نساء يكشفن أسرارهن الزوجية و رجال يعيشون بطولات خيالية
زيارة عيادة الطبيب في الجزائر تعد بالنسبة للبعض فرصة لبناء علاقات اجتماعية، بينما هي بالنسبة لكثيرات مكان لاقتناص عريس أو الحصول على حل لمشاكل اجتماعية و حتى صحية عديدة، فقاعة الانتظار لوحة تعبر عن واقع مجتمع يعيش تغيرات كثيرة، لها انعكاسات على أفراد لا يجدون سبيلا للتعبير عن مكنوناتهم إلا في مثل هذه الفضاءات أين يلتقون بغرباء يجهلون حقيقتهم، ما يمنحهم شعورا بالثقة للفضفضة و عيش شخصيات أخرى يهربون إليها من واقعهم اليومي.
نور الهدى طابي
فضاء للفضفضة و ربح الوقت
وليس غريبا إن قلنا إن هذه الفضاءات سواء في العيادات الخاصة أو المستشفيات و المراكز الصحية، تعتبر مصدرا للاطلاع على آخر المستجدات على الصعيد الوطني والدولي، وعناوين المخابر وأسعار خدماتها ناهيك عن السير الذاتية للأطباء، وأعراض مختلف الأمراض وطرق علاجها، ووصفات الطبخ، وطرق الحمل، دون أن ننسى المشاكل اليومية وحتى الشخصية، علما ان هذا السلوك لا يقتصر فقط على النساء بل حتى الرجال كذلك باتوا من هواة هذه الجلسات التي تشبه جلسات التواصل العلاجي الجماعي.
زرنا مؤخرا عيادتين الأولى لطبيب أسنان و الثانية لطبيب نسائي، لنقف على طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تبنى من العدم داخل قاعات الانتظار، عند وصولنا للعيادة الأولى استنتجنا بأن النقاش بدأ باكرا، والغريب في الأمر أن الجلسة تدار عادة من قبل مريض ما، هو الأكثر ثرثرة، وكأنه يدير النقاش بينما يتبعه الآخرون بردود الأفعال، وحجتهم في ذلك أن تبادل قصص الحياة فرصة لربح الوقت و الفضفضة.
وصفات الطبخ و الحماة و الكنة ..لب المواضيع النسائية
من بين أكثر المواضيع التي تتداولها النسوة في قاعات الانتظار داخل العيادات، هي قصص الحماة و الكنة، باعتباره موضوعا لا تتوقف قصصه، فخلال تواجدنا بعيادة لأمراض النساء بالخروب بقسنطينة، لاحظنا بأن المريضات لا يجدن حرجا في كشف أسرار حياتهن الخاصة، فمنهن من تحدثت عن لقائها بزوجها و زواجها به ومن ثم معاناتها مع عائلته و خصوصا والدته، التي شكلت دائما الشخصية الشريرة في كل قصص المريضات فمنهن من اشتكت من ظلمها و تسلطها و أخريات اشتكين بخلها.
زوجة الأخ حلت في المرتبة الثانية من حيث «السمعة السيئة»، إذ وصفتها بعض المريضات بالشيطان الذي دخل بيت العائلة فخربه، ومنهن من كن محظوظات بكنة لطيفة تجيد الطبخ، وبمجرد ذكرهن لهذه الكلمة انتقلن مباشرة لتبادل الوصفات و الأفكار المنزلية التي جرّتهن للحديث عن تربية الأبناء و مشاكلهم الدراسية ، لتقفزن بطريقة غير مباشرة لموضوع الأطفال و تأخر الحمل و أسبابه و طرق علاجه.
تشخيص مسبق للمرض و وصفات جاهزة
وبمجرد خوضهن في الحديث عن المرض و تحديدا الحمل و مشاكله، باشرت كل مريضة في استعراض تجربتها و تجربة قريبة لها و إحدى معارفها و انتهت كل واحدة بذكر مجموعة من الوصفات المنزلية السهلة التي نصحت بها المريضات الأخريات، كما نصحتهن أيضا بزيارة مدلكة أو معالجة بالأعشاب سبق لها أن زارتها هي أو صديقة لها.
طال الحديث عن المرض فبدأت كل واحدة بسؤال الأخرى عن سبب زيارتها للطبيب وكلما كشفت إحداهن عن علتها شخّصتها الأخرى بكل سهولة بالعودة لتجربة سابقة و قدمت للمريضة حلا، فهناك من أقسمت بأن خليطا من الأعشاب و الزيوت هو خلاص المريضة و حلها الوحيد، مؤكدة بأن قريبة لها زارت أطباء كثر و سافرت إلى الخارج للعلاج لكن الحل الوحيد كان في الوصفة المذكورة.
و الملاحظ أنه كلما همّت مريضة بالمغادرة تختم سلامها بالقول بأنها كانت فرصة سعيدة و أنها ارتاحت نفسيا بعد أن أفرغت ما في جعبتها من هموم، وهي التي لم تكن تجد من يستمع لمشاكلها دون أحكام مسبقة.
فتيات في رحلة بحث عن عريس
و إذا كان الهدف من الدردشة مع الغرباء في قاعة الانتظار هو ربح الوقت و الفضفضة بالنسبة للبعض، فإنه بالنسبة لفتيات كثيرات فرصة للتعرف بحماة المستقبل أو فرد آخر من عائلة عريس محتمل، لذلك تتأنق الكثيرات وهن يقصدن عيادة الطبيب و تحاولن البروز بقوة خلال كل حديث عن الزواج و أخلاق الكنة و حتى الطبخ و وصفاته، اذ تجدن دائما مناسبة لذكر أعمارهن و شهاداتهن و استعراض مهاراتهن المنزلية و اليدوية كالحياكة.
علما أن الجلسة دائما ما تحضرها مريضة يتضح بالصدفة بأنها خطبت في عيادة الطبيب، و بالتالي فإن المكان لم يعد أقل توفيرا للفرص من الأعراس و الحمامات الشعبية، لأنه مناسب جدا لتكوين علاقات اجتماعية جديدة.
كادت تُطلق بسبب دردشة مع غريبة
بعد قرابة ساعتين من الزمن ونحن نستمع لأحاديث المريضات سألتنا إحداهن عن سبب عدم تفاعلنا مع الأحاديث، فأجابتها أخرى عوضا عنا، بأننا محقون في التزام الصمت، قبل أن تسرد قصة سيدة قالت بأنها قريبة لها، كادت تطلق بسبب حديث مع غريبة في عيادة طبيب نسائي، فالمعنية اشتكت من بخل زوجها و عائلته علنا، و اتضح بأن إحدى المريضات صديقة لعائلة الزوج نقلت حديث الكنة للعائلة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها وكادت المعنية أن تطلق بسبب ما قالته، وهنا سادت برهة من الصمت في المكان و تبادلت المريضات نظرات الريبة والتوجس، قبل أن تكسر الصمت و تبدأ حديثا آخر.
رجال يعيشون بطولات خيالية بحثا عن الشعور بالأهمية
محطتنا الثانية في الاستطلاع كانت عيادة طبيب للأسنان ببلدية عين سمارة، اخترنا الجلوس في صالة الانتظار المخصصة للرجال هذه المرة، هنا كانت الثرثرة قليلة مقارنة بصالة النساء، لكن وجه التشابه كان ذلك الشخص الذي يدير النقاش و يقفز من موضوع إلى آخر، وقد كان رجلا في عقده الرابع تقريبا، باشر الحديث عن موضوع الساعة « أين سيشاهد الجزائريون مباريات كأس أمم إفريقيا و هل الفريق الوطني مستعد و قادر على الفوز باللقب»، نبرته كانت تعطي انطباعا بأنه يحاول لفت الانتباه، كان ينتقد سياسة التلفزيون الجزائري و عدم قدرته على نقل المباريات، وقاده ذلك للحديث عن الأسباب التي شخصها بأنها اقتصادية.
وكأنه خبير في السياسة و الاقتصاد أسهب في وصف الأوضاع في البلاد، ثم عاد للحديث عن الفريق الوطني و انتقاد تشكيلته و تقييم اللاعبين و المدرب ليكون محللا رياضيا ، الحديث شمل أيضا آراء أخرى لمرضى لم تكن أصواتهم تسمع أمام صوته.
انتهى الحديث عن الكرة و بدأ حديث آخر عن سوريا و الحرب و من ثم عن إسرائيل و فلسطين و كان الجميع تقريبا يحاولون إبراز وطنيتهم و مواقفهم الثابتة، لدرجة أن النقاش أصبح مشحونا و حلت فيه منافسة بين محللين سياسيين يصر كل واحد منهما على أن رأيه هو الأصح.
وبمجرد أن بدأ الملل يتسلل إلى القلوب بسبب طول الانتظار أصبحت البيروقراطية مادة دسمة للحديث، وهنا كان كل واحد يستعرض بطولاته في التعامل مع الموظفين و فرض شخصيته أينما حل، محيطا نفسه بهالة من الأهمية مع ذكر معارفه من المسؤولين و استذكار مواقف بطولته، لدرجة أن أحدهم اقسم بأنه أزاح مسؤولا من منصبه باتصال واحد.
أخصائية علم النفس الاجتماعي فاطمة الزهراء بن ستار
فضاء الانتظار يعوض النفساني في مجتمع يفتقر لثقافة الحوار
توضح أخصائية علم النفس الاجتماعي بمركز الصحة المجتمعية بالخروب فاطمة الزهراء بن ستار، بأن حلقات الحديث التي يشكلها المرضى في قاعات الانتظار بالعيادات و المرافق الاستشفائية، تشبه كثيرا حلقات العلاج الجماعي المعروفة في الخارج، وهي نوع من أنواع العلاج النفسي من خلال خلق فضاءات للتواصل في مجتمع أصبح يعاني من غياب ثقافة الحوار بشكل كبير.
وأرجعت السبب أولا لتراجع دور الأسرة و تقلص عدد أفرادها ما فرض نوعا من العزلة على الفرد، أما السبب الثاني فهو تطور وسائط التواصل التي عززت هذه العزلة و كسرت قنوات الحوار المباشر، وعلية فإن الشخص حسبها، أصبح يعجز عن التعبير عن مشاكله خوفا من غياب طرف آخر يفهمه و كذا تجنبا للأحكام الاجتماعية، خصوصا وأن هده المرحلة تعرف سطوة للمظاهر الاجتماعية بشكل كبير.
من جهة ثانية فإن النظرة السلبية و الخاطئة التي ينظر بها المجتمع للطبيب النفساني، قلصت فرص التعبير و المساعدة النفسية للجزائريين الذين يعانون من مشاكل حقيقية ناتجة عن تغيرات اجتماعية و اقتصادية عديدة، وعليه فإن قاعات الانتظار و غيرها من الفضاءات المشتركة المغلقة فرضت نفسها كبديل بالنسبة لأفراد يرتاحون لفكرة الحديث مع غرباء لا يميلون إلى الحكم عليهم، بقدر ما يشاطرونهم مشاكلهم، وعليه يبحث هؤلاء عن إبراز الجانب الخفي من شخصيتهم للحصول على اهتمام أكبر يعزز ثقتهم بأنفسهم.
ن.ط