الفنان الجزائري سفيان زوقار يتقصى سنوات العشرية السوداء
يقول سفيان: «الفكرة بدأت بعد حديثٍ مع شخصٍ أدى فترة خدمته العسكرية إبان العشرية السوداء»، لينطلق الفنان بعدها في إجراء مقابلات مع «التائبين» الذين عادوا إلى الحياة العادية بعد أن قضوا سنوات طويلة في «الجبل».
الكوابيس كما الأحلام، الرعب كما الأمن المؤقت، القتل المجاني، كما التشبث بالحياة، الكذب السياسي، كما الطموح الشعبي، كلّها، مفردات نستحضرها ونحن نتأمّل العمل التركيبي الجديد للفنان سفيان زوقار: «أثر» من مشروعه «ذاكرة العنف». حيثُ يُمسي تعقّبُ الماضي العنيف لجزائر التسعينيات، بحثاً في المشترك وتقاطعاً شخصياً مع ما خفِيَ من الذاكرة الجماعية وما يتوالى من صورٍ ومشاهد تضعُ المتلقي على مقربةٍ من الحقيقة المُغيّبة.
ثلاثُ شاشاتٍ متقابلة، بشكلٍ دائريّ حول أرضٍ حُرِثت في موسم الزرع، يتكرر التركيب الواحد، ليمنحنا المساحة لرصد ثلاث فتراتٍ زمنية: قبل، أثناء وبعد (كما تبرزه الصورة)، لكن ماذا ينتظر زوقار من تسليطِه الضوء على تربةٍ جلبها من الجزائر والتي تبدو خصبةً وتصلح لكلّ شيء؟ الجواب، نلمسهُ في الصور التي تعرِضُها الشاشات الثلاث وينعكس ضوؤها على التربة، وتظلّ تدور كشريط ذاكرة لا ينقطع، كما لو أنَّها ناقوسٌ يُقرع ضدّ النّسيان. هنا، نتبعُ مسارَ الضوء وننتظر في لحظةٍ ما، أن تسقط من الشاشة جثثُ، أو أسلحة، دماء ودموع، وما من ابتساماتٍ ومطر وشمسٍ دافئة؟ تتوالى الأسئلة وتستيقظ الذكريات الأليمة للعشرية السوداء، وما بعدها، من خلال صور فوتوغرافية، ومقاطع فيديو مأخوذة من الأنترنت. تبدو في البداية كسحب رمادية عابرة، تظلل ملامحَ الناس، والمباني، والمركبات بحزن عميق. صورٌ تقف على ثلاث مراحل مفصلية من سنوات الدّمار، من نهاية الثمانينيات إلى بداية التسعينيات، والفترة ما بين 1993 – 1998 ونهاية التسعينيات. حين كان الركوب في حافلة النقل الجماعي، يتطلب رجل أمنٍ ملثَّم يحمل كلاشينكوف. الصورة الأخيرة للرئيس الراحل محمد بوضياف قبل اغتياله، صورة الأم التي تعكس ملامِحُها هول مجزرة بن طلحة، وغيرها من الصور والفيديوهات المخزّنة في الذاكرة الفردية وتظهر بشكلٍ خفيّ كشيءٍ يحيطه الغموض والعتمة. مختصرٌ بصري لنهايةِ قرنٍ صاخبٍ في حياة الشعوب، وما طال الجزائريين الذين حلموا وثاروا من مآس صار اليوم جزءاً من قاموس الأحداث التاريخية التي لا تنسى في القرن العشرين.
سفيان هنا، يحاول صنعَ ذاكرةٍ خاصة لجيلٍ جزائري لم يعش تلك الأحداث الأليمة، لم يلامس عن قرب المأساة، والمحنة التي باتت مشتعلة الآن في مناطق عربية عديدة، لكنّه جيل تلقّى الصدمة وأصابه العطب. لعلَّ فعل الرؤية ما نحتاجه اليوم، لنؤمن بأنَّ كلَّ طرق الحرّية مُلغّمة ومليئة بالشوك والمطبّات، وأنّ مقاومة العنف بكلِّ أشكاله، تظل مرتبطة بالحلم. وهو ما يجعلنا نتأمّل هذا العمل التركيبي الصامت، ونتخيّل (معاً) ما سينبت غداً على هذه الأرض.
العمل الّذي أنجزه سفيان زوقار بتكليف من مؤسسة الشارقة للفنون، بالتعاون مع برنامج «الإقامة الفنية في الجزائر» أريا (A.R.I.A) بإشراف الفنانة الجزائرية المغتربة زينب سديرة، يُعرض حالياً بساحة المريجة، قاعة العرض 2، بإمارة الشارقة، ويتسق مع الاشتغال المعاصر والتجريبي للفنان في استخدام العديد من الوسائط في أعماله الفنية، التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، الصوت والحركة والأعمال التركيبية التفاعلية، استكمالاً لمشروعه في أرشفة «العشرية السوداء» وتقصي أثارها من خلال الصور والفيديوهات. كما أنّ هذا الجناح وغيره من الأجنحة الفنية، يعكسُ أهمية التّبادل الثقافي بين فنّاني الدول العربية، بهدف تطوير نموذج تجريبي واسع النطاق، من خلال مجموعة من المبادرات والبرامج الأساسية في مؤسسة الشارقة للفنون مثل «بينالي الشارقة» و»لقاء مارس» السنوي، والمعارض التي تقام على مدار العام، والبرامج التعليمية والمنح الفنية، بهدف التأسيس لمنصّة تمكّن الفنانين من نقلِ ثقافاتهم وهواجس شعوبهم والمعاناة المشتركة.
سفيان زوقار، للإشارة، من مواليد 1982 بخميس مليانة، حيث يقيم ويعمل هناك، تخرج من المدرسة العليا للفنون الجميلة في تخصص الخزفيات، الجزائر (2012). شارك الفنان في مشروع مارس 2017 لمؤسسة الشارقة للفنون. عرضت أعماله في عدد من المعارض من ضمنها «تشاينافريكا كونستراكشن»، متحف الفن المعاصر، لايبزيغ (2017)؛ «بودا بودا لاونج»، مهرجان عبر إفريقيا لفن الفيديو، الجزائر (2016)؛ بينالي الصور المتحركة، بينوس آيرس (2016)؛ بينالي قلنديا الدولي، رام الله (2016)؛ الحالة الإنسانية، المهرجان الوطني للتصوير الفوتوغرافي للفن (الجزائر) (2014)؛ متحف الاستجابة المصنّعة للغياب، متحف الفن المعاصر والحديث، الجزائر (2014)؛ بينالي داك’آرت، داكار (2012، 2014)؛ «بيكتشوري جينيرال» الجزائر (2013) والحدث العالمي للفنانين الشباب، نوتنغهام، المملكة المتحدة (2012).
خالد بن صالح