أكد نور الدين بوكروح في حوار للنصر أن الشعب الجزائري صنع ثورته دون الأحزاب والشخصيات والنخب:
النصر: هل الأزمة ذات طبيعة سياسية كما يرى البعض أم أنها متعددة ذات أبعاد أخرى ثقافية وفكرية وغيرها؟
إذا أصررتم على استخدام كلمة «أزمة» التي تعني فقدان التوازن، و انكسار الانسجام، و نهاية الإجماع على شيء ما سواء في السياسة أو الاقتصاد أو علم النفس، فنعم يمكن فعلا القول بأن البلاد في أزمة لأن الشعب قد غيّر نظرته إلى الحياة و إلى العالم، و لم يعد متّفقا مع السلطة حول الوضع الحالي ومستقبل الجزائر.
و نجد اليوم من ناحية، فلول السلطة السابقة التي تعتقد أن المشكلة تكمن في استبدال الرئيس المخلوع برئيس جديد ينتخب على عجل وبنفس قواعد وآليات التزوير المنظم، ومن ناحية أخرى الشعب الجزائري الجديد الذي يريد الخروج من نموذج الحكم الذي فرض عليه منذ 1962، و بناء نموذج جديد على أسس المواد 7 و 8 و 11 و 12 من الدستور.
إنّ «الأزمة» قد اندلعت في روح الأمة، في الوعي الشعبي و في رؤية الجزائريين للأشياء... إنها ثورة عقلية دفعتهم إلى تغيير رؤيتهم وسلوكياتهم بالكامل. لم يعودوا يتصرفون بمنطق «تخطي راسي» كما كانوا من قبل، بل بمنطق «راسي و راسك في شاشية واحدة»، وهم اليوم يكتشفون ويعيشون محاسن هذا التغيّر ببالغ السعادة.
الثقافة الاجتماعية والسياسية للجزائريين تغيرت بشكل جذري خلال بضعة أسابيع فقط. و الأزمة و التمزق ذوو طبيعة ابيستيمولوجية قبل أن تكون سياسية. فالشعب والسلطة لم يعودا يفكران على نحو واحد. الأول يريد الجديد و الدائم و الشفاف، أما الآخر فيريد مواصلة الترقيع بالإلصاق باللعاب والربط بالحبال البالية. أحدهما ينظر نحو عالم الألفية الثالثة و يستشرف نفسه فيه، بينما لا يزال الآخر متمسكا بأفكار وأساليب الماضي.
لقد تصالح الشعب مع نفسه و مع جيشه الذي يتوقع منه الآن اتخاذ الخطوة الأخيرة: الاعتراف للشعب بكونه صاحب السيادة الوطنية والمصدر الوحيد لكل سلطة وفقًا لما تنص عليه أحكام الدستور منذ 1963. ما الذي سيفعله بسلطته ؟ 1) سينتخب رئيسا جديدا يختاره بحرية و على أساس برنامج لتحديث المؤسسات الجزائرية ولإنعاش الاقتصاد الوطني.
2) سينخرط في الحياة العامة من خلال خلق مشهد سياسي جديد سيفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة التي سوف ينظمها الرئيس الجديد لا محالة، في الأشهر الأولى التي ستلي توليه منصبه. هذا كل ما يقتضيه الأمر و كل ما سيحدث. أما الباقي فسيسير من تلقاء نفسه مع مرور الوقت. ما المخيف في هذا ؟
النصر: كيف ترون المخارج المناسبة للأزمة الحالية؟
لقد ضيعنا منذ رحيل الرئيس السابق شهرًا ونصف في مجرد الكلام الفارغ. الشعب يتظاهر يوم الجمعة و رئيس أركان الجيش، الذي هو الممثل المرئي الوحيد للسلطة، يجيبه يوم الثلاثاء. لكن الطرفين لم يعثرا بعد على القناة والتردد المناسبين ليتمكنا من التواصل وفهم بعضهما البعض، كما لو كان ذلك حرامًا أو أن أحدهما يوجد على سطح الأرض بينما يوجد الآخر في المريخ. مع أن هذا كان ممكنا منذ الأيام الأولى لشهر أفريل، و هذا كان الخطأ الأول.
الخطأ الثاني هو أن رئيس أركان الجيش عندما يتكلم و يعبر عمّا في جعبته كما فعل مؤخرا من مدينة تمنراست، فإنه يتوجه بحديثه إلى الطبقة السياسية والشخصيات والنخبة، بينما ليست لكل هؤلاء علاقة بـ «الحراك»، ولا تأثير لهم عليه. فالشعب صنع ثورته دون الأحزاب والشخصيات والنخب، لكن هذه الأخيرة هي التي تُدعى إلى الحوار مع السلطة. هنالك إذًا خطأ في هوية المحاورين الشرعيين، و لكنه خطأ يمكن تصحيحه بتوفر حدّ أدنى من النية الحسنة من الجانبين، حتى لا يحرم الشعب مرة أخرى من نصره، و حتى لا يتربع «طوايشية» على رأس ثورة لا شأن لهم بها سوى كونهم انضموا إليها في اللحظة الأخيرة على خلفية حسابات شخصية.
يجب على قيادة أركان الجيش أن تستوعب فكرة أن ما يحدث الآن لا يصنّف في خانة الأخبار المترددة من حين لآخر عن أعمال الشغب والتجمعات غير المرخصة في الشوارع أو غير ذلك من اضطرابات النظام العام العادية في بلدنا ؛ بل أننا نواجه شيئا استثنائيا و نادرا و فريدا من نوعه، ينتمي إلى التاريخ بمعناه الواسع و يمكن أن يصطلح عليه بصحوة أمة، و هي اللحظة التي يغيّر فيها شعب ما من نموذجه الفكري و ما يؤمن به، من عقليته وثقافته ورؤيته للعالم ، كما لو كان قد ولد من جديد.
هذا الشعب لن يرجع إلى بيته صفر اليدين، بل سيعود إليه فقط عندما يتأكد بأنه أنجز مهمته على أتمّ وجه: تنصيب «فخامة الشعب» على عرش ديمقراطية من صنع جزائري. فهو في هذه القضية يلعب على حياته ومستقبله و كل ما يملك... إذا عاد إلى بيته خالي الوفاض فإنه سيخسر كل شيء لثلاثين عامًا آخر، وسيعود أويحيى و «العصابة»، ربما تحت أسماء و خلف وجوه أخرى، لكنهم سيقودونه إلى العبودية. إنه يوجد اليوم في حالة نفسية تشبه تلك التي كان عليها في ديسمبر 1960 عندما كان مستعدًا للتضحية الجماعية من أجل الوصول إلى هدفه: استعادة السيادة الوطنية.
لا يريد أن ينتخب رئيسًا على عجل، كما إنه لن يقبل كذلك برئيس الأمر الواقع أو ب «جحا» أصغر بقليل من سابقه، أو ب «طوايشي» يكون قد نجح في التسلل بين القطرات. فهنالك الكثير من هؤلاء من جميع الأعمار و من جميع التوجهات، أو من دون توجه آخر غير الانتهازية و الوقاحة...
بذلك سنكون قد نظفنا الأرضية. و سيبدأ مسار الخروج من المأزق بعد تحديد هوية شركاء الحوار الحقيقيين، وهو ما لم يتم القيام به حتى الآن كما قلنا، و سيبدأ من ثمّ مسار إيجاد الحلول من خلال اتّفاق هؤلاء الشركاء على جدول أعمال ثم على خارطة طريق. الوقت لم يفت بعد لننكب على ذلك.
النصر: اشتغلتم في الحقل السياسي وأسستم حزبا سياسيا ثم غادرتم، لماذا ؟ وهل تعتقدون باستحالة العمل السياسي في الجزائر في مرحلة ما؟
جوابي عن سؤالك يوجد فيه. الانتخابات التشريعية التي نظمت في 1997 و التي كان من المفترض لها أن تعيد تفعيل المؤسسات الجزائرية التي انهارت في يناير 1992، اكتُسحت من قبل حزب عميل للسلطة، الأرندي، و الذي كان قد أنشئ شهرين قبلها. و قد أفرزت نتائج هذه الانتخابات عملية تزوير عملاقة و غير مسبوقة، تم خلالها تقسيم المقاعد بين الأحزاب حسب حصص أقرّتها السلطة.
لقد صدمت من ذلك بشدة وقررت أن أترك الحياة السياسية للسبب الذي ذكرته أنت في سؤالك: استحالة نشاط سياسي عادي و نظيف مع وجود هذه السلطة. لم تطأ قدماي بعد ذلك مقر الحزب لمدة سنة كاملة، كما كنت قد أبلغت أعضاء المكتب الوطني بقراري بالانسحاب. و قمت خلال تلك السنة بتأليف كتاب نُشر باللغتين الفرنسية والعربية من قِبل دار نشر «القصبة» تحت عنوان «الجزائر بين السيئ و الأسوأ»، استعرضت فيه رؤيتي للأزمة الجزائرية منذ أكتوبر 1988. بعدها عدت، ليس إلى النشاط السياسي الحزبي، لكن إلى الكتابة السياسية في ماي 1998 عندما بدأت في نشر مقالات ناقدة للسلطة أدت إلى قضية بتشين و لاعتقالي من قبل الشرطة، ثم بعد بضعة أشهر إلى استقالة زروال لأسباب لا أعرفها.
لم يتحصل حزب التجديد على مقعد واحد في البرلمان طيلة الفترة التي سيرته خلالها من 1989 إلى 1997. أما في الانتخابات التشريعية التي تلت انتخابات 1997 فقد فاز بأربعة مقاعد. لكم أن تستخلصوا النتائج بنفسكم. لقد تم تزييف النشاط السياسي في بلادنا قبل حتى اعتماد الأحزاب في أعقاب صدور دستور فبراير 1989 وقانون الأحزاب لجويلية 1989. لقد بدأت الحقائق في الانكشاف منذ اعتقال أفراد «العصابة»، و أملي أن يسلط الضوء الذي ينتظره الشعب على وقائع تلك الفترة و التي تلتها.
إلياس بوملطة
لقراءة الحوار كاملا: إضغط هنا