حشري في المجال النقدي فقط ظُلم!
عبد الملك مرتاض (مواليد 10 ديسمبر 1935 في مسيدرة بولاية تلمسان)، أستاذ جامعيّ ومُحاضر، علمٌ من أعلام النقد العربيّ، وكاتب موسوعيّ، يصول ويجول في كلّ فنون وأنواع الأدب: إبداعًا ونقدا، قصّة وشعرا، رواية ومسرحا.
أجرت الحوار/ نوّارة لحـــرش
مرتاض الّذي يعد مرجعا في الدراسات الأدبيّة والنقديّة والأكاديميّة، صاحب مسيرة حافلة بالانجازات الأدبيّة والنقديّة، وبالإصدارات التي تجاوزت أكثـر من سبعين (70) كتاباً في مختلف الفنون الأدبيّة والنقديّة والدراسات. مثلا في الرّواية صدر له: «وادي الظلام» ، «رباعيّة الدم والنار»، وثلاثيّة الجزائر: «الملحمة»، و«الطوفان»، و«الخَلاص»، كما صدرت له رواية/ سيرة ذاتيّة بعنوان «الحفر في تجاعيد الذاكرة» عام 2003.
كما صدر له في النقد الكثير من العناوين النقديّة المختلفة، وطنيا وعربيا، وبفضلها سُجِّل اسمه في موسوعة «لاروس» بباريس مصنَّفاً في النّقّاد، وإدراج اسمه في هذا الكِتاب العالميّ الموسوعيّ المهم، يعد إضافة واحتفاليّة عالميّة لاسْمه، ومنجزه النقديّ على وجه الخصوص. كما ورد اسمه في موسوعات أجنبية أخرى وعربية. في هذا الحوار المطوّل، يتحدث الناقد والباحث عبد الملك مرتاض، عن مسيرته الأدبية والنقدية، وعن بعض منجزاته، وكذا عن النقد الأكاديميّ الجزائريّ، كما يتحدث عن شؤون أخرى كثيرة ذات صلة بشجون الأدب والنقد، نكتشفها معًا في هذا الحوار.
قلمك صال وجال في شتّى فنون الأدب: فكراً وإبداعاً ونقداً، ومقاربات ودراسات، وقد كتبت في المسرح، والقصّة، والشّعر، والرّواية، والنقد، لكنْ عُرِفت واشتهرت أكثـر بصفتك ناقداً له إسهاماته الكثيرة والكبيرة في مجال النقد. فماذا تقول عن هذه التجربة المتعدّدة والثـريّة في هذه العوالم الأدبيّة المتشعّبة؟
عبد الملك مرتاض: أعتقد أنّ الأديب الحقّ -ولستُ به على وجه الضرورة- هو من لا يَقِف جهدَه الفكريّ على جنس واحد من الأدب، كأن يكون قاصّاً فقط، أو ناقداً فقط، أو روائيّاً فقط... بل الأديب الّذي يطمح إلى سلوك طريق التميّز، ولو على هون ما، يركض في عوالم شتّى. ذلك بأنّ هذه الأجناس الأدبيّة أصبحت، من منظور النقد الجديد، متداخلة بحيث لا نجد حدوداً تحُدّها، فالقصّة والرواية والمسرحيّة تنتمي كلّها إلى الجنس العامّ الّذي يجمع بينها، وهو السرد. في حين أنّ الشّعر هو الفنّ الإبداعيّ الأوّل، فهو أمّ الأجناس الأدبيّة إطلاقاً، ولذلك فالروائيّ الكبير، والقاصّ المتميّز، لا يمكن أن يتنكّر للشّعر فلا يستعين بلقطات منه في كتاباته السرديّة يضمّخها به، وإلاّ اغتدت هذه الكتابات فِجّةً وركيكة وثقيلة على نفْس القارئ.
الشّعر هو الفنّ الإبداعيّ الأوّل وهو أمّ الأجناس الأدبيّة إطلاقاً
وتشبه هذه الحالُ حالَ بعضِ الأساتذة الجامعيّين الذين يحشرون أنفسهم في مجال واحدٍ من الأدب، كأن يقول أحدهم: أنا متخصّص في الأدب الحديث، ولا يعنيني الأدب القديم، أو أنا متخصّص في الأدب، ولا تعنيني اللّغة، وهلمّ جرّاً... فمثل هذا الوضع المعرفيّ الناشز يجعل الأستاذ الجامعيّ صغيراً، إن لا نقُلْ ناقصاً. ويعمَّم هذا الحُكم على التخصّصات العلميّة الأخرى كالأستاذ الصغير الّذي يقول: إنّما أنا متخصّص في القانون الدستوريّ مثلاً، لا القانون الجنائيّ... كان أجدادنا علماءَ بكلّ ما يحمل اللفظ من معنىً، بحيث نجد، مثلاً، أبا نصر الفارابي لغويّاً وأديباً وفيلسوفاً، ولا يقال إلاّ نحو ذلك في ابن سيناء الّذي لم يمنعْه الطّبّ من أن يكون حجّة في علوم أخرى...
أفبعد كلّ هذه الاعتبارات كنتِ تُريدينني أن أحكم على نفسي بخوض الكتابة في جنس واحدٍ من الأدب؟ وأمّا حديثك عن شهرتي في مجال النقد لا في مجال السرديّات، فذلك يعود إلى طائفة ممّن يريدون أن يحشروني، دون وجه حقّ، في مجال أدبيّ دون آخر. وعلى الذين يُعنَوْن بأعمالي أن يتناولوها كلّها، كما كتبتها كلّها. وعلى أنّ هذا ليس واقعاً مطلقاً، فاليوم مسجَّلٌ عن أعمالي الروائيّة عدد غيرُ قليلٍ من الرسائل والأطروحات الأكاديميّة في عامّة الجامعات الجزائريّة. ومن كان لا يعرف ذلك فليس عليه إلاّ أن يبحث أو يسأل: فكما أنّ العناية كثيراً ما تنصبّ على أعمالي النقديّة، وقد جاوز ذلك الوطن إلى الخارج، فإنّ العناية تتوسّع إلى أعمالي السرديّة أيضاً.
وأحسب أنّ عناية الأكاديميّ بالنظريّات والمعارف وحدَها تجعله يعيش عالَماً من الركاكة والفكر المتحجّر، والْتِحادُه إلى كتابة السرد، أو الشّعر، قد يتيح له شيئاً من الراحة الفكريّة، فالاشتغال بالبحث لا يخلو من قسوة وعَناء، في حين أنّ الكتابة الإبداعيّة كثيراً ما تكون نزهة خياليّة، وإمتاعاً نفسيّاً جميلاً.
ثمّ إنّ كثيراً من أكابر الأدباء يجمعون بين النقد والكتابة الأدبيّة الخالصة، كمثل طه حسين، والعقاد، وعبد العزيز المقالح، وجان بول سارتر، وميشال بيطور، وألان روب قريي، وسَوائِهِم كثير. ثمّ إنّ النقد الجديد نفسه اغتدى إبداعاً يُكتب عن إبداع..
سُجِّل اسمك في موسوعة لاروس بباريس مصنَّفاً في النّقّاد، كيف تلقّيت تسجيل اسمك في هذا الكتاب العالميّ؟ وما الّذي أضافته هذه الاحتفاليّة العالميّة لاسْمك، ومنجزك النقديّ؟
عبد الملك مرتاض: كنت قرأت هذا الخبر في جريدة «المجاهد» اليوميّة، الناطقة باللّغة الفرنسيّة، ولم أطّلعْ عليه شخصيّاً. ويمثّل مثل هذا التسجيل إقراراً ببلوغ الشخص المستوى الّذي يجعله في زمرة النقّاد العالميّين، فهو بمثابة الدّمغة الشرعيّة للتصنيف النقديّ.
غير أنّ ذلك إذا وقع لأيّ شخص لا يشفع له فتِيلاً في أن يكون ناقداً حقّاً ما لم يواظب، ويُصْرِرْ، وينصَبْ، كيما يُضيفَ جديداً في سجلّه الشخصيّ من وجهة، وفي سجلّ النقد العالميّ من وجهة أخرى. والّذي نحزن له حقّاً أنّ أعمالاً نقديّة عربيّة متميّزة حقّاً، وأنّها بلغت حدّ الإبداع والابتكار والتأسيس، ولكنّها لم تترجم إلى اللغات العالميّة. ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الذين يتكلّمون هذه الألسُن بطلاقة واقتدار لا يعرفون من العربيّة إلاّ قليلاً، والعكس صحيح، ممّا جعل بعض هذه الأعمال، وهي قليلة على كلّ حال، لا تَحظى بالترجمة من العربيّة إلى سَوائها من اللغات...
الكتابة عن الثورة والوطن والقيم تحتاج إلى نفَس طويل وإلى عقل كبير وإلى خيال خصيب
وكان المستشرق الأمريكيّ دافيد إيرك قد ترجم لي إلى اللّغة الإنجليزيّة سنة 1986 فصلاً كاملاً من كتابي: «الأمثال الشعبيّة الجزائريّة»، ونُشر في كتاب بجامعة ميامي (ولاية فلوريدا)...
أنت حاضر بقوّة في الساحة الثقافيّة الجزائريّة والعربيّة بإصداراتك وكتبك، لكنْ تكاد تكون الغائب الكبير في الفعاليات الثقافيّة الجزائريّة، لماذا؟
عبد الملك مرتاض: أوّلاً لم أعُد أتلقّى الدعوات، فعلاً، بكثرة، لشهود مثل هذه الفعاليات الثقافيّة والأدبيّة الوطنيّة، ربّما لأنّ القائمين عليها يتهيّبون دعوتي، أو لا أدري ما علّة عزوفهم عن ذلك؟... ثمّ إنّي في حال تلقّي دعوات من بعض الهيئات الجامعيّة والثقافيّة قد أعتذر لهم شاكراً، وخصوصاً ما يتمحّض للمدن الداخليّة حيث أمسيت أتكاسل في السفر في غير الطائرة... لكنّ الطريف أنّي قد لا أُدعَى، أحياناً، حتّى إلى فعاليّات ثقافيّة تُقام بمدينة وهران حيث أقيم! ويبدو أنّ زامر الحيّ لا يُطرب، كما يقال!... بيْد أنّ هذا لا يؤثّر في مساري الفكري شيئاً... فأنا لا أزال أتعلّم العربيّة وأحقّق استعمالاتها يوميّاً، مع اعتكافي على الكتابة. ومن اليقين أنّ عمري لا يتّسع لمشاريعي الثقافيّة.
على الرغم من مسيرتك الحافلة والزاخرة بالأدب والنقد، وبالإصدارات التي تجاوزت أكثـر من سبعين (70) كتاباً، إلاّ أنّ تجربتك (على الرغم ممّا أُنجز حولها من رسائل جامعيّة) لم تنلْ حظَّها من الاشتغال والتناول النقديّ كما يجب، ألاَ ترى أنّ هذا إجحافٌ في حقكَ كاتباً وناقداً وباحثاً أكاديميّاً؟
عبد الملك مرتاض: قد لا أوافق على مضمون هذا السؤال، إذ لا أعتقد أنّ أحداً من الكتّاب الجزائريّين نال من العناية والبحث مثل ما نلته أنا، إذْ لا توجد، أو لا تكاد توجد، جامعة جزائريّة لم تسجّل فيها أبحاث أكاديميّة عن أعمالي النقديّة والسرديّة معاً. وقد حاولنا أن نحصيَ بعض هذه الأبحاث المسجّلة في الجامعات الوطنيّة، ما نوقِش منها وما لم يناقَش، (وفي الماستير والماجستير والدكتوراه) فألفيناها جاوزت المائة... كما أنّ باحثاً أكاديميّاً مغربيّاً، هو الأستاذ فريد معضشو، هيّأَ دكتوراه دولة نوقشت في سنة 2010، عن منهجي النقديّ في جامعة وجدة، وأنا شديد الاعتزاز بأن يقعَ الاعتراف من الإخوة المغاربة، وهُم مَن هم في الثقافة والعِلم، بجهود ناقد جزائريّ فتحضّر في أعماله أطروحة دولة، يناقشها خمسة من الأساتيذ، وتتوّج بالتهنئة والتنويه.
صدرت لك أعمال روائيّة عن الثورة الجزائريّة مثل: «رباعيّة الدم والنار»، وثلاثيّة الجزائر: «الملحمة»، و«الطوفان»، و«الخَلاص»، لماذا كلّ هذه الروايات كانت تيمتها الثورة، هل ترى أنّ الثورة لم تأخذ حقّها كما يجب في المدوّنة السرديّة الجزائريّة؟
عبد الملك مرتاض: الثورة الجزائريّة موضوع كبير، بل عظيم، ومثل هذه الموضوعات الكبرى كلّ ما يُكتب عنها يظلّ صغيراً وناقصاً وضحْلاً إلى حدّ كبير، والذين كتبوا في الرواية والقصّة أيضاً عن ثورة فاتح نوفمبر العظيمة، ممن عاصروها، عددُهم قليلٌ، ولا أدري ما منعهم من خوض الكتابة في هذا الموضوع الوطنيّ النبيل العظيم؟ وقد أكون أنا أكْتبَهم عنها فعلاً، وكما ذكرتِ، إذ صدر لي سبعة أعمال روائيّة كلُّها يمجّد هذه الثورة العظيمة. ولو كانت هذه الثورة اندلعت في بلد آخرَ فيه روائيّون، في حقيقة الأمر، لكانوا دبّجوا في تمجيدها آلاف الروايات، ومئات الدواوين الشّعريّة. ويبدو أنّ معظم شيوخ الأدب من الجزائريّين، ممّن عاصروا هذه الثورة، كانوا شعراء أكثرَ منهم روائيّين وذلك مثل: مفدي زكرياء، العيد آل خليفة، الصالح باوية، صالح خرفي...
أدب السِّيَرِ الذّاتيّة أخصب وأمتع ما يُكتب
والروائيّون من الجيل الثاني، لم يكادوا يكتبون عن هذه الثورة، لأنّهم لم يعاصروها وهم كبار، فلا يلام أحدهم إذا لم يكد يكتب شيئاً عمّا لم يرَ، ولم يجرّبْ...
باعتبارك ناقداً، كيف وجدت صورة الثورة الجزائريّة في المدوّنة الروائيّة الجزائريّة: كيف حضرتْ؟ وكيف وُظِّفت؟ هل أجادتْ في تناولها للموضوع؟ هل تأمّلت الرواية الثورة؟ هل استنطقتْها؟ هل تمثّلتْها؟ وهل رواية الثورة كُتِبت حقّاً، أم لم تُكتب بعدُ؟
عبد الملك مرتاض: إنّه لَمِن المستحيل أن تُكتب بعدُ، إذا لم تكن قد كُتِبتْ قبلُ. لقد سبق لي الإشارة إلى هذه المسألة في السؤال الخامس، وكأنّي استبقت الإجابة عن أسئلتك. وقد قلت: إنّ كلّ ما يُكتب عن المواضيع الكبيرة يكون صغيراً. وليس النقد إلاّ لغةً تُكتَب عن لغة أخرى، فهو «ميتالانـﭭـاج». ولو جاز أن يكتب أحدٌ النقد عن نفسه لكنت كتبت نقداً عن «ثلاثيّة الجزائر»، وأعتقد أنّ النقد الجديد لو انبرى لمثل هذه الأعمال الكبيرة والطويلة، لأنجزَ عنها مجلّداتٍ ضِخاماً. كما أنّ مثل هذه الأعمال لا تزال محتاجة إلى أن تحوّل إلى السينما لكي يتفاعل معها الجمهور العريض.
وأعتقد أنّ الكتابة عن الثورة والوطن والقيم الكبرى تحتاج إلى نفَس طويل، وإلى عقل كبير، وإلى خيال خصيب، وإلى لغة عاليَة نبيلة فخمة تتلاءم مع عظمة الموضوع، ولذلك تريْنَني كتبت الثلاثيّة بلغة عالية، قصدت علوّها، لم تُكتب بها أيّ رواية عربيّة، فيما أعلم، من قبل، لأنّ الموضوع ليس غرْس الباذنجان، واحتفار البصل، ولكنّه موضوع هو أعظم ما ينجزه الإنسان الكبير حين يسخو عطاؤه، وتسمو نفسه، وتصفو روحه، فيرقَى بتضحيته بالنفس، وهي أعزّ ما يملِك، إلى مستوىً يصير فيه غيرَ إنسانٍ عاديّ...
ألاَ ترى أنّ الحضور التقديسيّ للثورة في السرد، جعلها تحضر من زاوية أحاديّة النظرة، هي نظرة ورديّة في الغالب؟
عبد الملك مرتاض: كنّا نقول إنّ موضوع الثورة ليس كأيّ موضوع، ولا نعتقد أنّه اتّفق وجوده في تاريخ الشعب الجزائريّ بهذا الصفاء الروحيّ، وبهذه العظمة، وبهذه التضحيات الجِسام، وبهذا السّموّ النضاليّ العظيم، وبهذا الإصرار على النصر ولو تعرّض الشعب الجزائريّ كلّه للإبادة والفناء... أفترين أنّ النظرة إلى مثل هذه القيم العظيمة هي من جنس النظرة الأحاديّة الورديّة؟ تصوَّري أنّ الناس يخرجون ليتلقَّوا رصاص المستعبِدين الفرنسيين بصدورهم العارية، وأيديهم فارغةٌ من أيّ سلاح، إلاّ سلاحَ التضحية من أجل الوطن. بل إنّا كنّا ألفينا الجزائريّين يتنافسون في هذه التضحية وكأنّهم ذاهبون إلى ملعب لِشهود مقابلة رياضيّة جميلة... الله على الثورة الجزائريّة ما أعظمَها وأنبلَها وأشرفَها وأمجدَها وأجلَّها!...
لا أزال أتعلّم العربية
ولا نرى أنّ بعض التجاوزات التي وقعت بين قادة الثورة، أثناء حدوثها، هو ممّا ينقص من عظمتها، بل هي صُنّفت في منزلة القيم العظيمة إلى يوم القيامة.
«الحفر في تجاعيد الذاكرة»: رواية/ سيرة ذاتيّة، صدرتْ لك عام 2003. هل كان لديك هاجس ترْك أثر سيرتك في كتاب؟ وكيف تقرأ كُتب السير الذاتيّة في الجزائر؟ ولماذا نادراً ما يكتب الكاتب الجزائريّ سيرته، وإن فعل فهو لا يكتبها بإخلاص؟
عبد الملك مرتاض: أعتقد أنّ أدب السِّيَرِ الذّاتيّة هو من أرقى أنواع الأدب، وهو ينتمي إلى جنس السرد من وجهة، وإلى التاريخ من وجهة أخرى. وإذا لم يكن نصّ السيرة الذاتيّة أجمل، أو من أجمل، ما يُبدع الأديب، فاعلَمِنَّ أنّه يوجد شيء في ذلك غيرُ طبيعيٍّ.
ونحن نميّز بين أدب السير الذاتيّة الراقي الجميل، وبين المذكّرات السياسيّة، أو الرحلات، أو نحوها، إذ النوع الثاني يمكن للشخص أن يستعين به لكتابته، مثلما فعلتْ بريجيت باردو حين كلّفت شخصاً يكتب لها مذكّراتها، بعد أن قدّمت له الأفكار العامّة، وبعد أن كان مطّلعاً على سير حياتها. وقد لا يقال إلاّ نحو ذلك في كتابة بعض المذكّرات لساسة جزائريّين حيث استعانوا بسَوائهم في كتابتها حتماً، وإلاّ فكيف كتبوا ذلك ولم يكتبوا قبله ولا بعده شيئاً، وهم في الأصل لا يكتبون؟
والضعف الفنّيّ الّذي يخامر نوع السيرة الأدبيّة أنّ الكاتب لا يكتب كلّ شيء وقع له في شبابه أو صباه، لعلل مختلفة تجعله يتستّر على بعض الأمور الحميميّة التي تقع له، والتي يعُدّها مِلكاً خالصاً له وحده، وليس من حقّ غيره أن يطّلع عليه. وما عدا هذا النقص، فإنّ هذا النوع الأدبيّ من أجمل الكتابات وأصدقها، وأخصبها وأمتعها.
ونحن ارتأينا أن نكتب شيئاً عن حياة الصبا والشباب، لأنّا كابدنا مكابدة شديدة بلغت في أطوارها طور الشقاء المرير والعذاب الأليم، وقد علّق الصديق الأستاذ القبّاج على نصّ سيرتي الذاتيّة، ونحن، ذات يوم، ببيروت، فسألني: هل تلك المعاناة وقعتْ لي حقّاً؟... ثمّ علّق بأنّ طفولتي كانت قاسية جدّاً...
هل تقرّ بأنّ الناقد فيك، غطّى أو أثّر على حضور المبدع فيك؟ وهل كنت ترغب، مثلاً، لو أنّك تفرّغت لكتابة الرّواية والشِّعر؟ أم أنّ للنقد سحره وشغفه الّذي يجعلك تمارسه بكلّ إبداع؟
عبد الملك مرتاض: لقد استطعتِ أن تجيبي عن الأسئلة في سؤالك الأخير. النقد لدينا إبداع خالصٌ، وليس ينبغي أن يقلّ جمالاً عن النص المكتوب عنه، فنحن حين حلّلنا، في كتابنا «ألِف- ياء»، مثلاً، قصيدة «أين ليلاي» لمحمد العيد قد نكون كتبنا عدّة قصائدَ عن واحدة. وكذلك جئنا ذلك، في معظم كتاباتنا عن الشِّعر والقصة والرّواية، إلى آخر كتبنا، وهو عن مطالع المعلّقات: «الشِّعر الأوّل»، ذلك بأنّا نرى أنّ الذين يرون النقدَ علماً هم قد يحملون عُقَداً إزاء العلماء التجريبيّين في العلوم الدقيقة، مثلاً، لأنّ العلم هو ما تتمّ البرهنة عليه ببرهان دامغ مثل قولنا: 4 + 4 = ثمانيَة. وكلّ من انتهى إلى غير هذه النتيجة عُدّ مخطئاً.
لم أعد أتلقى الدعوات!
بل أنا أدعو إلى أن تكون لغة النقد موازية من حيث علوّ مستواها، وجمال نسْجها، للمكتوب عنه شعراً كان ذلك أم سرداً. وعلى أنّ من الكتابات السرديّة المصنَّفة على أنّها أدب، ليس لها من الأدبيّة شيء!.
تشتغل في حقل البحث العلميّ، وظلِلت وفيّاً له على الرغم من كثـرة انشغالاتك وتشعّبها، كيف تقرأ واقع البحث العلمي في الجزائر، وسياسته؟ وكيف ترى أداء مخابر البحث العلميّ في الجامعات الجزائريّة؟
عبد الملك مرتاض: البحث العلمي في العالم العربيّ بعامّة سيّء الحظ، يتعثّر في خُطاه، ويضِلّ في سبيله فلا يعرف أين الاهتداء إلى الغاية المقصودة؟ وأعتقد أنّ الحكومات، ومَن يسمّون «الباحثين» هم جميعاً على غير هدىً من أمرهم، إمّا قصداً وعمْداً، وإمّا خطأً ووقوعاً في سوء تقدير. وحين نتحدّث عن ذلك في الجزائر، فإنّ الّذي أعلم، بعض العِلم، أنّ باحثينا في العلوم التجريبيّة لم يخترعوا، إلى اليوم، إبْرة واحدة! بل هم يستهلكون الأموال العموميّة في غير طائل، لأنّ أموراً كثيرة غير واضحة ولا محدّدة في مسارات مشاريع البحث العلميّ. لقد كان يُفترض أن يوضعَ هدف صارم محدّد للباحثين من العلماء، فإن انتهَوا إلى تحقيق نتيجة من وراء بحثهم الشاقّ قُدّمت إليهم الجوائز السنيّة، والتنويهات الحميمة. ولا بأس أن تكون، أثناء ذلك، المحاسبة على إنفاق الأموال، إذا لم يكن في غير موضوعها.
وأمّا البحث في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة فإنّه يفتقر إلى الجدّيّة، إذ قد ترى من لم يكتب مقالة واحدة في مجلّة محكّمة يقدّم مشروع بحث إلى الهيئات الوصيّة ويُقبَل بحثُه، وتُرصد له الأموال الطائلة بسخاء! إنّ مثل هذا البحث يجب أن يكون تحت إشراف باحثين مشهودٍ لهم بالتجربة الطويلة فيه، فمِن الناس مَن خُلق ليظلّ مدرّساً صغيراً طول العمر، لا باحثاً خِرِّيتاً!.
في ظلّ تقاعس النقد الجامعيّ/الأكاديميّ عن دوره، انتشر النقد الصحفيّ، وأصبح يسود المشهد النقديّ في الجزائر، ويحتلّ حيزاً أكبر من النقد الأكاديميّ الّذي ظلّ اشتغاله محصوراً حول الأسماء المكرّسة، ما رأيك؟
عبد الملك مرتاض: المشكلة أنّي لا أعترف بالنقد الصحفيّ، في الجزائر خِصِّيصَا. وذلك لأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه. وذلك لأنّ غير المتخصّص في معرفة شيء لا يمكن أن يكتب عنه. وذلك لأنّ النصّ الأدبيّ، هو غير النصّ الإعلامي، لأنّه يقوم على انزياح اللّغة، وعلى انتهاك نظامها، وعلى الاغتراف من الاستعارات والكنايات والمجازات، والإعلاميّون يدرُسون شيئاً آخرَ غير هذه القيم الفنّيّة في تكوينهم الجامعيّ. وإذا رأيت بعض الصّحفيّين يخوض في بعض الأمر، بشيء من الكفاءة المعرفيّة، فإنّ ذلك كان لأنّه كوّن نفسه بنفسه، ولكنْ ليس كلّ الإعلاميّين ذاك.
والمشكلة الأخرى أنّ الصحف الكبرى، (ولا نتحدث عن الأوراق التي تطبع بضعة آلاف يوميّاً) لا تتّخذ لها ملحَقين متخصّصين، خارج التخصّص الإعلاميّ المحض، بدوائرها، فلا نجد متخصّصاً أدبيّاً، ولا متخصّصاً اقتصاديّاً، ولا حتّى متخصّصاً سياسيّاً يرقَى في تحليله إلى مستوى المنظّر الحقّ، ولا مدقّقاً لغويّاً فيها. ولذلك لا نجد كتابات عما يصدر من كُتب، وهو قليل جدّاً، في بلادنا، فإن وُجدتْ فإنّ تلك الكتابة قد يكتبها أستاذ متخصّص، من خارج الأسرة الإعلاميّة، ولكنْ هذا لا يتّفق لجميع العناوين. ولو كان باليوميّات الكبرى ملحقون من الصنف الّذي ذكرْنا لكانوا روّجوا قراءةَ تلك الكُتب الجديدة، ولكان ربّما المشهد الثقافيّ، هو غير ما هو عليه، لدُنّا.
تقلّدت منصب رئيس المجلس الأعلى للغة العربيّة (1998 - 2001). هل ترى من دور حقيقيّ لهذه الهيئة؟ وهل خدمت اللّغة العربيّة في الجزائر؟
عبد الملك مرتاض: نحن أنشأنا هذه الهيئة إنشاءً، بعد أن عيّنني على رأسها الرئيس اليمين زروال، مع ستّة وثلاثين عضواً، فأسّسنا الإدارة بكلّ أجهزتها التسييريّة، وأنشأنا مجلة اللّغة العربيّة، وأسّسنا موسماً ثقافيّاً للمجلس يحاضر فيه أهمّ العلماء الجزائريّين، وطبعنا أعمال المحاضرات للموسم الأوّل، ونشرْنا معجماً للمصطلحات الإداريّة، وكنّا أسّسنا لجنة برئاسة الدكتور سعيد شيبان لإنشاء معجم للمصطلحات الطبيّة. كما نظّمنا ملتقيات وطنيّة منها وضع اللّغة العربيّة في الإدارة المركزيّة، عقدناه بقصر الثقافة. كما عقدنا ملتقىً وطنيّاً لمعرفة وضع اللّغة العربيّة في الإدارات المحلّيّة بعنابة، حضره عدد كبير من الكتّاب العامّين للبلديّات عبر الوطن. كما عقدنا مؤتمراً دوليّاً عن «مكانة اللّغة العربيّة بين اللغات العالميّة» بالعاصمة، شارك فيه متخصّصون من سبعَ عشرةَ جنسيّةً... وغير هذا. وقمنا بأربعِ زيارات تفقديّة للوقوف على حال اللّغة العربيّة المستعملة في الإدارات الولائيّة: قسنطينة، والبليدة (حيث دشّنا أوّل عقد ميلاد باللّغة الوطنيّة مكتوباً على الحاسوب)، ووهران، والبويرة. كلّ هذا كان في بضعة وعشرين شهراً قضيناها على رأس هذه الهيئة.
وإجابة عن سؤالك، أعتقد أنّ لهذا المجلس دوراً عظيماً يلعبه، كما تنصّ عليه اللوائح، والمرسوم الرئاسيّ الّذي بموجبه أُسِّس.
كنت عضواً في لجنة التحكيم لمسابقة أمير الشعراء، كيف كانت التجربة؟ وكيف وجدت الفكرة التي جعلتْ من الشِّعر يُسمَع ويتابَع، جماهيريّاً، عبر الفضائيّات؟
عبد الملك مرتاض: أعتقد أنّ هذه الفكرة كانت ثوريّة، وكريمة، وحكيمة، وقد جعلت من الشِّعر مادّةً جماهيريّة يتذوّقها المشاهدون، ويتفاعلون معها، ويصوّتون لشعرائهم المفضّلين. وكان الناس قبل ذلك يعتقدون أنّ مثل ذلك لا يكون إلاّ مع لاعبي كرة القدم. يضاف إلى ذلك أنّ الجوائز العظيمة التي ينالها الشعراء، وخصوصاً الأمير المتوَّج، جعلتْهم يتطلّعون إلى التنافس، ويتعالون في تجويد الإبداع، بل صاروا نجوماً يُلتفت إليهم، كبعض نجوم السينما... وهذه السيرة لم يكن الشعراء العرب يحلمون بها لولا تنظيم هيئة الثقافة والسياحة والتراث في أبو ظبي لهذه المسابقة الكبرى التي يشارك فيها كلَّ موسم آلافُ الشعراء، يُختار منهم إلى التصوير المباشر إمّا خمسة وثلاثون، وإمّا ثلاثون، وإمّا عشرون.
وقد أثمر هذا التقليد الثقافيّ الجميل فعمدت بعض القنوات إلى تنظيم مسابقات محلّيّة في اختيار الشاعر الأوّل على المستوى الوطنيّ، كما فعلتْ قناة «الشروق» الجزائريّة إذ نظّمتْ مسابقة شاعر الجزائر، فأحدثت ثورة في الإعلام الثقافيّ.
والحقّ أنّا أعضاء لجنة التحكيم، في مسابقة أمير الشعراء، أنفسهم أفادوا من مسابقة «أمير الشعراء»، خصوصاً في ارتجال إصدار الأحكام النقديّة التي تتميّز بالأكاديميّة والإعلاميّة في الوقت ذاته، وممّا أفادوه من هذه التجربة التمرّس على استعمال سرعة البديهة في الحكم على النصّ الشعريّ في ظرف يسير جدّاً، في حين أنّ الجامعيّ قد يعيش مع نصّ القصيدة عاماً كاملاً قبل أن يعمِد إلى تحليلها. يضاف إلى ذلك أنّي أفدت شخصيّاً من الاطلاع على حركة الشِّعر العربيّ المعاصر من موريتانيا إلى سلطنة عُمان، وكنت أجهل قبل ذلك كثيراً من أحوال هذا الشِّعر وشعرائه.
إنّها تجربة استثنائيّة في جَمْهَرَةِ الثقافة الشِّعريّة وتعميمها بين عامّة المشاهدين. ن.ل