رفضت العمل في فضائيات عربية و لم أُمنَع من تقديم الأخبار بسبب الحجاب
قامة إعلامية صنعت مع نجوم الزمن الجميل مجد التلفزيون الجزائري عندما فضّل كثيرون الهجرة، فكتبت اسمها بحروف من ذهب في أحلك الفترات التي عاشتها البلاد خلال التسعينيات، هي الإعلامية نصيرة مزهود التي تفتح قلبها للنصر و تتحدث لأول مرة عن الجدل الذي صاحب ارتداءها للحجاب و حقيقة علاقته بتوقفها عن تقديم الأخبار، كما تروي بمرارة ذكرياتها مع قتل أيدي الغدر لزملائها، و تتطرق إلى تجربتها في برنامج "فاستبقوا الخيرات"، إضافة إلى أمور أخرى تكتشفونها في هذا الحوار.
حاورتها: ياسمين بوالجدري
تزامن دخولك التلفزيون العمومي مع الانفتاح الإعلامي الذي شهدته الجزائر، كيف عشت هذه البداية؟
لقد شكّل الانفتاح الإعلامي طفرة نوعية تمكّنا بفضلها من دخول التلفزيون الجزائري، فقد ظهرت خلالها الكثير من البرامج و اللقاءات التفاعلية مع الجمهور، مثل “لقاء مع الصحافة”، حيث كان الهدف منها فتح الحوار مع المجتمع و خدمة المواطن وسط تفتح إعلامي كبير و ارتقاء بالمشاهد في تقديم الخدمة العمومية، و هو ما تكلل بحصدنا عدة جوائز داخل و خارج الوطن في تلك الفترة.. لقد كانت هناك مجموعة رائعة من الصحفيين الذين تعلمت منهم، كما عرف التلفزيون الجزائري رواجا كبيرا فصار له نجومه، و إلى اليوم لا أزال أستشعر لدى المواطنين أن وجوه نهاية الثمانينيات و التسعينيات، هي الأحب إلى قلوبهم و كان لها من المصداقية ما يكفي لكسب ثقة المشاهد.
سمعت باغتيال يفصح على فراش الولادة و الموت كان يترصدنا
تُعتبرين من الوجوه الإعلامية المعروفة التي لا تزال محفورة في ذاكرة الجزائريين، فكيف هي ردة فعلهم اليوم عند الالتقاء بك؟
أشعر عند مقابلتهم في الشارع بالتفاف يحمل الكثير من الإخلاص الخالي من النفاق، و بأن هناك ثقة و مصداقية و شعور قوي بالاحترام جعل الجمهور يحبني و يقبلني، فالمعيار الأساسي لنجاح الصحفي هو قبول الناس.. عندما ألتقي بهم يخبرونني دائما أن هناك وجوها لا يمكن لهم أن ينسوها، ربما بحكم أن الجمهور كان مقبلا على الأخبار الأمنية في فترة التسعينيات التي عرفت تشبث المشاهد بالتلفزيون العمومي في غياب القنوات الخاصة، كما قد يكون للأمر علاقة بالقبول.
تميزتِ خلال تقديم نشرات الأخبار بالهدوء و قوة الإلقاء في آن واحد، كيف حققت هذه المعادلة؟
خلال التقديم تكون لدي مادة إعلامية يجب علي إيصالها إلى المشاهد، و لأفعل ذلك يجب أن تكون هناك ثقة و مصداقية، لذلك فالهدوء هو العنصر الأهم في المعادلة، فنحن مطالبون به لأن المشاهد لن يستطيع أن يطلب منا إعادة ما قلناه بسبب عدم فهمه.. يجب أن يكون التقديم بهدوء و بطريقة صحيحة من ناحيتي القراءة و نبرة الصوت، لكي لا تُبتَر الرسالة.
من انتقلوا إلى الخارج ليسوا بالضرورة من أحسن الإعلاميين
تصادف اليوم الذي أنجبت فيه ابنك، مع اغتيال زميلك اسماعيل يفصح يوم 18 أكتوبر من سنة 1993، حدثينا عن هذه اللحظات العصيبة؟
فترة العشرية السوداء هي بالنسبة لي سنوات تم بترها من مسار التنمية و التطور على كل الأصعدة و جعلتنا نتأخر، و هذا أمر يحزّ في نفسي، أما سماعي بخبر رحيل يفصح فقد كان من أصعب اللحظات التي عشتها في حياتي، فقد كنت في منتصف نهار ذلك اليوم بالمستشفى على وشك إنجاب ابني الأول سفيان، و بينما أنا أواجه مخاضا عسيرا، سمعت ممرضات يتحدثن عن اغتيال اسماعيل يفصح الذي تعلمت على يده الكثير.
كانت الاغتيالات تستهدف الصحفيين يوميا، كيف عايشتها؟
العديد من الزملاء سقطوا في الميدان تحت نيران الإرهابيين، فقد كنا نسمع كل يوم عن اغتيال أخت أو أخ و عشنا أحلك اللحظات، لكن في الأخير كنا نتوجه جميعنا إلى العمل بعدما نودع عائلاتنا و أولادنا في صمت، و إن كنا لا نجهر بذلك أمامهم.. لقد خرجنا من بيوتنا و نحن نعلم أن احتمال عدم عودتنا يصل إلى 90 بالمئة، لأن الموت كان يترصدنا.
لم يكن من السهل أن أدخل صباحا إلى مبنى التلفزيون، فأجد مكان أحد زملائي شاغرا في قاعة التحرير، لأكتشف أنه اغتيل عندما كان متجها إلى بيته. عشت أيضا أسوء اللحظات عند إذاعة أخبار الأعمال الانتحارية و التفجيرات الإرهابية، و أنا أرى صور الضحايا و الشعب الجزائري يبكيهم.
كنت أول صحفية عرض عليها العمل بقنوات عربية
لجأت بعض الصحفيات في التلفزيون الجزائري إلى التنكر في الحجاب هروبا من شبح القتل، هل فعلت مثلهن؟
لم ألبس يوما لا حجاب و لا جلباب إلى أن تحجّبت فعلا، فقد كنت أقضي حاجاتي اليومية وسط المواطنين كالمعتاد بأولاد فايت، و ذلك حتى أواخر سنة 1996 عندما انتقلت إلى منطقة أخرى.
كان ذلك مخاطرة منك، ألم تخش الموت؟
أنا أقول دائما أن الموت حق، و عندما يُكتَب لنا الموت سيحدث في أي مكان و في أية لحظة، حتى و نحن وسط أسرنا، لذلك لم أتنكر رغم أن الكثيرين من المحيطين بي عرضوا علي آنذاك القيام بنفس ما فعلته بعض الزميلات في التلفزيون الجزائري.
الكثير من زملائك غادروا الجزائر إلى الفضائيات العربية و الأجنبية في سنوات الإرهاب، و لمعوا هناك، لماذا لم تسيري على خطاهم؟
سأخبرك أمرا لا يعرفه الكثيرون.. لقد كنت أول صحفية في التلفزيون الجزائري يُعرَض عليها العمل في القنوات العربية حتى قبل اشتداد الأزمة الأمنية، لكني ترددت في القبول حينها، قبل أن تترسخ لدي قناعة بأن نجاح الإنسان يكون في وطنه، و هنا أشير إلى أن ليس كل الإعلاميين الذين ذهبوا إلى قنوات أجنبية هم أحسن الصحفيين، فهناك طاقات خارقة ظلت تعمل في الإذاعة و التلفزيون الذي أعتبره مشتلة للإعلاميين، و لو وجد العديد منهم فرصة للتكوين المتواصل أو فتحت لهم الفرص، لكُنّا ذهبنا بعيدا في الإعلام، لكن هناك الكثير من الكفاءات التي هُمِشت و لا تزال مهشمة.
لهذه الأسباب رفضت العمل في الفضائيات العربية
ما هي القنوات التي عرضت عليك العمل معها؟
كانت قنوات كثيرة، و أذكر أني تلقيت عرضا كان مع آخر مجموعة من صحفيي التلفزيون الجزائري التي التحقت بالقنوات الكويتية سنة 1996، حيث كانت هذه الفضائيات بصدد الإنشاء و لجأت إلى إعلاميين مكوَّنين، و قد رفضت هذا العرض كسابقيه، لأن لم أر ما يدعو إلى ذلك، حيث كنت قد صرت أما لابنين و زوجي إطار سام في الدولة، و كما كانت لهذه العروض امتيازاتها، كانت لها أيضا مساوئ.
توقفتِ عن تقديم نشرة الأخبار في عز عطائك، لماذا؟
توقفت لظروف أرفض الحديث عنها، لكن كانت هناك مزايدات و مغالطات و كثير من الكذب في الصحف حول هذه القضية، و من أشخاص لا يمتّون للأمر بصلة.
في هذا السياق، ربط كثيرون انقطاعك عن شاشة الأخبار بارتدائك الحجاب، و تناقلت العديد من الصحف الوطنية و حتى العربية هذا الخبر، ما ردّك؟
ارتديت الحجاب سنة 2012 عشية ذهابي لأداء مناسك الحج، و لا أحد في التلفزيون علم بأني ذاهبة باستثناء شخصين، لأني قررت ذلك في آخر لحظة، و قد لبست الحجاب عشية التوجه الى البقاع المقدسة، و كنت مقتنعة به و بأنه سيأتي يوم سأرتديه فيه.
ترفّعت عن الرد على جرائد أخطأت في حقي
الغريب أنه و بعد ثاني يوم لعودتي من الحج، تفاجأت بخبر أوردته إحدى الجرائد، مفاده أني مُنِعت من تقديم نشرة الخامسة في قناة الجزائرية الثالثة، لأني ارتدت الحجاب، رغم أني كنت لا أزال حينها في عطلة تبقّى لي منها 15 يوما و لم ألتحق حتى بمبنى التلفزيون.. لقد احترت كيف للجريدة أن تنشر هكذا خبر دون التأكد فذلك يدخل في أخلاقيات المهنة، و في الحقيقة لقد ترفّعت عن الرد، و كنت أفعل نفس الشيء، إذ أذكر أنه في بداياتي نُشِر لي حوار وهمي في صحيفة.
لكن ما الذي حصل بالضبط عند استئنافك العمل بمبنى التلفزيون؟
في الفترة التي سبقت ارتدائي للحاجب كنت أعمل في قسم الأخبار كمعدة و كرئيسة تحرير بالنيابة و لم أكن أقدم النشرة، و عند عودتي من الحج، لم يطلب مني أي أحد من مسؤولي التلفزيون الجزائري ألاّ أمر على الشاشة بالحجاب، كما لم يدعُني أي منهم إلى تقديم الأخبار.. في هذا الوقت كنت قد قررت ألا أقدم الأخبار مجددا، و المسألة هنا لا علاقة لها بالخمار رغم أنه لا توجد مادة في دفتر الشروط الخاص بالتلفزيون تمنع ذلك، لكني ارتأيت، قبل عودتي بشهر، الانسحاب من الشاشة لأن العمل و التحضير لم يعد كالسابق داخل قاعات التحرير، بما جعلني غير قادرة على المواصلة بتلك الطريقة، و هنا أوضح أني واصلت العمل بقسم الأخبار حتى 2014 بإعداد التقارير و الروبورتاجات الكبرى، كما كانت لدي حصتان أسبوعيتان.
هذا ما حصل بمبنى التلفزيون بعد ارتدائي الحجاب
التحقتِ بقناة القرآن الكريم سنة 2014، بما شكل تغييرا كبيرا في مسارك المهني، كيف حدث ذلك؟
كُلِّف بمشروع القناة الحاج محمد عوادي الذي عملت معه في الأخبار لسنوات، و قد كنت من الصحفيين الذين عرض عليهم المشاركة في إنشائها، لكن لظروف قاهرة حينها قلت له بأني لن أستطيع الالتحاق إلا بعد سنة، و عندما التحقت بقناة القرآن الكريم طلبت من المدير العمل كصحفية إلى جانب مجموعة من الإعلاميات و الإعلاميين الشباب الرائعين و ذوي الكفاءة الذين عملت معهم في السابق.
تقدمين اليوم برنامج "فاستبقوا الخيرات" الذي يلقى نجاحا كبيرا و يمثل تجربة تختلف كثيرا عن العمل في قاعات تحرير الأخبار، كيف تعيشينها؟
هذا البرنامج الأسبوعي وُلِد تقريبا مع قناة القرآن الكريم، و قد كان يقدمه في البداية الزميل نزيم فول الذي اعتذر عن تنشيطه فيما بعد. عندما التحقت بالقناة كانت الحصة متوقفة لـ 5 أشهر، فقرر المسؤولون و على رأسهم المدير، أن أقدمها.. لقد فوجئت عندما طُلِب مني ذلك لكني قبلت.
الحمد لله، هي بالنسبة لي تجربة جميلة و نعمة.. صحيح أنني تعلمت الكثير في الأخبار التي قدمت لي التألق و السعادة و الاحتكاك بالزملاء، لكن تجربة قناة القرآن كانت منعرجا كبيرا في حياتي، بعدما كنت قد قررت الانسحاب في فترة من الفترات، فقد حملت لي هذه القناة و برنامج “فاستبقوا الخيرات” تحديدا، سعادة لا يمكنك تصورها، حيث زادتني حبا و احتراما لدى الجمهور و لا أزال أتعلم فيها لليوم من الكبير و الصغير و من الشيوخ و الأساتذة، فعملنا قائم على التشاور و هذا هو مصدر قوتنا.
تجربة قناة القرآن شكّلت منعرجا كبيرا في حياتي
ما هي الانجازات التي تفتخرين بتحقيقها في برنامجك؟
لقد بدأنا العمل على مشاريع بسيطة، لكن اليوم صار أي مشروع و مهما كان حجمه، يلقى التفافا كبيرا من المحسنين و الجمعيات، و أعتقد أن أكبرها هو حملة “شتاء دافئ” التي تحولت إلى سنّة حميدة، فقد استطعنا بفضلها إيصال القوافل الخيرية إلى أبعد النقاط عبر الوطن، كما أننا نقوم بحملات في الأعياد و لا نكتفي بمساعدة الحالات الاجتماعية، بل نتابعها.
ما رأيك في ما تقدمه القنوات الخاصة التي تعزّز بها المشهد الإعلامي اليوم؟
أرى أن لها سلبياتها و إيجابياتها، فلقد خلقت تنافسا إعلاميا من شأنه استحداث برامج جديدة، لكن عليها الاجتهاد أكثر و العمل على تكوين إعلامييها و تطوير البرامج بالاعتماد على الإبداع، و في الحقيقة أنا لا أتابع كثيرا القنوات، لكن يحز في نفسي عندما أشاهد بعض الأخطاء الناجمة عن ضعف التكوين، حيث يجب مراجعتها و الحرص على الإطلاع على الأحداث و الإلمام الجيد بالمواضيع قبل طرحها للنقاش بعمق و بعيدا عن السطحية، و هنا أقول دائما أن البقاء للأقوى في مهنتنا لذلك أنصح صحفيي اليوم بالتواضع و الابتعاد عن الغرور فهو قاتل للموهبة، و النجاح لا يأتي بين يوم و ليلة، فالإنسان يتعلم إلى آخر رمق.
أخطاء القنوات الخاصة ناجمة عن ضعف التكوين
ما هي الكلمة الأخيرة التي تريدين توجيهها لجمهورك؟
في البداية أشكر جريدة النصر على هذا الحوار الذي يعتبر من حواراتي القليلة جدا، كما أوجه التحية لكل زملائي القدامى و الجدد بهذه الجريدة. أتمنى أيضا لزملائي في قناة القرآن الكريم و التلفزيون الجزائري المزيد من التألق و الرقي و أشكر كل المحسنين و كل إنسان خيّر تبرع لتفريج كربة أخيه.
ي.ب