صورة الموسيقي مغيبة في الأدب الجزائري والألوان الأندلسية ليست مدارس
يتحدث الفنان والمؤلف الموسيقي الجزائري سليم دادة في هذا الحوار مع النصر عن غياب صورة الموسيقي في الأدب الجزائري، كما يؤكد على أن النقد في مجال الموسيقى من المحركات التي تدفع الإنتاج والإبداع إلى الأمام، في حين يسمي الألوان الموسيقية الأندلسية الجزائرية التي استلهم منها العديد من المقطوعات ببقايا المدارس، لعدم إتباع ممارسيها اليوم لمنهج واضح وموحد للتعليم. ويكشف لنا دادة جزءا من رؤيته التي كونها من تجربته في تأليف موسيقى الأفلام، حيث يوضح لنا بأن الموسيقى في السينما قادرة على قول المضمون التي تعجز الصورة والحركة عن إيصاله للمشاهد.
_النصر: كيف تختار عناوين مقطوعاتك الموسيقية؟ هل تنطلق من الصورة الأولى التي نشأت منها الفكرة أم تختار الاسم بعد تبلور الموسيقى؟
_سليم دادة: في بعض الأحيان، يكون العنوان هو المحفز على كتابة العمل، خصوصا عندما يكون عنوانا جريئا أو جديدا أو مختلفا تماما، كما يمكن أن يكون له سيمات تعبيرية كبيرة تشجع على المضي قدما في العمل، لكن المصادقة على العنوان تكون في كثير من الأحيان بعد الانتهاء من العمل أو أثناءه، حتى نخلق توافقا بين ما يمكن أن يرمز له العنوان ومضمون المقطوعة. لا يمكن طبعا أن نستشف جميع العناصر اسم المقطوعة، لكن يمكن أن نستكشف جزء منها.
_ لديك مقالات في النقد الموسيقي. ماذا يمكنك أن تقول لنا عن هذا الجانب من النقد المهمل نوعا ما في الجزائر؟ وهل يمكن للكتابة فيه أن تساهم في إثراء الساحة الموسيقية والنقاش حولها، خصوصا ما يتعلق منها بالموسيقى التراثية؟
_ظهرت النقد الموسيقي مع بدايات النقد الأدبي والفني، وكان ذلك مع ظهور الصحافة المكتوبة في القرن التاسع عشر، حيث تتمثل هذه المهنة في ما ينشر حول الأعمال المعروضة في الأوبرا والتسجيلات الصوتية والحفلات الموسيقية، أين تتخذ من وسائل الإعلام منبرا لها، لكن الملحن يمكن حتى أن يطالع الإذاعة والتلفزيون والأنترنيت أيضا.
يمكن أن يكون الناقد الموسيقي صحفيا مطلعا على الموسيقى أو موسيقيا يجيد الكتابة، ومن المحبذ أن يكون في النقد مساهمة من الموسيقيين والمختصين في الموسيقى، وقد سجل التاريخ الكثير من الأسماء التي ساهمت في رفع الذوق الموسيقي بل وحتى الكثير من الموسيقيين الذين اشتغلوا في هاته المهنة. ما نلاحظه اليوم، هو أن الكثير مما يكتب تحت غطاء النقد الموسيقي ليس إلا عبارة عن أخبار موسيقية أو انطباعات حسية أو نقدا دعائيا لحفلات أو أعمال، مع أن ميزة الناقد وحريته تتمثل تحديدا في تخلصه من الموضوعية الشاملة، وتحدثه عن الموسيقى من وجهة نظر واحدة وفي سياق واحد، لأنه من المفترض أن يتطرق إلى الموسيقى من نقطة واحدة، فهو ليس بالباحث الذي يتوجب عليه أن يتسم بالنظرة الشمولية والموضوعية، كما أن حدود النص وحجم المقال الصحفي يحددان خياراته. لكن من المؤكد بأن هنالك علاقة طردية فالتة تزداد فيها قيمة النقد الموسيقي كلما تلاشت الذاتية والشخصنة في النقد والتقييم.
النقد يبقى عموما ظاهرة صحية وضرورية لديمومة وتطور الفن الثقافي والفني، فالصحفي لا يقتصر على مناقشة المادة الموسيقية فحسب، ولو لم يكن مؤهلا لذلك، لكنه عندما يكتب فهو بصدد اكتشاف فنانين أو الترويج لهم والتعريف بهم، وربما الترويج لمشاريع جيدة وجديدة، وهذا ما يجب أن ندعو إليه ونشجع كل العاملين في ميدان الكتابة حول الموسيقي عليه.
_ تمثل المدارس الموسيقية الأندلسية الثلاثة في الجزائر، المالوف والصنعة والغرناطي والشعبي إلى حد ما، ساحة صراع بين تيارين أحدهما يدعي التجديد ويدعو إلى كتابة هذه الموسيقى وآخر يتمسك بالمحافظة بحجة أنها غير قابلة للكتابة وأن ذلك قد يؤدي إلى طمس هويتها. ما رأيك في قول التيارين سيد دادة وأنت قد مررت بالمدرسة الكلاسيكية المعقدة من الناحية الفنية، كما جعلت من روح الموسيقى الأندلسية مادة للكثير من مقطوعاتك، على غرار رقصة الزيدان؟
-في الحقيقة، لدي رأي خاص قد لا يعجب الكثيرين، لكنه موقف مبرر ومنطقي. أعتقد بأن هناك مغالطة يجب الانتباه إليها في استعمال كلمة «مدرسة»، لأن المدرسة على مر العصور وفي معظم الثقافات والحضارات تمثل المنبر الذي يشاع منه العلم ويشجع فيه الإبداع ويقصده الناس للتنور بنتاجه، فهل هذا ينطبق مع ما يوجد لدينا من أنواع موسيقية تسمى أندلسية في الجزائر؟ في الحقيقة لا. ما يوجد لدينا حاليا هو بقايا مدرسة لكنها في اندثار دائم، بدليل الفقدان المتواصل لبعض أجزاء من النوبة أو لنوبات كاملة في بعض المناطق. كما أنه لا وجود لمناهج تعليمية وتربوية لهاته الموسيقى، بمعنى أن عملية تناقلها ما زالت تتم شفاهة وبكثير من الاعتباط، في ظل غياب منهج واحد ومؤسس. لذلك فأنا أرى بأن كلمة مدرسة مبالغ فيها ولا تعبر عن حقيقة هذه الممارسات الموسيقية والثقافية.
أعتقد بأن المحافظين يحاولون الإبقاء على استمرارية هذه الممارسات، لكن الحرص الشديد جمد الإبداع والحرية في هذا الفن، ونتاجا لهذا الجمود ظهرت ألوان جديدة في بداية القرن العشرين كالشعبي والحوزي والعروبي، أو المحجوز والفنادق في قسنطينة. لكن لا يمكن أن ننفي وجود بؤر ثقافية موسيقية كتلمسان، وقسنطينة والقليعة ومستغانم والجزائر العاصمة وبجاية، ووكل المنتمين لها يفتخرون بتراثها الموسيقي، كما أن لكل منها نوعا من الديوان المتمثل في مجموعة من النوبات، فمنها ما لديها عشرة ومنها ما يزخر بعدد أكبر، حيث تعتمد على أسس مقامية وإيقاعية، وحتى تراكيبها اللحنية وهيكلها مؤسس من القديم لكن عدم المساس بها اليوم هو ما أخل بقيمتها الإبداعية.
لماذا استلهمت من هذه الأنواع؟
لقد وضعت إصبعي على العلة ورأيت بأنه يمكن الاستقاء من هذه الأنواع الموسيقية مادة ثرية يمكن للإنسان أن يتعاطاها ويكتب منها أنواعا موسيقية أخرى، فقد ألفت على سبيل المثال عملي «رقصة الزيدان»، وبنيته على طبع الزيدان، وفيه لحن رقصة معروفة في المالوف، أما بدايتها فهي من لحن الكريستي، فضلا عن مقطوعة «أغنية حب» وهي كلها عمل أوركسترا وتري، يتمثل في الحقيقة في «درج» من طبع الغريب ومأخوذ من نوبة الغريب التي تؤدى في الصنعة. لدي أعمال أخرى تستلهم من هذه الألوان الموسيقية، على غرار مقطوعة «دزاير»، المتمثلة في مقدمة موسيقية سيمفونية كبيرة أديناها في باريس قبل أربع سنوات، وهي مؤسسة على عزف المقدمات في النوبة الجزائرية. الموسيقى الأندلسية قابلة لأن للتجديد ويمكنها اكتساب روح عالمية، حينما نسوقها برؤية جمالية جديدة وذوق مختلف، وليس بمجرد إلباسها ثوبا هارمونيا أو أوركستراليا. بل على العكس، ينبغي على المؤلف الموسيقي تحطيم هالة القداسة الموجودة حولها.
_ من هم الموسيقيون والفنانون الذين تأثرت بهم خلال مسارك من الجزائريين أو غيرهم؟
_يتأثر كل موسيقي بفنانين خلال مساره، أو كما قال الرحابنة «من منا لم يتأثر ولم يؤثر». خلال مشواري تأثرت بأيقونات موسيقية وحلمت عن طريقها بأن أصبح مؤلفا موسيقيا، لكنك في كل مرحلة يمكن أن تفضل مؤلفا لتمر إلى مؤلف آخر في مرحلة لاحقة، وقد انتهجت في مساري كثيرا من الانتقائية والتدقيق. أنا أصنف نفسي ضمن «حركة القومية الموسيقية» وأعتبر بأنني أنتمي إلى المؤلفين القوميين الذين اشتغلوا على الفولكلور والموسيقى الشعبية وحاولوا أن يعطوها الصبغة الإنسانية فأضحت عالمية. أنا أنتمي رمزيا وتقنيا وإيديولوجيا إلى هؤلاء وهم كثيرون.
يعود تاريخ هذه الحركة إلى نهاية القرن التاسع عشر، وقد شملت الكثير من البلدان بداية في من أوروبا الشرقية، ثم انتقلت إلى بلدان الإسكندنافية، لتمس بعد ذلك إسبانيا، ثم بعض دول أمريكا اللاتينية وآسيا كاليابان والصين وغيرهما. يمكنني ذكر الكثير من الأسماء على غرار المجري بيلا بارتوك، وإيزاك ألبينيز ومانويل دي فايا من اسبانيا مانويل ماريوبونتي، عزير حاجبيكوف ومحمد عدنان سيغون، باريوس مانغوري من الباراغواي أنطونيو لاورو من فنزويلا وغيرهم من العديد من البلدان، حيث اشتغلوا على موسيقاهم أعطوها بعدا عالميا.
_كيف تساهم موسيقى الأفلام في خلق المشهد المصور، أو بالأحرى هل يمكن أن نسميها نوعا من التلحين للمشاهد؟
_موسيقى الأفلام ليست تلحينا للمشاهد، وإنما هي تأليف موسيقي يحتوي على كثير من العناصر من بينها التلحين والتجويق والتوزيع الأركسترالي والهرمنة، فكل هذه التآلفات والتقنيات يستعملها المؤلف الموسيقي بحسب الحاجة، والتلحين جزء منها. لا يتمتع مؤلف الموسيقى التصويرية بحرية مطلقة، فهو شريك لفاعلين آخرين كالمخرج وكاتب السيناريو كما أنه مقيد بالتفاعل مع الصورة، مع ذلك يمكن أن تكون الموسيقى سردا آخر للفيلم، أي أنها تتولى مهمة قول ما لا تسرده الحركة والصورة والحوار.
كيف تقيم تجربتك في إعداد موسيقى الأفلام، على غرار «أوغيسطينوس ابن دموعها»؟
بدايتي الأولى كانت من فيلم بن بوالعيد سنة 2008 مع أحمد راشدي، كما قمت بتأليف موسيقى الأفلام الأخيرة على غرار أغسطينوس مع سمير سيف وابن باديس مع باسل الخطيب، وبعض الأفلام الأخرى. طبعا هي تجارب مثرية وجميلة وأنا مهتم كثيرا بالسينما، لكنني لا أعتبر نفسي مؤلفا موسيقى أفلام فقط أو موسيقى تصويرية فحسب. منهجي في التأليف الموسيقي والبحث هو ما أتاح لي تحكما تقنيا جيدا وأدخلني عالم التأليف الموسيقي باحترافية. الموسيقى تخلق عالما ويمكنها أن تصور ما في نفسية وعواطف الممثلين، كما أنها تلعب دور الكاشف لما هو ضمني في الفيلم، وأظن بأن المؤلف الموسيقي يجب أن يتعامل مع الخط الدرامي من جهة ومع الصورة وما يجري داخلها من حركة من جهة أخرى.
_ كتبت على صفحتك بموقع «فيسبوك» قبل أيام بأنك تتمنى العمل مع الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي. من هم الفنانون الآخرون الذين تتمنى العمل معهم أيضا؟
هناك كثير من الفنانين الذين سيسعدني التعامل معهم، لكني في المرحلة الحالية، بصدد التحضير لمشاريع مهمة مع قامات في الغناء العربي كالمطربة المغربية كريمة الصقلي، التي أجهز معها عملا سيقدم في باريس يوم 16 مارس القادم، وهو قائم على أشعار لابن عربي وتأليف موسيقي جديد، كما ستؤديه الأركسترا السيمفونية لجامعة السوربون. لدي عمل آخر مع الفنانة اللبنانية جاهدة وهبي وهو جديد ونحن بصدد التحضير له. ستكون تجربة التعامل مع فنانة كماجدة الرومي جيدة ومثرية بالنسبة لي، وأعتقد بأنني أملك الكثير من الأشياء التي من الممكن أن أقدمها لها في مسيرتها الحافلة، لكن من المؤكد بأن خطي الموسيقي لابد أن يبقى على نفس المعادلة تقريبا، أي دوما في خط البحث والتأليف الموسيقي والإبداع والعمل في شكل أركسترالي وتقديم مواضيع غير مستهلكة في إطار الجدية والحرفية. وهذه هي الشروط الوحيدة التي تحيط بهذه المشاريع.
_هل هناك مشاريع موسيقية أخرى؟
_نعم، فقد ألفت موسيقى فيلم وثائقي حول فيلم تاريخي جزائري وسيُحتفى به بداية شهر ديسمبر القادم، فضلا عن فيلم وثائقي مصري حول رواية لأمين معلوف، كما أنني أحضر لتسجيل ألبوم يضم مختلف مقطوعاتي التي ألفتها لآلة البيانو مع عازف إيطالي يدعى أنطونيو أنزيرينغو، وهو ضمن الأوركسترا الوطنية للإذاعة، لكنني أضفت عملا جديدا إلى الألبوم خصيصا له، حيث سنسجله بروما خلال الصائفة القادمة.
_ كيف يمكن للموسيقى أن تكتب الأدب أو العكس؟
من المؤكد بأن الموسيقى تسمع وتقرأ لكن يمكن أن نكتبها بغير لغتها الموسيقية، أي كنقد أو وصف أو إثنوغرافيا أو حكاية أدبية أو رواية تاريخية. كما أنها قابلة لأن تكتب كتجربة نفسية وحسية وانطباع روحي، وقد تناول الموسيقى الكثير من الفلاسفة والأدباء والمثاليون وحتى الروحانيون.
وهل تعتقدون بأن أدباء الجزائر اشتغلوا على هذا النوع من المغامرات الفنية المتداخلة مع بعضها؟
لا أعتقد بأنه يوجد الكثيرون ممن اشتغلوا عليها في الأدب الجزائري، رغم عدد من التجارب التي يجب أن ينوه إليها، فقد اعتمدت آسيا جبار في كتابها «نوبة نساء جبل شنوة» على أجزاء النوبة الأندلسية كالتوشية والمصدر، بالإضافة إلى تطرقها للموسيقى في روايتها «الفنتازيا والحب»، توجد أيضا رواية الصادق عيسات «كما يفعل في البحر الغريقُ»، التي شحنها بأجواء موسيقى الشعبي وقصائدها وحفلاتها، وتحتوي أيضا على قراءة جميلة في هذه الموسيقى وفي قصائد الحاج امحمد العنقى.
تمكن الإشارة أيضا إلى رواية صدرت مؤخرا للكاتبة ليندة نوال تباني عن مطبوعات ميديا بلوس بقسنطينة تحت عنوان «مديح الخسارة» وفيها مزج بين سردية الرواية والأبيات الموسيقية من المالوف والصنعة، كما تضم كثيرا من الإيحاءات الخاصة بمصطلحات الموسيقى مثل «بوم.تاك»، حيث يدل هذا الأمر على أن الكاتبة عاشقة لهذا النوع الموسيقي وتمكنت من جعلها حاضرة في نصها الأدبي.
لا أجد تفاعلا كبيرا مع الموسيقى في أعمال أدبية أخرى، كما أن صورة الموسيقي أو العازف أو المؤلف أو قائد الأوركسترا تكاد تكون منعدمة في الرواية الجزائرية، ويمكن أن نرجع هذا الغياب إلى كون الرواية انعكاسا للمجتمع وثقافته، بحيث أن النص الأدبي يعكس تغييب المجتمع للموسيقي. أعتقد بأن الموسيقى قد تكون ملهمة للنص الأدبي من ناحية البنية أو الجماليات أو حتى المادة المتناولة.
حاوره: سامي حباطي