القراءة أحيانا تنتج نصا أجمل من النص
• المرجعية التراثية مهمة والتراث العربي ثري جدا
في هذا الحوار تتحدث الشاعرة والناقدة خيرة حمر العين، عن تجربتها الشِّعرية وعن بعض المصطلحات التي لا ننتجها بقدر ما نتبناها بلا وعي، كما تتحدث عن الآخر في الشّعريات والأدبيات وعن مصطلحه المرتبط والمرتطم بكثير من المفاهيم وأيضا عن الآخر الجحيم وعن الأنا الجحيم وعن الآخر الضروري وعن كيف يتجلّى الآخر في الشِّعر.للإشارة، خيرة حمر العين، شاعرة وناقدة وباحثة جزائرية، تشتغل في حقول الشِّعر والنقد معا، أصدرت بعض المجموعات الشِّعرية، من بينها: «أكوام الجمر» العام 1996، وٍ«لم نشتهِ قمرا» العام2001. ونقديا أصدرت كتاب «جدل الحداثة في نقد الشِّعر العربي» العام 1997 عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، و «شِعرية الانزياح» العام 2002 بالأردن.
كما لديها مجموعات شعرية وبعض الكتب والدراسات النقدية تنتظر فرصة الطبع.
بأي حَدقة تنظرين الآن إلى تجربتك الشّعرية؟ ماذا الّذي يمكنك قوله، خاصّة عن/وفي سياقاتها الجمالية/الفنية والحداثية؟
خيرة حمر العين: أنا كتبت النصّ الرومانسي الشفاف البسيط بين سنوات 18 و27 سنة، وكتبت النصّ الممتلئ بالبعد الماورائي والّذي تجذرت فيه رؤىً صوفية ورؤى كونية ورؤى فلسفية ما بين 27 و34 سنة، رغم أنّ السن ليس مقياسا لأنّ نكتب نصا رائعا. تعرفين أنّ رامبو مات في 27 سنة وكتب القصائد العِظام التي نُباهي بها اليوم الزمن الشّعريّ. وطاغور عاش كم سنة وهو يكتب الروائع، فالسن إذن لا يمكن أن يكون مقياسا، لكن ما أدريه أنّه مثلما كانت لديّ أنا طفولة، الشّعر أيضا كانت له طفولة، فقد كان طفلا عابثا ومُشاغبا ومُشاكسا وما إلى غير ذلك ولا أريده أن يكبر.
كان نرجسيا أيضا؟
خيرة حمر العين: كثيرا، كثيرا ما كان نرجسيا، لكن بغتة وجدت أنّ هذا الطفل بدأ يكبر، لكن مازال يحمل طفولته في ذاته، فنفس الشيء، أنا أيضا كوني ما زلت طفلة. طبعا كلّ واحد فينا يحمل في داخله طفله الصغير، هذا الطفل يعبث ويشاغب وما إلى ذلك. في المجموعة الشِّعرية الأولى والثانية على التوالي: «أكوام الجمر» الصادرة العام 1996، و»لم نشتهِ قمرا» الصادرة العام 2001 رغم التفاوت الزمني بين نصوص المجموعتين إلاّ أنّ بمقدار ما تجدين في المجموعة الأولى من الرومانسية والعبثية والرمزية بمقدار ما تجدين فيها من الشفافية والشيء نفسه بمقدار ما تجدين من العشق والجنون في المجموعة الشّعرية الثانية «لم نشتهِ قمرا» بقدر ما تجدين فيها من الكونية. أستطيع أن أقول ذلك لأنّها تشربت برموز صوفية ورموز الشّعر العربي وحتى وإن لم يكن التشرب بالرمز هو مقياس للعالمية ومقياس للكونية ولكن أعتقد أنّ القصيدة التي أكتبها بدأت تدخل نظاما آخر، إمّا بحكم التحولات التي نعيشها بدءا وانطلاقا من القرن 21، وإمّا لانشغالات أخرى.
تعرفين أنّ الكثير من المعايير تغيّرت وهذا كله يؤثر في الشاعر شئنا ذلك أم أبينا. يؤثر فيه بطريق أو بآخر، فتنعكس هذه التأثيرات في تجاربه، ثمّ أظن أنّ هناك مساحة كبيرة بين 1996 إلى 2001 حتى صدور المجموعة الثانية، والمجموعة الثانية أُهديت لي، لو لم تهدَّ لي ما كنتُ ربّما لأنشرها، فدار «الغرب» أهدت لي هذا النشر، لأنّه أوّل ديوان شِعر تطبعه دار «الغرب» لأنّها بدأت بطباعة الكُتب النقدية، لولاها ربّما لكنتُ تأخرتُ إلى الآن في نشرها. الآن هناك مجموعات أخرى تتشكل ولا أريد أن أتعجل في نشرها حتى تأخذ عمقها الكافي ونضجها الكافي، على الأقل في تصوري أنا.
ما هي أهم خلفياتك ومرجعياتك القرائية والجمالية؟
خيرة حمر العين: أنا أقول دائما أنّ المرجعية التراثية مُهمة جدا والتراث العربيّ ثريٌّ جدا، سواء الشّعر الجاهلي بكلّ شعريته: شعرية طرفة، شعرية امرئ القيس، شعرية عنترة، كلّ هذه المساحات من وجدننا العربي القديم تُشكل لي أنا صراحة مساحة بعدٍ جمالي خطير، لأنّه يغذي فيّ الكثير من الرؤى الجمالية، التراث القريب أيضا، التراث الصوفي، سواء العربي منه أو الأجنبي يغذي مساحة كبيرة في وجداني، والنفريّ، أعشق النفريّ، أعتقد أنّ هذه أهمّ المصادر التي أتشبع بها، أضف إلى ذلك التراث الإنساني، الملاحم والأساطير. تعرفين أنّها تُـكسب الشاعر الكثير من الثِقل الجمالي والرمزي وخاصّة إذا تشرب الشاعر هذه الرموز وكيفها مع الواقع، هناك القرآن الكريم، لأنّ القرآن الكريم كما يقول أدونيس: «هو كتابٌ ثقافي لكن القراءات حوّلته إلى كتاب شرعي». وهو كتاب ثقافي بمعنى عميق جدا فتجدين فيه ما لا يمكن الوقوع عليه في عالم آخر فهو بحق إثراءٌ كبير للإحساس بالكون وبالحياة، لأنّه كما تعرفين أنّ الشاعر يجب أن يتكئ على رؤية، هذه الرؤية يجب أن تتداخل فيها أبعادٌ كثيرة خاصّة أنّنا نشهد اليوم كما قلتُ لكِ انصهار الجغرافيات المعرفية والإبداعية. لم تعد الآن هناك مسافات قيدية مثلا، فكلّ ما هو إبداعي جماعي يجب أن يدخل في خلفية الشاعر الجمالية. أتكلم عن ذاتي، فكلّ هذا التنوّع وهذه الفسيفساء، إذا كان لديك الوعي الكافي في تشربها وفي الإحساس بها ستعرف كيف تقتنص منها لذّة نصك وهكذا.
أيضا هناك نقطة مُهمة جدا لا أتصوّر أنّ للشاعر فقط هذه المرجعيات (أنا هنا دائما أتكلم عن نفسي)، أنا لا أتكئ فقط على هذه المرجعيات بكلّ تنوعها الماورائي. طبعا ضِف إلى ذلك التراث الفلسفي، فهناك الواقع، يجب أن نعترف بذلك، هناك بساطة الواقع، ليس بالضرورة أن تطابق الواقع لكن ستبني رموزا من هذا الواقع كلّ هذا يمكن أن يتعدى/أو يشكل كونك الداخلي. هذه الرموز هي التي تتشظى عبر كلّ هذه الدلالات، فإذا كان لديك كلّ هذا الإلمام فأعتقد أنّك ستُنتج نصا خارقا، مُدهشا، لأنّ القارئ يجب أن يبحث عن الدهشة في الكتابة، يجب أن يبحث عن المُفارق، عن الأصيل، عن العميق، عن البسيط،هذه الفلسفة، علينا أن نحفر فيها وفي الماوراء وفي الرؤى التي تشكلت قبلها وأن نندمج في الوعي الجماعي الكوني.
إلى جانب ما ذكرتِ سابقا. هل من معايير/مقاييس أخرى لهذا النصّ الخارق المتميز؟
خيرة حمر العين: ما الّذي يجعل نصا ما خارقا ومميزا؟ ما الّذي يجعلني جميلة مثلا؟ ما الّذي يجعل الجميل جميلا؟ يعني كأنّنا نطرح هذا السؤال؟ لا توجد أي مقاييس ولا أي معايير على الرغم من كلّ المناهج، خاصّة الثورة المنهجية المعاصرة. كلّ منهج إلاّ ويتصوّر أنّه يمتلك المفاتيح والمعايير للحكم، فمثلما لا أستطيع أن أحكم على الجميل بأنّه كذلك بالمطلق، لا أحكم على نص ما بأنّه خارق بالمطلق، ولكن هناك مسافة للانتظار بين القارئ والمُتلقي، أو بين النصّ والمُتلقي، وهناك لذّة النصّ وهناك الإشباع، هل يُقدم لي هذا النص الإشباع الجمالي والدلالي؟ هناك الإيقاع أيضا، هل يحمل هذا النصّ إيقاعا بمستوى إيقاع الحياة وبمستوى إيقاع الدراما؟ هناك الدراما أيضا في النصّ؟ هناك الرمز، هناك الصورة، هناك الكثير من المفاتيح التي ندخل بواسطتها أو نخترق من خلالها النصّ.
ولكن أنتِ الآن ورطتني في سؤال نقديّ، هناك النصّ الوارد والنصّ المحتمل، النص الوارد هو العلامة المادية المكتوبة أمامي والنصّ المحتمل هو الّذي ستنتجه القراءة وأحيانا وصدقا القراءة تُنتج نصا أجمل من النصّ، وهناك الترجمة أيضا التي قد تُنتج نصًا أجمل من النصّ الأصلي وأروع. لماذا؟، هذا هو السرّ.
وهو أنّنا لا نملك أحكاما ولا معايير محدّدة، لكنّنا نمتلك إحساسا ونمتلك رؤية ونمتلك أفقا ضمن هذا الأفق وهذه الرؤية وهذا الإحساس وهذا الإيقاع وهذه الجمالية. لكن يجب أيضا أن تكون شاعرا. أرى دائما أنّه يربكني الخلط بين الشاعر والناقد، فأقتل الناقد المُتسلط، وأترك للشاعر أن يُفجر رموزه ويُفجر إيقاعاته وعلى رأي الشاعر الكبير المتنبي: «أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا/ وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ». هذه هي الجمالية، وكثيرا ما يتنازعني الخصم والحكم في هذه الإشكالية، فأنجرف وراء الأثر المفتوح، لكن أتصوّر أنّ الرؤية الشِّعرية اليوم بكلّ مفاتيحها/شِعرية الأثر المفتوح، ونظرية جمالية القراءة بكلّ مستوياتها تصبح أداةً فاعلة في تحريك رموز هذا النصّ وانتشاره وإعادة خلقه من جديد فأعتقد أنّ هذا هو المجال الّذي يجب أن تتحرك فيه، رغم أنّي ضدّ أي تصنيف أو مجال. أنا ضدّ هذه التصنيفات، لكن أيضا أن تكون حرية مفتوحة على النهائي دون وعي قد لا تنتج لا نصا نقديا ولا نصا شعريا، فهي غير فاعلة برأيي.
بين كوننة الشِّعر، عولمة الشِّعر، أنسنّة الشِّعر إلى أي منهم تنزحين/أو تنحازين أكثـر؟
خيرة حمر العين: المصطلح مخادع، المصطلح يجب أن نتعامل معه بحذر. رأيتِ كيف تعاملنا مع المصطلح النسائي، الأدب النسائي والأدب النسوي والأدب الأنثوي ووو... وما إلى غير ذلك. يجب أن نكون حذرين في إطلاق المصطلحات، أولاً نحن لا نُنتج المصطلح، الّذي يلد هو الّذي يُسمي وبما أنّنا لا نلد فلا داع لأن نُسمي. هذا الفيض من المصطلحات: العولمة والكوننة والأنسنة وما إلى غير ذلك، نحن مدعوون، وهي دعوة، لكن بالعكس. أنا بتصوري أنّ العولمة هي دعوة رائعة لأن نجد أنفسنا في قلب العالم وفي قلب الحركة. من قال بأنّ العولمة هي دائما دعوة للسلب؟ لماذا لا ننظر إليها من كونها دعوة للإيجاب، صحيح أنّ الشِّعر لا يُعولم وأنّ الإبداع لا يُعولم، لأنّ الإبداع في أصله «كوني» فأنا أقرأ طاغور وأقرأ كلكامش وأقرأ رامبو وأقرأ المتنبي وابن عربي وغيرهم، وليس في ذلك أي خلل. لكن أن نُؤدلج الثقافة، أدلجة الثقافة هذا هو الخطير. لكن أن نعولم (يا ليت)، فلنترك رؤانا وإبداعاتنا تدخل في هذه المعطيات، أنظري مثلا الإيجابيات التي تحققت في السنوات الأخيرة، أصبحت الإبداعات الجزائرية الحديثة المعاصرة، إبداعات التسعينيات على الخصوص تُترجم إلى الإسبانية والألمانية والإنكليزية والفرنسية. هل رأيتِ مكسبا أجمل من هذا المكسب؟ فلننظر دائما إلى الجهات الإيجابية ولنحذر من السلبيات فقط. لماذا لا نتعامل بذكاء في هذه المسائل دون أن نُصنفها، أنا أفضل أن يُحلق شِعري في العالم مثلما تُحلق الموسيقى ومثلما يُحلق الفيلم، لما لا؟ هذا هو البعد العولمي، يجب أن ننظر إليه هكذا دون أن ننظر إلى سلبياته الإيديولوجية والعسكرية وغيرها. لا يهمني ذلك، أنا مبدع أبدع وليتبعني العالم وليحكم عليّ كيفما شاء، ذلك شأنه، أنا أتمنى أن يصل صوتي إلى القارئ العالمي، وهذا شيء يثري الثقافة الجزائرية ولا أعتقد أنّه يضرها في شيء.
اشتغلت كثيرا على نقد وإشكالية «الآخر» في الشّعريات النسوية. لماذا هذا الاشتغال على هذه الإشكالية بالذات؟
خيرة حمر العين: نعم أنا أشتغل على إشكالية الآخر في الشّعريات النسوية، يعني نماذج كثيرة في الشّعر العربي بشكل عام، ليس فقط في الشّعر الجزائري. كيف يتجلى الآخر في الشّعر، ليس بالضرورة أن يكون هو الرجل، لم أقل الرجل، أنا قلت الآخر. تعرفين اليوم أنّ «مصطلح الآخر» يرتبط ويرتطم بكثير من المفاهيم ولا يريد أن يتموقع في معطى محدّد، فمنهم من يرى بأنّ الآخر هو العدو وعلينا أن نعامله بعصبية وبعنف ومنهم من يرى الآخر بأنّه دعوة للتسامح والقبول. طبعا هذا يصدر عن مرجعيات معينة، إمّا عن المرجعيات الدينية أو المرجعيات الفلسفية أو المرجعيات الفنيّة، فأنا أرجو تناول المرجعيات الأدبية مثلا، الشّعرية منها على الخصوص.
لكن في هذه المسألة ليس بالضرورة أن نرى «الآخر» فقط مجرد «رجل» أو «عدو» أو «صديق». المهم هو ما يفترض أن يكون، فأنا أريد أن أفهم من خلال الآخر، الآخر بالنسبة لسارتر: «الجحيم هم الآخرون»، والآخر في الفلسفة الوجودية مهمّ، فالآخر مهمّ بالنسبة لذاتي لأنّني لا أستطيع أن أتموقع معرفيا وكونيا إلاّ من خلال الآخر والشراكة المعرفية اليوم ضرورية في فهم الآخر، الآخر دائما موجود كصورة في ذهني، الآخر موجود كفكرة، الآخر موجود كحقيقة. أنا لا أريد أن أدخل تفاصيل الآخر في الفلسفة أو في الفكر، فقط أتناول النصّ، والنصّ هو الّذي سيفرض عليّ الرؤية، أنا لا أدخل برؤية إلى النصّ مسبقة، كناقدة، أنا أقرأ النصّ ومن خلال تفاصيل هذا النصّ أستطيع أن أقرأ النصّ برؤيته من خلال فهمي وتذوقي لهذه الرؤية وتأويلي أيضا لهذه الرؤية .
ألا يمكن أن يكون الجحيم هو الأنا أيضا (أحيانا)؟
خيرة حمر العين: لا أعتقد أنّ هناك جحيما أكثر من جحيم الأنا. والله. هذا صحيح.
حـاورتها/نـوّارة لـحـرش