الزواج و العــادات و التقاليد تمنع الفتيـــات من احتـــراف الغنــــاء بقسنطينة
انحصر التواجد النسوي على الساحة الفنية ، في مدينة قسنطينة، منذ أكثر من 60 سنة ، على قائمة من الأسماء لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة ، وهن صورية زبيري و حسنية إلى جانب فلة و زهور و زلوخة و الثلاثي الأخير من عائلة الفرقاني ، و هن فنانات تخصصن في نغمة البنوتات ،بينما اختارت صورية زبيري المالوف العصري و الفلامينكو، في حين تخصصت حسنية في المالوف ، النصر حاولت فهم أسباب هذا الشح في إمداد الساحة الفنية بوجوه جديدة من المغنيات ، على الرغم من الأعداد الكبيرة للفتيات في المدارس الفنية و الجمعيات ، وقد أجمع من تحدثنا إليهم على أن الزواج وتقاليد المدينة والنظرة السلبية للأوساط الفنية وراء عزوف المغرمات بهوى نغمة المالوف ، على التفرد و التغريد خارج سرب الجمعيات.
أوضحت الفنانة فلة الفرقاني ، وهي احدى رموز المالوف في قسنطينة ، نظرا لارتباط عائلتها بهذا الفن ، سلفا وخلفا جراء الموهبة الفطرية التي تتصف بها الأسرة ، بأن أهم الأسباب التي حالت دون ظهور أصوات جديدة على الساحة الفنية هو الزواج ، فطالبة الفن في الجمعيات يكون أول شروط زواجها التوقف النهائي عن ممارسة ذات الهواية. ، وهي نفسها كان هذا الشرط حاضرا قبل عقد قرانها ، وكفت عن الغناء خارج أسوار العائلة لما يزيد عن 17 سنة ،تفرغت فيها للأسرة وتربية الأبناء ، «ولكن أثناء العمل المنزلي، تقول فلة، كنت أدندن بشتى الأنغام التي ورثتها عن أسلافي و خاصة زهور و قبلها زلوخة ، وبذلك حافظت على فني وعلى أسرتي و تفرغت لتربية أبنائي «.و أوضحت بأنها عادت إلى الفن بعد أن كبر أبناؤها ، وشكلت منهم فرقتها الفنية ، التي تعمل الآن وتنشط معها في الأعراس والحفلات الخاصة ، على أن يكون كل ذلك في ظروف تحترم ، وتقدس العادات والتقاليد و ما يتوافق و خصائص العائلة الجزائرية على العموم.
فلة شرحت للنصر، بأنها وفي جولة خارج الوطن ، نشطت حفلات وأعراس بمعية فرقتها العائلية ، في النفس الظروف التي لا تتنازل على الغناء فيها ، داخل الوطن ، ولما علمت أن احدى الحفلات المبرمجة ، ستخرج عن ذات الطقوس التي تعمل فيها ، رفضت الغناء و فضلت العودة إلى أرض الوطن على التخلي عما ترعرعت فيه من قيم ، مقابل حفنة من الأورو.
نفس المتحدثة قالت أن الوسط الفني جد صعب على الفنانة المحافظة ، لما يتطلبه من تنقل وسهرات وهذا ما جعلها تفرض على نفسها قيودا لا تتخلى عنها . و هذا ما جعلها تشكل فرقة العائلية ، عناصرها من أبنائها ، الذين كبروا فشعرت بالفراغ ، فقررت أن تملأه بالفن الذي تعده هوى وهواء تتنفسه العائلة ، التي تمنع بناتها من الغناء نما عدا في السهرات والمناسبات العائلية ، على الرغم من أنهن يجدن الغناء ويتقنه مثلما هو الحال بالنسبة لمنيرة ابنة الحاج محمد الطاهر الفرقاني .
فلة تقول بأنها تقدم فقط طابع البنوتات دون غيره، كما تعلمته عن عمتها زهور ومن قبلها زلوخة ، و تتذكر المطربة ثريا التي أكدت أنها صوت جميل في سماء قسنطينة، لم ينل حظه من الاهتمام ، لتختمحديثها قائلة: «قسنطينة جد محافظة ومن الصعب على النساء البروز فيها منفردات خارج سرب الجمعيات ، فمعظمهن يرفضن الغناء في الأعراس ،ويقبلن ممارسته فيها على الرغم من الاختلاط مع التلاميذ الذكور ، وهذا ما يصعب تفسيره.
و أكدت من جهتها الفنانة حسنية :»أنا من عائلة محافظة و أهلي شاوية ، وخالي نوار العربي هو من لقنني فن المالوف.» وترى بأن من يرى نفسه محافظا ، لا يترك ابنته تذهب إلى الجامعة ، وتدرس في جمعيات الفن من منابعه الصافية على يد أساتذة، ابتداء من النوبات إلى السولفاج ، ثم العزف على مختلف الآلات ، وعندما تصبح الفتاة ماهرة و محترفة تحجب وتمنع من الغناء بمفردها ، في حين يسمح لها بذلك في إطار الجمعية .و أضافت بأن العكس يحدث بالعاصمة حيث يوجد أزواج في رواق الفن لهم أبناء و يعملون مع بعضهم البعض ، ويسهرون ، وهم كذلك محافظين و ناجحين في حياتهم . مؤكدة بأن المنحرفين و الفاسدين غير المتخلقين موجودين في كل المجالات و الأمكنة .واعترفت بأن ميدان الفن جد صعب لكنه ليس كله شر ، و التربية والأخلاق وحدهما من يميز بين الصالح والفاسد .
نفس المتحدثة أضافت بأن الجوق الجهوي بالعاصمة يضم الكثير من النساء المتزوجات و لهن أسر،و يقمن بعملهن ، دون أي مركب نقص ، بينما الجوق الجهوي بقيادة سمير بوكريديرة ، في أمسّ الحاجة لذات الأصوات النسوية ، التي تنشط في الجمعيات و تحرم منه تحت طائل المحافظة ، فتفوت على نفسها فرصة صقل موهبتها لتساهم في الحفاظ على تراث مدينة عريقة بعظمة قسنطينة ، وبذلك تبقى الفتيات مجرد هاويات للفن ، تحت هيمنة الجمعيات ، التي تمارس نفس الفعل بشكل جماعي و تساءلت :»ما المانع من ممارسته فرديا؟».
قالت الفنانة صورية زبيري ، مغنية المالوف العصري ، بأن الأصوات النسائية ضحية انعدام الإشهار و التسويق للأصوات الجديدة ، أو ما يسمى بصناعة النجوم و هي غير موجودة في الجزائر وفي قسنطينة ، فالمواهب الشابة تحتاج لمن يأخذ بيدها ، ويقدمها في الأوساط الفنية ، وهذا غير متوفر عندنا ، إضافة إلى نظرة المجتمع الخاطئة والسلبية للمنخرطين في ما كان يسمى سابقا في المدارس بالتربية الفنية ، و يمتحن فيها التلاميذ ، ليتحول فجأة إلى مجال مدمر للأخلاق ، على الرغم من أن الفن قبل كل شيء أخلاق.
أوضحت الفنانة بأنها من عائلة محافظة ، ولكن أهلها وتربيتها ساعداها على المضي قدما في هوايتها ، التي تعتبرها رسالة للحفاظ على تراث قسنطينة ، وتربية الذوق الرفيع ، والاحساس المرهف ، فالفن ،كما أكدت،يمكن أن يكون وسيلة لتهذيب الاخلاق والذوق العام ، وانتشال الشباب من الفراغ ، الذي ساهم في توسيع مظاهر الانحطاط الاخلاقي.
محدثتنا تأسفت لأن الفتيات الناشطات في الجمعيات ، بمجرد خطبتهن أو وعدهن بالزواج تختفين ، تحت تأثير المجتمع بكل عناصره.
يرى الفنان رشيد بوطاس الذي يحمل خبرة 40 سنة في الفن ، و تجربة 14عاما ،رئيسا لجمعية بلابل الاندلس ، بأن ضعف مستوى العنصر النسوي ، وقلة الالتزام بحصص التدريب ، حالا دون ظهور وجوه نسوية جديدة تخلف الأصوات الثلاثة التي تصدح حاليا في سماء قسنطينة ،إلى جانب انعدام الجدية للوصول إلى مرحلة الجودة والاتقان في العزف على مختلف الآلات.
بخصوص الصورة النمطية لتلميذات الجمعيات وهن يتأبطن مختلف الآلات الوترية ، يرى بأنها مجرد تمظهر ، على عكس الذكور الذين لهم قدرات عجيبة على التعلم ، حسبه ،في ما يخص ولوج العنصر النسوي باب الاحتراف،قال أن للتقاليد دور في حجب ذات المواهب ، فهو نفسه لم يستطع إدخال ابنتيه في عالم الفن، التزاما بتقاليد عائلته التي لم تغن فيها أية امرأة ، على الرغم من امتلاكهما لقدرات كبيرة جدا تحتاج فقط إلى بعض الصقل.
رشيد بوطاس أكد بأن ما هو موجود جد غث ، ولكن فراغ الساحة سمح ببروز ما هو موجود.
فيما ذهب الأستاذ باجين الذي يشرف حاليا على تدريب ، وتعليم مجموعة من الفتيات في دار الشباب باب القنطرة ، بأنه لم يجد تفسيرا مقنعا لظاهرة اختفاء الفتيات اللائي يكونهن منذ سنوات بمجرد خطوبتهن ، وهذا بعد أن يصلن إلى درجة كبيرة من التعلم.مضيفا بأنه قد مرت أمامه وجوه كثيرة جدا ، لم يعد لها أثر و لا تأثير على الساحة الفنية .و أعرب عن تعجبه من خوضهن تجربة التعلم لسنوات ولساعات طويلة جدا ، من أجل أن يختفين فجأة هكذا ، بعد أن يغير المجتمع نظرته إليهن ، فيعاملهن كمسؤولات عن مهام معينة فيه بعد عقد قرانهن. و ذلك بعد أن كن عازبات تمارسن نوعا من الحرية في بيوت عائلاتهن ، وهو ما يفتقدنه بعد زواجهن.
بهذا يبقى الحديث عن الفن والوسط الفني ، حينما يتعلق بالعنصر النسوي ذا شجون ، تختلف النظرة إليه، حسب الزوايا التي يقف فيها كل طرف ، تكاد تتناطح و تتعاكس ، إلى حد التناقض ، فمجتمع المدينة رغم مظاهر التفتح التي يعيشها ، أين وصل في بعض منعطفاته مرحلة التفسخ ، ولكن نظرته إلى الفتاة الفنانة فيها الكثير من التحفظ قد تصل حد التطرف ، حينما يتعلق بالمحيط القريب للمتحدثين.
إن المجتمع القسنطيني لا يتسامح مع الشبان الذين يقررون ولوج عالم الفن ، و بالتالي فمن الصعب أن يسمح لبناته خوض ذات المغامرة.
ص .رضوان