حي "الروتيـار".. عراقـة تصـارع الإهمـال بقلب قسنطينـة
يتجه التاريخ العريق لشارع «طاطاش بلقاسم» بوسط مدينة قسنطينة نحو التلاشي تدريجيا، بعد أن اختفت الكثير من الشواهد على فترة مضت، تعايش فيها الأوروبيون مع اليهود و العرب، فالعمارات الأوروبية التي كانت تحمل في طياتها أسرار تلك الحقبة، بدأت تتداعى أمام عوامل الزمن، و بات من الضروري حسب السكان، أن تخضع للترميم حتى لا يكون مصيرها الزوال قريبا.
و يعرف شارع «طاطاش بلقاسم» بين عموم سكان مدينة قسنطينة باسم «الروتيار»، أي الجزء الأوروبي من ما يعرف أيضا باسم «الشارع» و هو الحي الممتد على مسافة كبيرة تضم مئات المباني العربية القديمة و العمارات الأوروبية التي بنيت في بداية القرن العشرين، حيث تطل مباشرة على جرف صخري مرتفع أعلى وادي الرمال، و يمتد «الروتيار» من حي باب القنطرة صعودا على طريق متعرج نحو شارع فرنسا و حي القصبة، و على جانبي الطريق تقع عشرات العمارات ذات الطابع الأوروبي القديم، و هي متشابهة سواء في الشكل أو الحجم، و تتميز بالأقواس التي تشكل طوابقها الأرضية.
هذه العمارات بُنيت خلال الفترة الاستعمارية عند تشييد وسط مدينة قسنطينة بين نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، و لا تزال إلى اليوم تحتفظ بشكلها الخارجي الجميل، غير أنها بدأت تفقد الكثير من هويتها، بداية من أبواب المداخل الخشبية التي استبدُلت معظمها بأبواب من الحديد، أما ما تبقى منها فأصبح مهترئا جدا، كما أن السلالم الخشبية القديمة التي ترمز بدورها لعراقة المباني، أزيلت بدورها و أنجزت مكانها سلالم من الإسمنت و الحديد.
و قد لاحظنا بأن بعض الأجزاء الخارجية كالحجارة التي تشكل أعمدة الأقواس أو تلك التي تزين الجدران الخارجية للمباني، قد بدأ بعضها في السقوط، أما عن حالة العمارات من الداخل فليست أحسن من أجزائها الخارجية، و لو أن هذه الأخيرة قد تم طلاؤها و تحسين مظهرها قبل أقل من سنتين، بمناسبة تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، فيما تبدو المنازل من الداخل في حالة يرثى لها حسب ما أعلمنا قاطنوها، و بالأخص القديمة منها، حيث أن التشققات و حالة الأسقف تنذر بوقوع الأسوأ إن لم تخضع لترميم عاجل من قبل مختصين، من أجل مراعاة الطابع القديم للبناء، على حد تأكيد محدثينا من السكان، أما عن الترميمات السابقة فلم تكن ناجعة، خاصة أنها لم تتعد تحسين المنظر، حسبهم، كما أنها لم تكتمل، موضحين أن المباني لم تخضع لترميمات داخلية ناجعة.
و يبدو أن عراقة المكان لم تشفع له حتى يكون واجهة سياحية للمدينة، خاصة أنه يتوفر على إطلالة خلابة على أخاديد وادي الرمال، فالنظافة غائبة و كل شيء يرمى في الوادي مما يشوه المنظر خاصة أن معظم القمامة تعلق على الحواف الصخرية، أما الطريق فمهترئة و مليئة بالحفر، بما يعكس إهمالا واضحا، و لاحظنا أن إحدى الأجزاء التي يستعملها الراجلون كطريق مختصر نحو الجسر الصغير الرابط بطريق ثانوية رضا حوحو، غير معبد تماما و تغطيه الأوساخ و الأوحال، كما أن الانزلاقات تشكل خطرا على المكان، و لعل انهيار السور المقابل للثانوية قبل نحو سنتين أكبر إنذار، غير أنه لم يتم اتخاذ أي إجراءات لمنع تكرار الأمر.
معهد الأفارقة، السيناغوغ و بنك الرهن شواهد على عراقة الشارع
و يضم المكان الكثير من الشواهد على فترات سابقة من الزمن، حيث أن الحي الذي سكنه الأوروبيون لسنوات طويلة قبل الاستقلال، كان ملاصقا لأحياء العرب و اليهود، و لعل أبرز الأماكن المشهورة هي بيتا مغنيي المالوف الشهيرين "ريمون" و "أنريكو ماسياس"، كما أن المركز الثقافي الإسلامي يؤرخ لتلك الحقبة التي كان خلالها عبارة عن معبد يهودي "سيناغوغ"، أما المدرسة الابتدائية عبد الحميد بن باديس، فقد كانت معهدا لتعليم اللغة العربية، و كانت تستقبل الأجانب من جنسيات إفريقية مختلفة لتعليمهم أصول الدين و اللغة.و يعد بنك الرهن أو "الرهينة" كما يسمى لدى سكان المدينة، من أبرز معالم "طاطاش بلقاسم" حيث أن "بنك التنمية المحلية" اليوم، يُعد منذ سنوات طويلة، أحد مصادر الرزق التي يلجأ إليها القسنطينيون مضطرين عند الحاجة، ليقوموا برهن أغراضهم الثمينة خاصة من الذهب لقاء مبالغ مالية، ليعودوا لاسترجاعها بعد فترة من الزمن بعد أن يتوفر لديهم المبلغ الكافي لذلك، أما من يعجزون عن استرجاعه فيصبح ملكا للبنك الذي يقوم ببيع السلع المرهونة، و قد أخبرنا بعض كبار السن أن البنك كان يقبل قديما رهن الكثير من الأغراض و حتى الأواني و الأثاث، التي كانت تعرض للبيع بعد ذلك في مستودعه الخلفي.
و يضم الحي أحد أقدم و أعرق مصلحي الدراجات في مدينة قسنطينة، حيث أن إحدى العائلات من إخوة و أبناء عمومة، تتوارث المهنة أبا عن جد و على مستوى محلين مفتوحين منذ سنة 1937، الأول مختص في تصليح الدراجات الهوائية و المحل الأكبر مختص في تصليح الدراجات النارية، حيث يقصد معظم أصحابها هذا المكان بالنظر إلى تاريخه و عراقته، و حسب ما لاحظناه فلم يتبق الكثير من الحرفيين الذين كانوا في وقت سابق كثيرين في المكان، حسب روايات السكان، ما عدا محل لتنجيد الأثاث المنزلي و تصليحه، و هو قديم إذ يعود، حسب الحرفي الذي يشتغل فيه، إلى أربعينيات القرن الماضي، كما أن هناك محلين لبيع الأثاث القديم و التحف النادرة التي يعود صنعها للقرنين الماضيين، و هما من الأماكن المميزة، حيث يتناسبان مع عراقة المكان، و لو أن التحف التي تباع غالية جدا، إذ أن ثمن القطعة الواحدة، قد يصل إلى 15 مليون سنتيم أو أكثر.
عبد الرزاق.م