؛ من الأدب المغربي القديم إلى الأدب الجزائري الحديث، ومن الشعر في مملكة غرناطة إلى الشعر الإسباني المعاصر...
كنتُ أسمع بعبد الله حمادي وأقرأ له وأنا تلميذ في ثانوية تمالوس، ثمّ تعرّفت إليه في جامعة قسنطينة، وتتلمذتُ له في مرحلة الماجستير (منذ 23 سنة تحديدا)...
كان يرغّبنا بموسوعيته المعرفية ويرهّبنا بشخصيته الفولاذية .. أذكر أنّني تقربت منه كثيرا في ذلك الوقت، وحين رأيت ما بدا لي من سطوته وتملّكه وجبروته، وهو في عزّ تماهيه النفسي مع أعنف الديكتاتوريات الثقافية والسياسية (من أبي الطيب المتنبي إلى فرنسيسكو فرانكو)، تذّكرتُ ضحكة تلك "الشيخة العبشمية"، ففكرتُ وغامرتُ وقرّرتُ أن أُرْديه "أسيرا يمانيا" (أو هكذا خيّل إليّ...)
ومع أنّني نادرا ما أتجاوز الفوارق الزمنية والمعرفية والأخلاقية التي تفصلني عن غيري (وخاصة إذا كانوا من فصيلة أساتذتي)، إلا أنني لا أدري كيف وجدتُني أدخل لعبة الكرّ والفرّ مع أستاذي، وأواجه حربا باردة شعرتُ أنّها فرضت عليّ فرضا، مع ذلك يشهد الله أنني كنت أحرص دوما على إبقاء مسافة أمان أخلاقية بيني وبين أستاذي، وكنتُ –رغم إحساس حادّ بالظلم (ربّما توهمته!)- أجدُ في ما يسميه السيكولوجيون "آليات الدفاع النفسي" تفسيرا تبريريا للعنف الحمادي جرّاء الظلم الذي حاق به منذ عودته من إسبانيا، فكأنّما اتخذ شعارا له من قول المتنبي :
ومن عَرَفَ الأيام معرفتي بها .... وبالناس روّى رمحه غير راحم
لكنه كان كثيرا ما تختلط عليه الأمور فيصيب أصدقاءه وهو في مسعى انتقامه من أعدائه!
ومن فضائل شاعرية حمادي، أنّ ذلك الثور الإسباني الهائج الذي يسكنه أحيانا سرعان ما يستحيل إلى حمل وديع، بعدما يزول الشيء الأحمر الذي رآه حقيقة أو تخيّله!
أتأمل عبد الله حمادي أحيانا وهو في منتهى المعارج الشاعرية فأراه شخصا لطيفا رقيقا حليما وصديقا حميما، وتتداخل تلك الصور والأوصاف في ذاكرتي فتتسلّط عليّ صورة عبد الله الكبير وقد صار (أبا عبد الله الصغير) وهو في أرذل حكمه!
ثمّ أتأمله تارة أخرى، فتتزاحم في ذاكرتي صور أخرى له في جاهليته الأولى، وقد فتك به الطيش والبطش والخُيلاء، وأذكر صورة المرحوم زهير الزاهري وهو ينادي "حمادي" (بتفخيم الميم)، معلّلا نداءه ببعض ما ذكرت، فأتيهُ بين سفه الشيخ وحِلمه، ويحاصرني الشاعر القديم بقوله : "وإنّ سفاه الشيخ لا حلم بعده..."، فلا أكاد أصدّق أنّ هذا هو نفسه ذاك!.
ومع ذلك فإنّه يحزّ في نفسي اليوم أن أرى جيلا كاملا من المريدين المزيّفين الذين صنعهم حمادي من العدم المعرفي قد تنكّروا لشيخهم، ولولاه ما كسبوا قوت يومهم لو كانوا يعلمون...
أمّا أنا (وقد وقّعتُ "معاهدة عدم اعتداء" مع الدكتور/الدكتاتور في وقت سابق)، فإنّني الآن منحاز إلى أستاذي أكثر من أيّ وقت مضى بعدما صار منزوع السلاح، لا يملك نفعا ولا ضّرا، وهو السبب ذاته الذي جعل بعض طلبته الدكاترة المنافقين ينفضّون عنه بعدما كانوا يرتعدون لمجرّد سماعهم رنين هاتفه، ويهبّون لتلبية ندائه حتى لو كانوا في جحورهم نائمين!، ألا إنّ ذلك أبشع أنواع العقوق، وبئس السلوك!.
بحاثة برتبة فريق
بقلم : محمد كعوان
عن أي الأساتذة أحدثكم؟ هل أحدثكم عن عبد الله حمادي الأستاذ البحاثة الذي تجاوزت مؤلفاته الثلاثين كتابا ؟ فقد جمع من المعارف ما جعله يؤلف في ميادين وتخصصات عدة ما يعجز فريق من الباحثين الإحاطة به. أم أحدثكم عن شخصية المبدع الشاعر والسارد الثائر الذي لا يهادن في شعره ، ولا في سرده ؟ فقد كتب ونظّر لكل الأشكال الأدبية التي كتب فيها ؛ من لوازم الحداثة والمعاصرة للقصيدة العمودية ، إلى القصيدة الومضة ، إلى القصيدة النثرية ، إلى تفنست ، أم أحدثكم عن عبد الله حمادي الإنسان المرح الذي لا تمل حديثه وسخريته ؟ فهو فطن ذكي ، صاحب نكتة ورحابة صدر ، يعرف جيدا كيف ومتى يأسر سامعه ، وربما تسلل القلق وتغير المزاج إلى شخصيته جراء معايشته الطويلة لشخصية الفنان المبدع الذي لا يستكين أبدا، فهو في قلق دائم ؛ قلق الكتابة الإبداعية ، والبحث الجاد عن الجديد. أم أحدثكم عن عبد الله حمادي الإنسان الذي حيكت حوله الأقاويل فأصبح عند كثير من الطلبة والأساتذة في الجامعة شخصية أسطورية ، صعبة الانقياد ، يصدق فيها قول الإمام الشافعي عليه رحمة الله:
عن كل عيب كليلة ..... ولكن عين السخط تبدي المساويا
ولست بهياب لمـن لا يهابنـي ..... ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا
فإن تدن مني تدن منك مودتـي ..... وإن تنأ عني تلقني عنـك نائيـاً
فقد كان كثير من الطلبة والأساتذة بجامعة قسنطينة يتحاشون هذا الباحث الذي أحيط بهالة من الغموض ، فهو أستاذ جاد لا يرضى بالقليل الذي ألفه الجميع ، ولا يهادن المتطفلين على البحث العلمي ، وقد بقي وفيا لقناعاته تلك فترة طويلة من الزمن ، وهو ما أكسبه مشاكل جمة ، وخصومات عدة ، ورغم كل ما اعتور مسيرته العملية تلك ظل يجاهد بقلمه ، معليا من شأن مسيرته العلمية التي ازدادت ثراء يوما بعد يوم . فمنذ 1980 وهي السنة التي تخرج فيها من جامعة مدريد بدرجة الدكتوراه ، وهو يقاوم سيلا جارفا من التصرفات التي حاولت جاهدة وبكل ما أوتيت من قوة ومكر إبعاده عن المعهد الذي ينتمي إليه – قسم اللغة العربية – وربما يكون هذا سببا وجيها للأسلوب الذي انتهجه الدكتور حمادي في دفاعه المستميت عن مكانته ، وانتمائه الشرعي لقسم الأدب العربي ، وقد صدق طرفة بن العبد حين قوله :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة . . على المرء من وقع الحسام المهند . فقد ظل لسنوات يدرس بقسم اللغة الإسبانية ، حيث لم يستفد من خدماته العلمية طلبة الأدب العربي بجامعة قسنطينة فترة طويلة ، وهو أمر ربما تكرر مع كثير من الباحثين المتميزين في جزائر اليوم . أذكر جيدا حينما كنا طلبة في مرحلة الدراسات العليا بقسنطينة سنة 1994 ، حينما أسند مقياس متعلق بقضايا أدبية معاصرة إلى الدكتور حمادي ، فإذا بنا أمام أستاذ طليق اللسان ، إذا حدثك عن الشعر القديم وأخبار شعرائه خلت أنه الوحيد العارف بأخبار العرب وبواديهم ومآثرهم وشعرائهم ، وإذا حدثك عن الشعر المعاصر أيقنت أنه المنظر لهذا الشعر بفلسفاته المتعددة ، وإذا أدخلك باب الأدب الأمريكولاتيني خيّل إليك أنه المؤرخ الحقيقي لتاريخ وآداب تلك الشعوب . فقد أخذنا الانبهار بشخصيته الموسوعية التي لا تكل ولا تمل من قول الجديد المفيد ،وهو الذي يشعرك بالخجل الشديد حينما يحدثك عن المخطوط ونسخه بالمكتبات الأجنبية ، وما حقق منه ، وما هو دون ذلك . أما إذا استمعت إليه وهو يجوب تاريخنا الحديث والمعاصر تجزم أن تخصصه في التاريخ أكثر من أي شيء آخر .
وربما كنت ضمن فئة قليلة من الباحثين الذين أشرف عليهم الدكتور حمادي ، واقتربوا منه وعايشوه كأستاذ مشرف وصديق أيضا . فعبد الله حمادي الإنسان ، تجتمع في شخصيته خصال عديدة لا يعرفها كثير من الناس ، فهو الشاعر الحساس ، المثقف الواعي ، صاحب الشخصية القوية. فهو يعبر عن مواقفه الجريئة بكل الطرق المتاحة دون أن يخاف لومة لائم ، وقد فجر بكتابه نفاضة الجراب ثورات وخصومات جديدة ربما كان بمنأى عنها لكن انتصاره الدائم وفقط للحقيقة التاريخية، جعله لا يهادن ولا يصمت على عكس كثير من المثقفين الذين يكتفون بمواقف سلبية تجاه بعض القضايا الحساسة ، والتي تمس شخصيتنا وتاريخنا ، وقد مضى في مسيرته تلك غير نادم على ما قاله.
لقد أفدنا كثيرا كطلبة وباحثين من مؤلفاته التي كشف فيها جوانب كانت مظلمة في أدبنا العربي المغاربي القديم ، فكان كتابه دراسات في الأدب المغربي القديم ، بمثابة المصدر والمرجع في الآن نفسه ، كما تعرفنا على المورسكيينوما لحقهم من إبادة وبطش وتقتيل من خلال ما كتبه : المورسكيون ومحاكم التفتيش ، وتعرفنا على خصائص الشعر الإسباني المعاصر وكثير من شعرائه ، من خلال كتابه : مدخل إلى الشعر الإسباني المعاصر ، وعرفنا غابرييل غاريسيا ماركيز وبابلونيرودا ، وألكسندري ، وعديد الأسماء الكبيرة في تاريخ الأدب الأمريكولاتيني من خلال ما كتب وألف . كما تعرفنا على أدبائنا الجزائريين الذين لم نستطع إنصافهم في بحوثنا الجامعية من خلال ما حققه من مؤلفاتهم ، كما هو الحال في رحلة محمد الزاهي الميلي ، وابن العطار في مؤلفه تاريخ بلد قسنطينة ، وأحمد الغوالمي ، ومحمد الهادي السنوسي صاحب الكتاب الذي أبهر معاصريه ، وخلد مآثر شعرائنا في العصر الحديث : شعراء الجزائر في العصر الحاضر ، وعبد القادر الراشدي القسنطيني، صاحب كتاب تحفة الإخوان في تحريم الذخان، وصولا إلى سيرة المجاهد خير الدين بربروس .
فقد طاف بنا الدكتور عبد الله حمادي بقاعا من علوم شتى ، وأعلام تعرفنا إليها لأول مرة من خلال جهده المستميت في التأليف ونشر المعرفة ، فحقيق بنا أن نفتخر بما حققه هذا العلامة الذي سيظل نجم معارفه ساطعا في سماء الثقافة العربية ، فله منا كل الشكر والتقدير.
درس في الوجود
د. وسيلة بوسيس
نحتاج في حياتنا الثقافية إلى رجال معالم يبينون لنا الطريق ويشذبون أحلامنا ويخرجوننا من ظلمات البحث الفوضوي إلى نور الحلم بشيئ واضح المعالم وإذا كان آخر وأخطر من فعل هذا في حياتي هو الطاهر وطار رحمة الله عليه فإن أول وأكبر من فعله هو أستاذي الدكتورعبد الله حمادي أدين لعبد الله حمادي بفكرة كان يصر عليها دائما مفادها أن معرفة اللغة والأدب العربي الجيدة تمر بالضرورة بمعرفة اللغات الأجنبية وكان يردد علي مرارا على هامش إشرافه على رسالة تخرجي وأنا بعد في العشرين مقولة غوته pour connaitre sa propre langue il faut connaitre la langue d’autrui
.. لم أدر كيف تلبست بالحالة الحمادية التي فتحت شغفي على تعلم اللغات الأجنبية وقراءة الكتب ( باللغة الفرنسية تحديدا ) كل ما أدريه أن أستاذي – أطال الله في عمره- كان يملك طاقة غريبة شبيهة بالبوصلة ، تقودك إلى حيث تشاء ..مما أذكره على سبيل المثال لا الحصر أن تلك البوصلة قد قادتني إلى المركز الثقافي الفرنسي ، إلى أشخاص من قبيل جمال علي خوجة وحليمة علي خوجة الذين تربطهم صلة القرابة بالأديب مالك حداد ، قادتني إلى اكتشاف وثيقة تاريخية نادرة كتبها الشريف بن حبيلس “الجزائر الفرنسية كما يراها أحد الأهالي” ومحطات أخرى يطول ذكرها قرأت وأنا طالبة في جامعة قسنطينة كتب عبد الله حمادي واستفدت كثيرا منها ولكن أهم شيء بقي لي منه ليس درسا في مدرج ولا نصيحة أستاذ ولا دراسة في كتاب بل هو درس في الوجود يعبر كتبه مثلما يعبر أيامه إنه ذلك السلوك المتعالي الذي يمتح علو همته من كون صاحبه شاعرا ولا شيء غير شاعر شاعر يمشي شامخ الرأس يلقي قصائده بصدر ممتلئ ويغمض عينين راضيتين على آخر بيت من القصيدة وابتسامة الخيلاء ترصع النص وتتوج صاحبه ببريق الحضور وقوة التأثير لم يكن عبد الله حمادي كحال الأغلبية المسحوقة من بني جيله يعتذر أمام الناس عن وجوده ، عن كونه كاتبا ..وهذا درس نادر في مرحلة عرفت السقطات الكبرى النخبة ، المبادئ ، سلم القيم ، المجتمع المحلي ، الجامعة ، الساحة الثقافية ..إلخ أذكر في عام 2009 أنني قمت برحلة إلى مراكش ولم أنتبه إلا وعيناي تتقصيان مواقع كان أستاذي عبد الله حمادي قد بثها في روحي فأوحى إلى الرحالة غير المتمرسة التي كنتها آنذاك بخريطة طريق تمكنت من روحي على غفلة من ثراء الأمكنة ..كانت عيناي تلتهمان آلاف التفاصيل التي تجود بها ساحة جامع الفنا ولم أكن أكتشف شيئا جديدا بل كنت أستعيد رسوم الحكايا وأشهاد السرد الذي يملك سره أستاذي عبد الله حمادي كأنما هو واقف على دخان الذاكرة يقول للمشاهد الجميلة كوني فتكون وأذكر أكثر ما أذكر حكاية طريفة عن خوان غويتي صولو الذي كان حمادي يعرفه شخصيا حيث أنه قد زار بيته وأتاني بخبر تلك الشجرة الغريبة في باحة بيته والتي نصفها نارنج ونصفها ليمون وهي شجرة نسيت أن أحدث غويتي صولو عنها حينما لاقيته وما أنسانيها الشيطان بل أنسانيها ملاك حبيبته الميتة التي كان قد أصدر فيها كتاب ella ودار كل حديثنا حول هذا الكتاب الذي نصفه نارنج الذكريات الجميلة ونصفة ليمون العبقرية الأدبية ما هذه إلا ثمرة واحدة من شجرة زرعها فينا عبد الله حمادي يمكنني أن أقطف منها آلاف الثمار .
العالم الموسوعي المنفتح على كل الثقافات
• د. عبد السلام صحراوي
هذا الرجل ، الذي يصعبُ الحديث عنه في عجالةٍ، فهو أستاذٌ باحثٌ وشاعرٌ وروائيٌ وكاتبُ مقالاتٍ وأكاديمي محنّك وعارف، تشعرُ معه بأنّك في حضرةِ العلماء الموسوعيين . منفتحٌ على كلّ الثقافات الشرقية والغربية على حدّ سواء ؛ له ملامح المتنبّي و حذق أبي حيّان التوحيدي ، وعقل ابن رشد ، وفيوضات الفارابي وابن سينا، وسياحات السهروردي والجنيد ، وشطحات الحلاج، إضافةً إلى استقامة العلماء والرجال الذين لا يجود بهم الدهر دائما، من مثل سيف الدولة الحمداني ، والمعتمد بن عبّاد . يجمع في شخصيّته الأدبية والفنية بين امرئ القيس وأبي فراس الحمداني ، وإيزودور دوقاس ، ورامبو ، وابن عربي ، وغارسيا لوركا ، وغارسيا ماركيز .. وصولًا إلى الشابّي والبياتي ومحمود درويش ومفدي زكريا.
متخرّجٌ من جامعة مدريد وأستاذ مبرّز في جامعة قسنطينة . له كتابات عديدة منها : دواوين شعر مثل: تحزًّب العشقُ يا ليلى ، وقصائد غجرية ، والهجرةُ إلى مدنِ الجنوبِ ، وديوان البرزخ والسكين الذي نال جائزة عبد العزيز البابطين للشعر ، بالإضافة إلى ديوان" ..أنطقُ عن الهوى".
ومن دراساته: مدخل إلى الشعر الأسباني الحديث، وأصوات في الأدب الجزائري ، وشعراء الجزائر، والأندلس في الشعر الأسباني ، ومعجم شعراء الجزائر في العصر الحديث ، ورواية تَفُنَسِتْ، وغيرها من الكتب والدراسات التي تجاوز عددها الثلاثين كتابًا.
تخرّجَ على يديه عشرات الطلبة في سلكي الماجستير والدكتراه وأشرف على أطروحات ورسائل في مختلف التخصّصات الأدبية والنقدية، وله يعود الفضل مع مجموعة من الأساتذة في إرساء دعائم البحث العلمي الأصيل والأكاديمي في قسم الآداب واللغة العربية بجامعة منتوري قسنطينة. وهو صاحب المبادرات العلمية والمشاريع الثقافية خارج وداخل الجزائر. كان رئيسًا لاتحاد الكتاب الجزائريين . وشغل منصب مدير المركز الوطني الجزائري للدراسات والبحث في الحركة الوطنية . كما شغل عدة مناصب أخرى، ولكّنه ظلّ دائما الأستاذ الجامعي الحر في أفكاره وتوجّهاته، صاحب الإرادة القوية وصاحب الصوت المعبّر بحرية عن قناعاته ..همّه دائمًا هو الوصول إلى الحقيقة والمعرفة والمساهمة الفعّالة في خدمة الأجيال المتعاقبة من الطلبة والباحثين.
إليكَ يا أستاذ حمّادي كلّ التقدير والاحترام والإكرام ..
حين كنا نصعد الجبل
د. نواف أبو ساري
أذكر واعيا تلك السنوات البعيدة من عمرينا حين كنا نصعد الجبل حيث تتربع عليه جامعة الاخوة منتوري .. وكان بلا طريق معبد يمكن أن يقينا الانزلاق من الاوحال التي نجتازها لنصل الى قاعات الدرس أواخر سنة الف وتسعماية وتسع وستين ...وكان الشباب .. والعزيمة والامل ..كنا نجد أساتذة أفاضل يحبونك .. وأشهد شهادة حق وصدق أن أستاذنا الغائب الحاضر عمر الدسوقي لم يترك مناسبة إلا وأثنى عليك ....وزادك ثناء حين خاطبك مرة قائلا ماذا تنتظر يا عبدالله قل شعرا ..وكان ذلك بعد أن ذكر أنه أبدع قصيدة في غروب الشمس وقال فيها :
قرصها الغارب يبدو نصفه .......خلف سطح الما والنصف توارى
عوقته السحب تبغي فدية .........تتقاضاه عقيقا ونضارى
فنضى عنه وشاحا مذهبا .........ثم ألقاه على الافق وسارا
قسمته السحب فيما بينها ..........وتزين كبارا وصغار ا
وأكمل رحمه الله القصيدة ..فقلت له ولكن القصيدة هذه فيها أنفاس البهاء زهير ....فضحك ...وقال بعد ذلك ما ذكرت ..وكنا نفخر بك ..رغم هموم الدنيا وهي كثيرة .. وتعلمها وعايشتها و طحنتنا .. ولم تستطع أن تلوي عزائمنا ... عن طموحنا فكنت المتفوق بيننا وكنا قلة .. لعلها لن تتكرر .....أخي عبدالله ... لقد طال بنا العمر ..وتفرق الجمع الصغير في الدنيا ..ولكن جامعة الاخوة منتوري جمعتنا مرة أخرى ...لنكون حيث نحن الآن نرد جمائلها .. وخيرها ... ثم نرحل .. فمنا من فعل والباقي على الطريق ....وكان جهدك .. وعطاؤك قد زين رفوف المكتبات الوطنية .. واخترق الحدود.... نقدا وشعرا ورواية وأدبا عاما وما أكثر تلك الندوات الادبية التي تركتم بصماتكم على ظواهرها وبواطنها ... وكان الطلبة والمريدون..روادك ..وكنت وما زلت معينا لا ينضب ...وسيرة تحكى ... ولن انس ذاك اليوم الذي شرفني فيه ديوانك " انطق عن الهوى " بمناسبة ملتقى المدارج الصوفية الذي نظم بإشراف مخبركم فابديت رأيي في مداخلة عنك ....وأذكر أنني تعرضت لك ... ولم تحتج بل سمعت أنك سعدت بي وبما ذكرت وذلك حين جاء في مداخلتي أن ديوان " انطق عن الهوى " للاديب الشاعر الاستاذ حمادي عبدالله قد طرح إشكالية مقلقة ومختلفة عن أولئك الشعراء الذين أفرغوا عشقهم اللامتناهي بالذات الالهية ... وتوحدوا معها في حالات من الوجد والعشق الصوفي الذي يثير الوجدان ويبعث في النفس جملا من الأحاسيس والمشاعر التي تدفع الإثارة الدينية في النفس المؤمنة ...وفي نسيج أدبي رفيع متوحد بالذات الإلهية والهيام بها نفسا وروحا . وكان يوما طويلا وخاصة حين ذكرت أن قصائد هذا الديوان ليست متجانسة ولا متحابة في مواضيع عناوينها ... وفيه دلالات كثيرة خارجة عن إطار الهوى الصوفي ..إلا أن فيه قصائد أخرى ذات تعابير صافية فنيا ولغويا ووصفيا عالية القيمة ... وأردفت ...أن ديوان .." انطق عن الهوى " يمكن أن يكون بعنوان آخر فعنوانه كما هو قد خلق إشكالية كان حمادي عبدالله بغنى عنها .... ولمعرفتنا القريبة بالشاعر يمكننا القول أنه شاعر وأديب معروف يبحث عن الإثارة أحيانا ..أخي عبدالله مهما تحدثت عنك .. فلن أوفيك حقك عندي فأنت لست حديثا أنت علاقة تدوم وأخوة تبقى فكلما عاد بنا الزمن إلى الوراء نذكر قسنطينة بتراثها وجمالها وجامعتنا ..." الأخوة منتوري " وفضائلها علينا وما زلنا نعرف كيف نرد الجميل وكنت خير من فعل .