اتهامي بتمجيد الاستعمار أمر بشع
وقع، مساء أول أمس الثلاثاء، الكاتب الصحفي والروائي كمال داود روايته الجديدة "زبور أو المزامير" بقسنطينة، أين صرح بأنه "أمر بشع أن يُتهم بتمجيد الاستعمار"، معتبرا بأن من حقه التفكير بحرية حول الدين الإسلامي الذي يظل ملكا للجميع، كما قال "إنه كتب ولم يقتل أحدا، في حين أن القتلة هم من تجب عليهم طأطأة رؤوسهم أمام الآخرين".
وحضر العشرات من القراء من مختلف الأعمار لجلسة البيع بالإهداء لرواية داود الجديدة "زبور أو المزامير" الصادرة في الجزائر عن دار البرزخ خلال شهر أوت الجاري، بمكتبة "ميديا بلوس" بنهج عبان رمضان وسط مدينة قسنطينة، حيث تشكل طابور طويل من المعجبين بالكاتب وصل إلى غاية رصيف الشارع واستمرت الجلسة لأكثر من ثلاث ساعات، خُصص جزء منها للإجابة على أسئلة الصحفيين، أين أفاد كمال داود، في جوابه على سؤال النصر حول اتهامه بتمجيد الاستعمار وتعزيز الإسلاموفوبيا تعليقا المقالات المثيرة للجدل التي نشرت له خارج الجزائر خلال السنوات الثلاثة الماضية، بأنه لا "يرد على الاتهامات وإنما على الأسئلة فقط" كما قال إن "هؤلاء يحملون نيات سيئة".
لكن صاحب "الغريب. تحقيق مضاد" استرسل بعد ذلك في الدفاع عن مواقفه، حيث أوضح بأن مصطلح "الإسلاموفوبيا" يضم معنى الخوف، وأن سكان الجزء الآخر من العالم لا يكرهون الإسلام وإنما يخافونه، معتبرا بـ"أن المسلمين يتحملون مسؤولية ذلك لأنهم جعلوا من أنفسهم مخيفين"، في حين نفى أن يكون حاملا لأي خوف من الدين الإسلامي، لكنه شدد على أنه لا يسكت عن حقه في التفكير حول الإسلام بحرية، وقد عبر عن ذلك بالقول "إن كان هناك من يملك عقد ملكية للإسلام فليظهره لنا، ولن أنبس بكلمة بعد ذلك، لكن هذا الدين ليس ملكية خاصة لأحد وأنا إنسان حي وواع بأفعالي وما أقوم به بما يرضاه ضميري، وهذا دين جميل والتفكير فيه يكون بالعقل لا بالمواعظ والتهديدات والشتم".
وأضاف الكاتب بأنه لا يمجد الاستعمار أبدا، واصفا اتهامه بذلك بـ"الأمر البشع والمهين"، حيث قال "أنا أدعو فقط إلى بناء هذا الوطن والتوقف عن تحميل الاستعمار مسؤولية جميع أخطائنا. لقد استعمرونا فعلا وقتلوا منا ودمروا بلدنا واستولوا على ما هو لنا، لكن هل سنمضي ما تبقى من حياتنا في هذا؟"، كما ضرب داود المثل بدولة الفييتنام، التي قال إنه زارها ولا حظ بأن البشر فيها يعملون ولا أحد يتحدث فيها عن الحرب، رغم أن شعبها عاش حربين تحريريتين، مشيرا إلى أنه يطالب من خلال كتاباته بـ"التوقف عن الاستمتاع براحة ما بعد الاستعمار وأن نتحمل مسؤولية أفعالنا"، في حين اعتبر بأن "المشاكل التي تعيشها الجزائر اليوم ليست خطأ فرنسا وإنما ناجمة عن أخطائنا نحن ويجب علينا التوجه إلى العمل الحقيقي والتخلص من حالة ما بعد الاستعمار"، على حد تعبيره.
لم أقتل أحدا والقتلة هم من يجب عليهم طأطأة رؤوسهم
ودعا نفس المصدر إلى التخلص مما أسماه بـ"البحث عن ذريعة في مكان آخر من العالم لتبرير فشلنا"، قائلا "أنا رجل حر"، كما عبر مرة أخرى عن شعوره بـ"الإهانة" من اتهامه بتمجيد الاستعمار، مشيرا إلى أنه من العار ألا يستثمر اليوم في الحرية التي مات من أجلها رجال ونساء وضحوا من أجل أن يعيش هو فيها، حيث قال "لقد سقط الملايين حتى أكون حرا، فهل يريدون مني اليوم أن أقف مكتوف اليدين ولا أفعل شيئا"، قبل أن يضيف "وأقولها للجميع من هذا المكان، أنا لم أقتل أحدا واستعطت أن أواجه الآخرين بالنظر في عيونهم، لقد فكرت وأحاول دائما التفكير بحسن نية، لكن من قتلوا هم من يجب عليهم أن يطأطئوا رؤوسهم ويقبلوا بأن يُساءلوا".
واعتبر داود في رد على سؤال ثان للنصر حول من تقع على عاتقه مسؤولية الجهل بالعالم العربي والإسلامي من طرف العالم المتقدم، بأن الغرب "لا يمكن أن يكون عادلا معنا أو ظالما لنا، لأنه يفكر في مصالحه بحسب ما بنيت عليه نواميس الحياة"، لكنه يجب، بحسبه، التوقف عن مطالبته بمنحنا أموالا أو الاعتذار لنا، وأن تتوجه الطاقات عوضا عن ذلك إلى بناء سيادة فعلية وقوة اقتصادية ومجد خاص بنا، "فليس خطأهم إن كنا لا نحسن الكلام ولا التفكير ولا طرح الأسئلة بل خطؤنا نحن". وقد أشار نفس المصدر إلى أن التصورات النمطية الموجودة بالغرب حول عالمنا، موجودة لدينا أيضا حول الآخر، موضحا بأن الثقافة في أساسها تتكون من مجموعة كليشيهات يجب تهديمها، مشددا على ضرورة أن نتوقف عن الاعتقاد بأننا مركز العالم –أو سُرة العالم كما عبر عن ذلك- "لأننا لم نعد كذلك منذ قرون".
وقال متمما لنفس الفكرة "إنه يجب علينا أن نستفيق ونكتب، ولا يمكننا أن نحتج على الإنسانية إن لم تضمنا إليها كجزء منها، فنحن لا نشارك فيها بشيء. ماذا صنعنا لها؟ هل صنعنا لقاحات؟ هل صنعنا هواتف ذكية؟ هل صنعنا طائرات أو أنشأنا منظمات إنسانية عالمية كأطباء بلا حدود؟ الانضمام للإنسانية يكون بالاستحقاق، وأنا أؤمن ببذل الجهد والعمل بنية حسنة، بينما لا أؤمن بالكذب وتزوير الحقيقة، سيعيبون عليك لو كتبت مثلا بأن الجزائريين لا يهتمون بالنظافة لأنهم لا يملكون أية ثقافة بيئية، رغم أن هذا الأمر حقيقي في الواقع فليس لدينا أي حس بالمسؤولية في تعاطينا مع مسألة ما سنتركه من إرث للأجيال القادمة. أنا لا أحب الكذب".
من جهة أخرى، أكد داود بأنه يمكن القول بأن روايته الجديدة عبارة عن سيرة ذاتية، لكنه حقنها بجرعة كبيرة من الخيال، مشيرا إلى أن كل كتاب يحمل نسبة معينة من السيرة الذاتية لصاحبه ويغلب عليها الخيال أيضا، فالمؤلف يكتب ما يريد كتابته ويدون الحياة كما يتخيلها بحسبه، لكنه رد على سؤال حول فكرة الرواية بأنه لا يمكن أن يشرحها أو يختزلها لكونها تنبثق من الإلهام الذي يتأتى بشكل عفوي ثم يبحث الكاتب بعد ذلك عن أسباب للأفكار، فيما استشهد في عمله بالمثل القائل "لمن تقرأ زبورك يا داود"، موضحا بأنه يعبر عن فقدان الأمل أو بكلمات أخرى "من سيصدقك ومن سيسمع لك"، كما قال "إن فيه نوعا من الحتمية والقدرية التي لا مفر منها".
لا أكتب مقالات على الطلب ولا أبتغي رضا أحد
ونبه الكاتب بأنه يريد دائما كتابة ما يؤمن به داخل كتبه، كما يعتقد بأنه يمكن التحرر بالكتابة، مثلما يتحرر الإنسان بالسلاح، في حين أبدى إعجابا شديدا بما قامت به الباحثة الأمريكية "أليس كابلان" السنة الماضية، بعدما عادت إلى رواية الغريب لألبير كامو في عمل بحثي واستقصائي تمكنت فيه من تحديد هوية العربي الحقيقي الذي ظل مجهولا لعقود، من خلال إزاحة الستار عن حادثة الشجار على الشاطئ التي استلهم منها كامو روايته. وقد قال داود عنها "إنها صديقتي وعملها رائع والدليل أنها جاءت من أقاصي الأرض لاكتشاف الغريب".
وعاتب بعض القراء والمعجبين كمال داود خلال توقيعه للنسخ التي تحصلوا عليها من روايته بسبب توقفه عن كتابة عموده على صفحات جريدة "لوكوتيديان دوران"، حيث قال "أحدهم إنه يجب عليه ألا يتوقف عن التصدي للأفكار الظلامية من خلال كتاباته التي حرموا منها"، لكن داود رد عليه بأنه ما زال يضع أفكاره في كتبه، كما أوضح بأنه لم يعد يجد الوقت الكافي بسبب انشغالاته الكثيرة، في حين أجاب على سؤال قارئ آخر بأنه لا يكتب مقالات على الطلب، مشيرا إلى أن "لوبوان" لم تفرض عليه يوما موضوع مقال أو عمود له، كما قال إنه لا يكتب إرضاء لأحد أو لينال إعجاب أحد، قبل أن يستدرك كلامه ويؤكد بأنه كتب ليرضي شخصين فقط في حياته هما والداه.
ويظهر من خلال رد داود على قارئه تأكيده على علاقته الوطيدة بوالديه، حيث يأتي هذا الأمر مطابقا للإهداء الذي جاء في مقدمة كتابته "إلى والدي حميدو الذي أورثني أبجديته ومات بشرف وهو يُغالب الموت"، وربما أراد داود بذلك أن يمنع سحب العلاقة المتوترة لبطل الرواية زبور مع والده على حياته الشخصية، رغم أن داود صرح من قبل بأن زبور يمثله هو، ويقول البطل في إحدى المقاطع الصفحات الأولى للمزمور الأول من الرواية والمعنون بـ"الجسد" محدثا نفسه عن قريته "أبوقير"، التي يعيش فيها يتيم الأم وابنا لجزار يرفضه ويتركه مع عمته هاجر، "لابد أنها سخرية القدر من والدي، أن يوازن ثراءه الفاحش بأن أكون ابنا له، بجسدي الطويل المقوس، ونظراتي التي تشبه البحيرة وصوتي المثير للسخرية".
وتتأكد العلاقة المتوترة بين زبور ووالده الجزار في الكثير من أحداث الرواية، التي نشرت في 329 صفحة، كتبها داود بين مدينته وهران وبيروجيا الإيطالية وتونس، حيث يجد البطل فسحة للحياة داخل عزلته عن باقي سكان القرية، في مطالعة ما توفر له من صفحات الكتب والمجلات والقصص باللغة الفرنسية، حتى تتحول الكتابة بالنسبة إليه إلى أداة لدفع الموت وتمديد الأعمار، ويصبح ملجأ لسكان القرية الذين يجلبون إليه أقاربهم وجيرانهم الطاعنين في السن من أجل أن يمدد أعمارهم بكتاباته قبل أن يستنجد به في أحد الأيام والده الذي رفضه في السابق من أجل أن يكتب له مزيدا من الحياة، حيث يحاول الكاتب التأكيد على قدرة الإبداع والكتابة على بعث الناس من تحت ركام الموت المسيطر عليهم.
سامي حباطي