ماركـوندا.. القرية التي حولتها العشـرية السـوداء إلى قريـة أشبــــاح بباتنة
لا تزال تداعيات العشرية السوداء تلقي بظلالها إلى يومنا على قرية ماركوندا في عمق الأوراس ببلدية تاكسلانت، دائرة أولاد سي سليمان غربي باتنة، فالقرية التي كانت مرشحة لاحتضان مشاريع عدة شلت بها التنمية تماما طيلة سنوات، وتحولت بفعل ويلات الإرهاب إلى قرية أشباح، و قد وقفنا على بعض مظاهر المعاناة التي عاشها السكان خلال تنقلنا إلى ماركوندا، التي يرغب أهلها المهجرون منها قسرا في العودة إليها بعد استتباب الأمن إذا ما توفرت ظروف العيش الملائمة.
روبورتاج وتصوير: ياسين عبوبو
سكنات شاغرة هجرها أهلها بسبب العشرية السوداء
تقع قرية ماركوندا في عمق جبال الأوراس بالجهة الغربية لولاية باتنة وتتوسط جبلي بوغيول والرفاعة التاريخيين، اللذين كانا قلعتين من قلاع المجاهدين إبان الثورة التحريرية، والقرية التي كانت آهلة بالسكان قبل العشرية السوداء هي اليوم قرية أشباح بعد أن اضطر قاطنوها لهجرتها خوفا من بطش الجماعات الإرهابية خلال فترة التسعينات.
سكان ماركوندا مع بداية العشرية السوداء عانوا الويلات، حيث عرفت القرية سقوط ضحايا عمليات إجرامية عدة، و كانت علامات ذلك بادية في كل مكان من القرية التي تنقلنا إليها، حيث تبدو جلية مظاهر التهجير القسري للسكان و صارت ماركوندا و كأنها قرية أشباح.
خلال تنقلنا عبر مسلك ريفي يربط القرية ببلدية تاكسلانت شاهدنا على طول الطريق منازل وبساتين شاغرة توحي بأنها كانت تدب فيها الحياة منذ فترة مضت.
و على غرار ماركوندا فحتى بلدية تاكسلانت التي لا تبعد عنها سوى ببضع كيلومترات تضررت هي الأخرى بفعل العشرية السوداء ولايزال يتواجد بها مكتب خاص بضحايا الإرهاب، وعند مواصلة تنقلنا بين تاكسلانت وماركوندا وقفنا عند مدرسة ابتدائية طالها التخريب والإهمال وهي المرفق التربوي الذي تخرج منه حسب أحد أبناء المنطقة كان يرافقنا، عديد الإطارات الذين يشغلون حاليا مناصب عليا في أجهزة الدولة.
تراءت لنا على طول الطريق عشرات المنازل المهجورة و بساتين الأشجار المثمرة طالها الإهمال هي الأخرى، رغم ما تتوفر عليه المنطقة من موارد مائية هائلة، ساهمت على مر الزمن في النشاط الفلاحي من خلال توفير مختلف الخيرات من فواكه وخضر و حتى الحبوب و إزدهرت بالمنطقة نشاطات تربية المواشي. و أشار مرافقنا في هذا الصدد بأن سكان القرية كانوا يحققون اكتفاءهم الغذائي مما تنتجه الأرض متحسرا لما آلت إليه قريته بعد أن دفعت فاتورة انعدام الأمن.
استحضر مرافقنا ذكريات أليمة عاشها بعد أن قضى جزءا من طفولته بالقرية، و قال أنه لازال يتذكر تفاصيل الرعب الذي عاشه سكان ماركوندا خلال تلك الفترة، و كيف نجا الكثير من أبناء القرية من الموت المحقق، بعد أن كانت الجماعات الإرهابية قد قتلت أشخاصا أمام أعينهم.
واعتبر محدثنا أنه لحسن حظه كان تلميذا صغيرا في حقبة التسعينات، عندما عفت عنه جماعة إرهابية رفقة عدد من زملائه، مشيرا إلى حادثة قال بأنها لن تمحى من ذاكرته عندما اعترض الإرهابيون حافلة النقل المدرسي التي كانت تقلهم، و تم إنزالهم منها و تهديدهم بعدم العودة إلى الدراسة قبل أن يحرقوا الحافلة.
الطريق والكهرباء والسكن الريفي مطالب السكان و مشروع بئر ارتوازي متوقف
لم يكن تنقلنا إلى قرية ماركوندا في جزء المسافة التي تربطها ببلدية تاكسلانت أمرا سهلا، فالطريق إلى القرية مسلك ريفي لا زال وعرا، رغم إعادة تهيئته و فتحه قبل ثلاث سنوات من قبل مصالح الغابات لولاية باتنة.
و قد ذكر بعض السكان ممن التقينا بهم بأن إعادة تهيئة المسلك جاءت بعد احتجاجات شهدتها البلدية سنة 2009 للمطالبة بإعادة بعث الحياة في المنطقة من خلال تمكين السكان المُهجرين من العودة إلى خدمة أراضيهم، مشيرين إلى عدم إمكانية الوصول في الماضي إلى المنطقة بسبب الاهتراء الكلي للمسلك.
بعد توغلنا في القرية كان يسود الهدوء وسط سكنات منتشرة هنا وهناك على جانبي المسلك الريفي، كما أن القرية يبدو من الوهلة الأولى أيضا أنها عانت من ويلات الإرهاب لموقعها الجغرافي وسط سلسلة جبلية كانت في السابق معقلا للجماعات المسلحة، لكن وبعد استمرارنا في التنقل عبر المسلك الريفي باتجاه مرتفع جبلي يطل على منطقة حيدوسة، لمحنا مركبات مركونة أشار مرافقنا إلى أنها تعود لأصحاب الأراضي الذين يأتون إلى المكان لزيارة ديارهم ويشتغل البعض منهم على بعث النشاط الفلاحي.
وأثناء توقفنا عند مجموعة من السكان الذين التقيناهم على مسار الطريق عبَروا لنا عن اشتياقهم للعودة إلى القرية التي ولدوا فيها وقالوا أنهم متفائلون بالعودة، في حال توفير الشروط والظروف الملائمة للعيش وهنا تحسر أيضا من تحدثنا إليهم عن الواقع الذي آلت إليه قريتهم ماركوندا بعد أن كانت مرشحة لاحتضان مشاريع كبيرة كانت ستجعل منها شيئا مختلفا تماما عما هي عليه حاليا. أحد المواطنين من سكان القرية والذي انتقل بفعل العشرية السوداء إلى العيش ببلدية تاكسلانت، أكد بأن القرية و في سنوات الثمانينات تم ربطها بالكهرباء وكان سكانها ينعمون بالعيش الهنيء ويتطلعون لإنجاز مشروع الطريق، الذي كان مبرمجا ليربط بلدية تاكسلانت ببلدية حيدوسة مرورا بقريتهم على مسافة 12 كلم، وقال بأن المشروع الذي يعد بمثابة حلم السكان لم يتحقق و هم يأملون اليوم في إنجازه لبعث الحياة و الحركة بالمنطقة من جديد.
وقفنا خلال لقائنا بعدد من المواطنين بقرية ماركوندا على تحديهم للظروف الصعبة من أجل العودة لخدمة أراضيهم، فزيادة على اهتراء الطريق، أصبحت المنطقة معزولة أيضا بسبب انعدام الكهرباء، و قد لاحظنا وجود أعمدة كهربائية بعضها كان غير موصول بالكوابل و أخرى بها كوابل تم قطعها. و يعد الطريق المطلب الرئيسي للسكان حتى يتسنى لهم العودة بالإضافة إلى إعادة ربط القرية بالكهرباء، وقال لنا من التقيناهم بأنهم يأتون في النهار فقط إلى القرية لخدمة أراضيهم، ثم العودة مع حلول الظلام إلى مقرات سكناهم، وأكدوا بأنه في حال توفير الطريق والكهرباء فإنهم سيعودون بصفة نهائية للاستقرار بديارهم بماركوندا. يرفع السكان المهجرون من القرية إلى جانب مطلبي الطريق والكهرباء اللذين يعدان المطلبين الرئيسيين، مطلب الحصول على إعانات البناء الريفي، غير أنهم اصطدموا بشرط السلطات العمومية المتضمن عودتهم أولا للإقامة قبل الحصول على إعانات البناء الريفي، و قالوا بأن ذلك غير ممكن بسبب انعدام عوامل الاستقرار و في مقدمتها الطريق.المواطنون أشاروا خلال حديثهم معنا إلى مكان تم اختياره لإنجاز نقب بئر ارتوازي بجوار المدرسة وهو المشروع الذي وقفنا عليه وقد توقفت به الأشغال بعد أن جلبت مقاولة الإنجاز بعض مواد البناء من رمل وحصى، وقد غادرت الموقع حسب السكان منذ أشهر وسط ظروف غامضة رغم أهمية المشروع لتوفير المياه الشروب لكافة سكان بلدية تاكسلانت.
ماركوندا: طبيعة خلابة تحتضن و تروي تاريخا ثوريا
قرية ماركوندا التي تعد من بين المناطق المتضررة كثيرا خلال العشرية السوداء بالأوراس و إن رسم الإرهاب عنها صورة سوداء قاتمة خلال تسعينيات القرن الماضي بعد أن صارت منطقة محظورة، بدأت اليوم تدب فيها الحياة بعد استتباب الأمن و تريد ماركوندا و سكانها بعد طي صفحة الماضي القريب إبراز الصورة الحقيقية الأخرى للقرية، غير التي رسمتها لها سنوات العشرية السوداء، فالزائر للمنطقة سيندهش حتما لجمالها الطبيعي فضلا عن تاريخها المجيد إبان الثورة التحريرية، فالمنطقة تتوسط سلسلة جبلية تزخر بثروات حيوانية و نباتية نادرة لا توجد في غيرها من الأماكن، منها أشجار الأرز الأطلسي الممتدة إلى جبال الشلعلع. تبرز بالمنطقة مناظر طبيعية خلابة، فليس بعيدا عن ماركوندا يمكن الوصول إلى منطقة تارشوين التي تضم لوحات منقوشة على الصخور وسط الكهوف تعود للإنسان البدائي الأول حسب ما يُرجح، كما تتميز بانتشار المنابع المائية الطبيعية وهي المنابع التي تنبثق منها مياه عذبة تجري وسط السواقي و البساتين التي عاد البعض من أصحابها حسب ما وقفنا عليه لخدمتها مجددا. أوضح لنا سكان المنطقة و نحن نسير عبر المسلك الريفي الذي يطالبون بتعبيده على مسافة 12 كلم بين تاكسلانت وحيدوسة بأن الطريق و فضلا عن الأهمية السياحية التي يكتسيها فإن إنجازه سيقلص المسافة نحو ست بلديات بالجهة الغربية الشمالية باتجاه مدينة باتنة عاصمة الولاية. إضافة إلى كون ماركوندا منطقة سياحية فإن موقعها الجغرافي وصعوبة تضاريسها وسط المرتفعات أهلها للعب دور بارز إبان ثورة التحرير، حيث أن من سكان المنطقة من لايزال يتذكر والبعض الآخر يتداول نقلا عن آبائه وأجداده روايات المعارك الطاحنة التي وقعت بالمنطقة بعد أن شهدت أزيد من 22 معركة واشتباكا بين المجاهدين وقوات الاستعمار الفرنسي. وتوجد بالمنطقة عدة معالم تذكارية تخلد ذكرى سقوط شهداء الثورة التحريرية، ومن بين المعارك التي لا تزال تداول وسط أهل المنطقة و ما جاورها تلك التي امتزجت فيها دماء شهداء المنطقة بدماء شهداء جاؤوا من منطقة القبائل بعد أن شاركوا معا في معركة ضد المستعمر الفرنسي، وناهيك عن المعالم التذكارية الشاهدة والمخلدة للمعارك، يتواجد أيضا بإحدى المرتفعات التي يصعب الوصول إليها بقايا حطام طائرة حربية لقوات الاستعمار الفرنسي يقال أن المجاهدين أسقطوها بوسائل بسيطة، غير أن السكان يتحدثون عن اختفاء أجزاء من حطام الطائرة في ظروف غامضة خلال السنوات الماضية.
رئيس البلدية يعترف أن الإمكانيات غير كافية لإعادة الروح للمنطقة
أكد رئيس بلدية تاكسلانت عياش مباركي في حديث للنصر، على أهمية إنجاز الطريق بين بلديته و بلدية حيدوسة مرورا بماركوندا من حيث اختصار المسافة من جهة، و لأهميته السياحية من جهة أخرى، و أوضح “المير” بأن القرية كانت ستكون لها صورة مغايرة لولا الظروف الحالكة للعشرية السوداء التي مرت بها و تسببت في ركود تام للتنمية بعد هجرة السكان منها.و اعتبر المير أن شق الطريق بمثابة حلم و مطلب كافة السكان غير أن إنجازه –يضيف- لا يمكن تجسيده نظرا لكلفته التي تفوق إمكانيات البلدية، و أضاف بأن بلدية تاكسلانت على استعداد لترميم المدرسة التي طالها الإهمال في حال عودة السكان. وأوضح المير، في سياق حديثه عن العمليات الهادفة إلى بعث الحياة مجددا في ماركوندا أن مشروعا لحفر بئر ارتوازي بالمنطقة تشرف عليه مصالح مديرية الري والموارد المائية من شأنه أن يقضي على معاناة التزود بالماء بصفة نهائية لكافة سكان البلدية بمختلف تجمعاتها السكانية، مقرا بتوقف المشروع لأسباب غامضة قال أنه لا يعلمها، في حين أكد مدير الموارد المائية في اتصالنا به بأن المقاولة المكلفة بالإنجاز تم إشعارها من أجل استئناف الأشغال في أقرب وقت.رئيس بلدية تاكسلانت أكد بأن الهاجس الكبير لإعادة تأهيل المناطق المهجورة هو ضعف الاستفادة من حصص البناء الريفي مقارنة بالطلب الكبير عليه، مشيرا في هذا الصدد إلى توزيع 230 استفادة خلال الخماسي الماضي، وتحدث عن ارتفاع الطلب إلى أزيد من ألف ملف تم استقباله، في حين استفادت البلدية من 50 إعانة فقط، وقد تنازلت البلدية عن تلك الحصة الضئيلة حسب المير خشية إحداث فتنة وسط طالبي السكن الريفي. وطرح رئيس البلدية أيضا هاجس العقار موضحا بأن كافة العقارات ذات ملكية خاصة ما جعل مصالحه تعجز عن توفير وعاء عقاري لإنجاز مرافق وسكنات عمومية، منها حصة بـ70 سكنا اجتماعيا، و تحدث عن نشوب خلاف مع مصالح قطاع التربية، حيث تم رفع دعوى من طرفهم بعد الشروع في تشييد سكنات بحجة أن الأرضية التي أقيم عليها المشروع تابعة للمتوسطة.