الإقتصاد الجزائري لن ينهض إلا بسبع شركات كبرى
إحتل رجل الأعمال الجزائري إسعد ربراب المرتبة 577 ضمن أكبر أثرياء العالم . وهو الوحيد من الجزائريين الذين سمحت لهم ثرواتهم بالتواجد ضمن آخر ترتيب للأثرياء الذي نشرته المجلة الأمريكية الإقتصادية المتخصصة " فوربس " التي تأسست عام 1917 بنيويورك . وتستند المجلة التي تحظى بمصداقية وشهرة عالمية واسعة في هذا الترتيب إلى معايير دقيقة وأرقام قابلة للتأكد والمراجعة في كل لحظة . بتعبير أوضح يعني الشفافية في التسيير والعصرنة في ميكانيزمات المراقبة .
أن يتواجد جزائري ضمن أغنى أغنياء العالم شيئ مفرح ومفعم للقلوب ، حتى وإن كان البعض ( والعياذ بالله ) لا يريدون الربح للآخرين ؟ . نحن نختلف مع الذين في قلوبهم مرض ، فزادهم الله ... يتصرفون بمنطق أفقأ عيني لتفقأ عينين لصديقي ؟ . نحن من الذين ينظرون إلى ربراب وإلى غير ربراب من خلال المشاريع التي يقيمونها وما تفتحه من مناصب شغل ، وما يسهم به في الإقتصاد الوطني من ثروات ومنتوج وخدمات ، تسهم جميعها في تبسيط حياة الجزائريين ورفاهيتهم . من الطبيعي أننا نرغب في تزايد أثرياء الجزائر ولكن ربحا مشروع المصدر ، وطني المدخول . مع ضرورة إتاحة الفرص لجميع الراغبين في الإستثمار بمعايير شفافة وبإجراءات مبسطة وغير معقدة ، لا تحتاج إلى وساطات أو إلى رشوة . نحن بحاجة إلى فتح الأبواب أمام المستثمرين الحقيقيين وليس" البقارة وأصحاب الشكارة ". اللهم أمطرنا بآلاف الأثرياء الذين يكدون ويجدون ويبدعون ويعددون مصانعهم ولكن من مال حلال واضح المصدر وسهل المراقبة والتأكد . كثير من الجزائريين باتوا ينظرون بعين التساؤل المحير حتى لا أقول " الحسد والريبة " إلى بعض الذين أصبحوا أغنياء بين عشية وضحاها ؟ . الثروات هي تراكم خبرات وتجارب وجهود وإبداعات وضوابط تسيير وبرامج طموحة . وتقيد بقوانين العمل والحقوق المهنية والإجتماعية للعامل .
في بلادنا يكاد يكون الإستثناء . ينام الواحد فقيرا يستجدي ليصبح في اليوم الموالي وبقدرة قادر من أثرياء القوم والمدينة والقرية والمنطقة ؟. من أين له هذا ؟ . أكثر من ذلك أصبح ينظر إليه في العرف الشعبي بإفتخار وإعجاب على أنه " شاطر وقافز " . مؤسف هذا الوضع غير المشروع وغير المبرر . إن بعض الأثرياء الجدد فعلا هم محل شبهات ، لكن هذه مهمة منوطة بالمصالح المختصة أمنية كانت أم إدارية ( ضرائب وجمارك وضمان إجتماعي وتأمينات ... ) . رغم أن الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه ، إلا أن منطقا مقلوبا بات يسكن عقليات وذهنيات كثير من الجزائريين يمكن إيجازه في السؤال التالي : لماذا ينظر الجزائريون بعيون الريبة والشكوك إلى أصحاب المال ولا أقول إلى الأثرياء دون تمييز أو إستثناء ؟. بل حتى إلى كل من يملك سكنا مستقلا ، أو يركب سيارة فاخرة ، أو حتى عادية ، وربما حتى إلى من ذهب في رحلة إستجمامية إلى أبسط فندق أو مركب سياحي؟ . وأحيانا يثيرون القيل والقال حتى على من يغير هندامه بإنتظام ويلمع حذاءه ؟ . يحدث هذا كما رواه لي بعض الزملاء والأصدقاء . أليس من حق الجزائريين أن يتجاوزوا فقرهم ونكد عيشهم ، وأن يعيشوا حياة رفاهية مشروعة ؟. المفروض ، هذا هو المطلوب وليس العكس . إن الذين إستثروا بين عشية وضحاها بطرق غير مشروعة أو على الأقل هي محل شبهة أقلية مهما بلغ شرهم وفسادهم ذروة ووقعا . وأن الذين أنعم الله عليهم بفضله وخيراته بدعم واضح من الدولة وبرامجها وقروضها هم الأغلبية العظمى . الإعتقاد بعكس ذلك فيه إجحاف للنزهاء الشرفاء من أصحاب المال الذين عملوا وإجتهدوا لتطوير مشاريعهم وتنمية ثرواتهم، وتمكنوا من خبرات جديدة بفعل إنفتاح أكبرعلى شراكات ومكاتب دراسات أسهمت في تطوير مؤسساتهم وشراكاتهم .
الفرق يكمن بين من إستوعب بدقة التحولات الإقتصادية والإجتماعية التي تشهدها الجزائر ومن ظل حبيس ذهنيات جامدة مرتبطة بمراحل وأساليب تسيير عقيمة يعود معظمها إلى مراحل سنوات الإشتراكية . أي إلى مراحل الإقتصاد الموجه الذي قتل المبادرة وأفقد العمل قيمته . وهي مرحلة كنت وصفتها في خميس سابق بمرحلة الدولة المانحة للأرزاق .
أن يتواجد الجزائري ربراب ضمن أثرياء العالم ( الرتبة 577 رغم تراجع ثرواته بحوالي 200 مليون دولار لعام 2015 مقارنة مع 2014 ) وعددهم 1826 مليارديرا في كل ربوع العالم ، حتى وإن كان أثرياء الولايات المتحدة الأمريكية يحتلون المراتب الأولى عددا وثروة ، كبيل غيتس الذي يتربع على ثروات العالم . قلت إن تواجد ربراب ضمن أثرياء العالم لا يجعلنا نعتقد بأن الجزائر بلد ثري . فهو الوحيد بين 1826 مليارديرا عالميا تفوق ثروته المليار دولارا. و قدوم خطاف واحد لا يصنع الربيع . في حين أن بلدانا كانت تنتمي إلى ما يعرف بالمعسكر الإشتراكي ، أي النظام الإقتصادي العمومي الموجه ، تكاثر أثرياؤها ومليارديراتها بالمئات كما هو الحال في الصين وروسيا وحتى في مصر ولبنان . لقد تكاثر عدد الأثرياء في الصين وكوريا الجنوبية والمكسيك وروسيا وفرنسا وإسرائيل والسعودية والإمارات وإسبانيا ومصر والمغرب أفقيا وغير هذه الدول . هذا يعني إرتفاع عدد الأثرياء في العالم . بينما في الجزائر النمو يتم عموديا ، أي أن عدد الأثرياء لم يرتفع عدديا ولكن في تكدس الثروات عند البعض أي إحتكار الثروات والأموال من طرف الأقلية . ربما هذا ما يدفع أولئك الذين سبقت الإشارة إليهم إلى إثارة الشبهات والتساؤلات عن هذا التفاوت ويطرحون أسئلة عن خلفيات الثراء وتفاوت الفرص حتى يكون الثراء أفقيا ، أي أن يتزايد عدد الأثرياء ، ولا ينحصر في مجموعة صغيرة تعد على أصابع اليد الواحدة .
أن يملك رجل الأعمال إسعد ربراب 3 فاصل 1 مليار دولار من مجموع ثروة إجمالية تفوق 7000 مليار دولار ل 1826 رجل أعمال في العالم لعام 2015 ( عددهم كان 1645 عام 2014 بثروة إجمالية تفوق 6400 مليار دولار ) ،لا يمثل إسهاما كبيرا حتى لا أقول لا يمثل تقريبا شيئا في الثروة العالمية . نسبة ضعيفة جدا ، حتى وإن إحتل ربراب بثروته المرتبة الثانية إفريقيا .
لماذا لم يتكاثر الأثرياء في الجزائر أفقيا رغم كل الخطابات والتسهيلات والفرص المتاحة بفضل سياسة إنفتاحية مدعمة بمداخيل مالية غير مسبوقة من مبيعات النفط ؟ . جواب هذا السؤال قد نجد تفسيرا له في تقرير أمريكي آخر نشر أمس الأول
حول سوق المال والأعمال والتجارة ، وشملت دراسته 130 دولة من مختلف المستويات ( البلدان الثرية والنامية والأقل نماء ، ولا أقول الفقيرة ) . حسب هذا التقرير الذي أعدته " أف أم غلوبال "
( شركة متخصصة في المعايير الصناعية والتجارية والتأمينات ) فإن الجزائر تحتل مرتبة متخلفة جدا في مجال المرونة الإقتصادية والممارسة التجارية ( الرتبة 119 / من 130 دولة التي شملتها المعاينة والدراسة ) . هذا يعني أن معايير الإستثمار وميكانيزمات التحفيز سيئة وغير مغرية أو مشجعة على الإستثمار والشراكة .
وإعتبرت نفس الدراسة أن الإقتصاد الجزائري غير " آمن " لأنه يقوم أساسا على عائدات ومداخيل النفط ، وهذه المادة الإستراتيجية غير مستقرة الأسعار . وعليه لا يمكن تحديد معايير النجاح والنمو بدقة . دون أن تفوتها الإشارة إلى إرهاصات ومعوقات وفواتير أخرى مرتبطة بتفشي الفساد والرشوة وعراقيل بيروقراطية مختلفة منفرة للمستثمر بشكل عام . حيث ، حسب ذات التقرير فإن الجزائر تحتل المرتبة 88 من أصل 130 دولة التي شملتها الدراسة ، فيما يخص الفساد والرشوة .
يقول الخبراء الإقتصاديون وأهل الإختصاص أن كثرة الأموال ليست معيارا أو مقياسا وحيدا للنمو . وأن الدولة المتقدمة لا تقاس بمدى ما خزنته من أموال وإحتياطات ، وإن كانت هذه ضرورية بالتأكيد ، لكن تقاس أولا بنسبة التجدد التنموي ، وذلك بخلق مناخ مريح للمبادرة وتحرير الإبتكار والإبداع والإستثمار ، وبمدى خلق الفرص الكفيلة والظروف المساعدة على التطورالشامل . وإعطاء العناية والأهمية البارزة للتكوين والموارد البشرية ، وإستخدام مختلف الخبرات والوسائل التقنية والتكنولوجية المتطورة لتحقيق النمو والرقي . ينضاف إلى ذلك مدى النجاعة والتحكم في التسيير ، وحسن إستغلال وتوظيف تلك الأموال بحكامة في إقتصاد متجدد لخلق ثروات جديدة وتكفل أفضل بمعيشة المواطنين وتوفير مستلزمات العيش الكريم دون تبذير أو فساد . ولن يتأتى ذلك إلا بإعطاء العمل قيمته الحقيقية وتوفير الفرص أمام الجميع بشفافية مطلقة .
يجب أن ينظر إلى تراكم الأموال والثروات على أنها تراكم للجهد وللخبرات وللتضحيات ، ولم تأت صدفة أو صدقة جارية . للأسف هذه المنطلقات الفعلية لإقتصاد جدي ومثمر لم تدخل بالشكل المطلوب ( حتى أكون موضوعيا أورؤوفا ) سلوكات وذهنيات الجزائريين أو معظمهم ، ولم نلحظها في أبجديات الممارسة التجارية والإستثمارية في الجزائر . غالبية التجار والمقاولين وأرباب العمل وكل من يملك " برويطة " ينظر إلى الصفقات والمشاريع والبنوك والقوانين وللدولة نفسها على أنها " غنيمة " أو ما يشبه " مغارة علي بابا " أو حتى " دار عمي موح ، كول وروح " . تغيير الأمر وهذه الممارسات والقناعات الخاطئة سيحتاج إلى وقت أطول لتفشيها حاليا وإنتشارها بشكل واسع لدى الذين يبسطون أيديهم على كل دواليب التجارة وأسواق المال والأعمال . سطو وممارسات تنفر وتحول دون قدوم المستثمرين الأجانب والجزائريين على السواء ، الذين يتقيدون بقوانين ومعايير الإستثمار الفعلي بمقاييسه المتعارف عليها عند الدول والشعوب الأخرى . الحكومات المتعاقبة أسهمت بشكل أوبآخر في تكريس هذه السلوكات والممارسات ، سواء لعدم الصرامة في إلزام الجميع بالقانون لإعتبارات ظرفية داخلية ودولية ، وأخرى إجتماعية ( غطاء السلم الإجتماعي ) أو أحيانا أخرى نتيجة تغير الحكومات نفسها ومن ثمة تغير البرامج والسياسات والأولويات . ألم يرد في دستور سابق أن الإشتراكية خيار لا رجعة فيه ؟ . وألم تهجر كفاءات وإطارات جزائرية هي اليوم تصنع ربيع الدول المتقدمة في كل ربوع العالم ، هجرت بفعل المادة 120 للحزب الواحد التي أقصت كل من لا يحمل بطاقة إنخراط في جبهة التحرير . إن أخطاء فادحة ومؤثرة أرتكبت في ماض قريب وبعيد ، نتيجة إختيارات ثبت اليوم أنها جانبت الطريق الأسلم ، وفوتت على الجزائر والجزائريين فرص نمو وتطور وتقدم كبيرة . إختيارات عطلت الإقتصاد الجزائري طويلا.وأقعدته بسبب " حماسة ثورية " ومعاداة لكل الأثرياء والليبراليين ، أحيانا مجانا ودون تبرير أو سبب واضح ؟. الثورة الزراعية وما سببته من تهجير ونزوح ريفي نحو المدن والقرى من أمثلة تلك الإختيارات . مؤسف اليوم ونحن نشهد سكان الأرياف والمداشر والقرى يستوردون الخبز والبيض والحليب والخضر من المدن ؟ .
الأرقام الرسمية تتحدث عن 3700 مليار دينار ( حوالي 37 مليار دولارا ) خارج الرقابة والأطر القانونية . هي قيمة التعاملات المالية في الأسواق الموازية أو ما يعرف " المارشي نوار " . تجارة لا تعترف بالسجلات التجارية والفوترة والتصاريح الضريبية . ولا تعترف بمفتشيات العمل ومصالح البيئة والتجارة وقمع الغش . تنضاف إلى 889 مليار دينار أخرى ، هي تصاريح كاذبة وتهرب ضريبي بأشكال مختلفة وبأساليب ملتوية . يضافان إلى ما أورده البنك السويسري ( أش أس بي سي ) الذي قدم حسابات مشبوهة ل 440 جزائري ، أي أموال مهربة وغير مبررة المصادر . تضاف جميعها إلى ملفات سونطراك 1 و2 وملفات الخليفة والطريق السيار والكنان والبنوك التي حلت والشركات التي أفلست بسبب سوء التسيير أو بسبب التذبذب في التوجه الإقتصادي ، وفساد الدعم الفلاحي ... والخسائر الناجمة عن الإرهاب والتي فاقت 22 مليار دولارا ... هذه الأموال وغيرها كان بالإمكان أن تدفع الجزائر إلى إقلاع تنموي شامل وحقيقي لو ضبطت إستراتيجية إقتصادية تنموية متنوعة تقوم على الشفافية وتوفير دفاتر شروط معلومة الفرص أمام الجميع .
بناء الإقتصاد كبناء المؤسسة . هي قاعدة أساسية . مخطط نجاحها واضح المعالم : تبدأ صغيرة لتنتهي كبيرة . لكن فيما يبدو بالنسبة لإختياراتنا الإقتصادية في بداية الإستقلال إعتمدنا العكس تماما . حملنا شعارات فضفاضة وخطابات حماسية على حساب تكريس حب العمل وقيمه ، وتثمين البحث والكفاءات وتمجيدها ، وتحرير المبادرات وحمايتها ، فإنتهينا إلى إستيراد أعراف الكبريت والعصير والبطاطا والمعكرونة وحتى الرغيف والحجر ...
إرتفعت مؤخرا أصوات تطالب بتأميم وتحصين المؤسسات العمومية وغلق المنافذ أمام رجال المال والأعمال جملة وتفصيلا. ذكرتني صيحتهم ببداية الثمانينات أي بداية الإنفتاح ، حين كثر الحديث عن الغزو الثقافي فإقترح أحد " المتحمسين " يومئذ في ملتقى أقيم في إحدى الولايات الداخلية ، حمل السلاح للتصدي للغزو الثقافي ... معتقدا بأن هذا الغزو أسلحة ودبابات وجيوش. ( بدون تعليق ) . سبع شركات كبرى تمكنت من جعل كوريا الجنوبية من أقوى الدول إقتصادا في العالم . بنسبة نمو تفوق الثمانية في المئة وبنسبة بطالة تعتبر الأضعف في العالم . وبرفاهية لمواطنيها بدرجة الأفضل . منها هوينداي وألجي وسامسونغ ودايو وكيا ... نحن أيضا بحاجة إلى سبع شركات وعشرات المستثمرين ورجال الأعمال من أمثال ربراب وغيره.