عرت التغطية المتحيزة للأحداث في قطاع غزة، الإعلام الغربي وأسقطت عنه المصداقية و المهنية التي بنى بها أسطورته، و أمام نفاق و تحيز واضح للطرف الإسرائيلي على حساب ضحايا العدوان الذي أعقب طوفان الأقصى، انجرفت كل الشعارات الرنانة إلى مستنقع الدعاية و تبنت شبكات وقنوات كبرى الطرح السياسي و غرقت في وحل التضليل و الأخبار الكاذبة والتعتيم بما يخدم إيديولوجيا متطرفة تقدم الجلاد كضحية، و في وقت استطاعت جهات محايدة أن تفرض طرحا متوازنا نوعا ما، تدور رحى معارك نفسية إلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي، أين يحاول الداعمون للقضية العادلة إيصال أصواتهم للعالم وكشف الوجه البشع للكيان وجيشه، مع شرح أصل الصراع و تأطير الصورة في قالب صحيح يؤكد حق الفلسطينيين في العودة و إقامة دولة على أراضيهم.
تحيز وانتقائية و دعاية مغرضة
بروباغندا ممنهجة للسياسية والأمن الإسرائيلي، و تغييب للواقع و تلفيق لسياقات و تركيب سيناريوهات كاذبة ومشاهد تمثيلية أبطالها مراسلون صحفيون، و ممارسات لا أخلاقية تتكرر على وسائل الإعلام منذ أسبوع كامل على بداية الأحداث في القطاع، مع تكريس قاموس مضبوط للأوصاف والعبارات المستخدمة في صياغة الأخبار وفي التعليق عليها، على نهج الخطاب الذي رافق أحداث " 11 من سبتمبر"، والهدف إثارة مشاعر العنف و الكراهية و التعتيم على ما يقوم به المحتل بغية إيجاد الذرائع و تبرير الجرائم التي يرتكبها في ظل سكوت وتواطؤ دولي، أمام المأساة الإنسانية التي خلفها القصف الهمجي و قطع الماء و الكهرباء و الغاز ومحاولات تهجير 2.2 مليون إنسان يعيشون في أكبر سجن مفتوح في العالم.
طرح يختلف تماما عن المعالجة الإعلامية التي رافقت الحرب الروسية الأوكرانية، أين وقفت الكاميرات والعناوين على ضفتي المتوسط إلى جانب المقاتلين الأوكرانيين و دافعت عن حقهم في المقاومة، وبعكس ذلك تمارس ذات المؤسسات انتقائية مقيتة في اختيار الصور و العناوين التي تخدم سردية الاحتلال.
أكاذيب إعلامية كشفها الذكاء الاصطناعي
و منذ شنت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس الفلسطينية هجومها على مستوطنات غلاف غزة المحاصرة في السابع من أكتوبر الجاري، و الإعلام الغربي يكرس خطابا يدعم المحتل و يجرم الضحية بل و يكيل التهم بمعاداة السامية و تأييد الإرهاب و الجماعات الراديكالية لكل من يتحدث عن الجرائم الصهيونية، ويتلف حول المأساة و أعداد القتلى، و يرد بكم من الأخبار الكاذبة و التوجيه المتحيز للقضية لكسب التعاطف، ويجتهد في تبرير همجية الكيان الغاصب، من خلال تصوير المقاومة كجماعة إرهابية مسلحة ارتكبت مجازر و فضائع في حق المدنيين الإسرائيليين.
و بالإضافة التي التغطية المتحيزة و التعتيم على الجرائم التي ترتكب في غزة وسقوط أزيد من 1800 شهيد بينهم 700 طفل، تم إلى غاية الآن تداول ثلاث أكاذيب كبرى روج لها السياسيون و استثمر فيها الإعلام أولها كذبة قطع المقاومة لرؤوس أربعين رضيعا، و التي أطلقها رئيس وزراء الكيان بن يامين ناتانياهو ورددها سياسيون أميركيون، و تلقفها الإعلام و تداولتها نشرات وتصدرت عنوانين الصحف. وبعدما تعالت مطالب بنشر صور عن الحادثة، قدم الكيان صورة لجسم رضيع متفحم، اتضح بعد التدقيق فيها باستخدام الذكاء الاصطناعي، بأنها مفبركة و نشر ناشطون الصورة الأصلية التي تخص كلبا في عيادة طبيب بيطري تم التلاعب فيها.
وكان الإعلامي الأميركي جاكسن هينكل، هو أول من كشف التزييف الذي صار يعرف لاحقا بالفضيحة بعدما نفى البيت الأبيض مشاهدة صور حقيقية للمزاعم الإسرائيلية، لتتراجع بعده مذيعة سي أن أن، سارة سيدنر عن تصريحات سابقة لها، إذ نشرت على منصة إكس "بالأمس قال مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إنه تأكد من قيام حماس بقطع رؤوس الأطفال و الرضع، بينما كنا على الهواء مباشرة، ذات الحكومة تقول اليوم إنها لا تستطيع تأكيد ذلك، كان يجب أن أكون أكثر حذرا في كلامي أعتذر".
من جانبها، نشرت مراسلة صحيفة الإندبندت، نيكول زيداك، مقطع فيديو أوضحت من خلاله بأنها لم تشاهد جثثا مقطوعة الرأس بل سمعت ذلك من أحد جنود الاحتلال.
ثاني كذبة، تمحورت حول تعرض مستوطنين للاعتداء الجنسي، وهو أمر كذبته شهادة لمستوطنة تحدثت لإحدى القنوات العبرية عن الطريقة المهذبة التي تعامل بها المقاومون معها ومع أطفالها، وهو مقطع تم تداوله بشكل كبير على مواقع التواصل.
أما ثالث كذبة، فهي الادعاء بأن 250 شخصا بينهم أجانب قتلوا في إطلاق نار جماعي خلال حفل موسيقي قرب إحدى المستوطنات، والحقيقة أنه لا وجود لأية صور أو فيديوهات تثبت الأمر، بل مجرد مقاطع تبين أشخاصا يهربون بسبب أصوات الصواريخ.
كــيل بمعيارين على بلاطوهات القنوات
يمكن للمتابع للتغطية الإعلامية الغربية للعدوان، أن يلاحظ بوضوح ازدواجية المعالجة و المعايير والمصطلحات عندما يتعلق الأمر بمحاولة تزييف الحقائق وتوجيه الرأي العام، وقد صنعت مقابلات للسفير الفلسطيني في بريطانيا حسام زملط، الحدث بعدما فضحت الخطاب المتحيز للطرف الإسرائيلي، خاصة مع محاولات دفعه إلى إدانة المقاومة، و تبني الرؤية التي يريدونها، حيث أحرج مذيعين بردوده ورفض مثلا، الإجابة عن أسئلة مذيعة بي بي سي حول إذا ما كان يدين معركة طوفان الأقصى، واحتج على مبدأ السؤال وانتقد القناة لعدم استضافته إلا حين تعرضت إسرائيل للقصف، معلقا «كل هذا بدأ في هذه البلاد، منذ أن سلبتنا بريطانيا حقوقنا دون استشارتنا والرجوع إلينا، ليثبت نهج المجتمع الغربي والدولي فشله بالكامل».
وفي مقابلة مع «سكاي نيوز» وصف الإصرار على إدانة الضحايا بالهوس وقال إنه طرح غير أخلاقي، أما خلال مروره على محطة سي إن إن الأميركية، فقد أشار إلى الوضع الكارثي و غير الإنساني في القطاع ومحاولات التهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين.
لغة أخرى طبعت الحديث عن غزة في البلاطوهات الفرنسية، وبلغت حد العنصرية و التطرف، باستضافة شخصيات تجرأت، إلى المطالبة بـ «تصفية» كل من يعارض الهمجية الصهيونية و يتحدث عن حق الشعب الفلسطيني في العيش، كما فعل المغني «أونريكو ماسياس».
ومع التركيز على قرارات منع كل أشكال دعم القضية الفلسطينية، يمارَس من جهة ثانية تعتيم تام على المظاهرات التي تعرفها عواصم كبرى ضد ممارسات الاحتلال، بما في ذلك مظاهرات يقودها يهود رافضون للصهيوينية.
من جانب آخر، سقطت الحريات الغربية التي رافع لأجلها الإعلام الأميركي والأوروبي دائما، في مياه المؤامرة الراكدة، و مرغتها مداخلات قوية لمحللين و نواب و صحفيين غربيين وجهت أصابع الاتهام لغرف التحرير و الأخبار، وقدمت طرحا متوازنا يتضمن اعترافا بمسؤولية إسرائيل و الغرب بضفتيه تجاه ما يحدث.
هجرة نحو التلغرام و منصة إكس
الحرب الإعلامية على غزة و المقاومة، لم تتوقف عند حد الصحف والبلاطوهات، فمواقع التواصل تشتعل منذ أسبوع و تتصدر الأحداث الترند على كل المنصات، ورغم أن المقاومة الفلسطينية نشرت فيديوهات قوية أعادت تعريفها وتقديمها للعالم، على غرار فيديو تعامل عناصرها مع أطفال المستوطنين خلال الاقتحام، وهو مقطع حقق تفاعلا كبيرا، إلى جانب مقاطع أخرى لتحضيرات الهجوم و للمنظومة الهجومية محلية الصنع و لمستوى الاستعداد، وهو محتوى صنف في خانة المعركة النفسية الإلكترونية، مع ذلك فإن الصوت العربي و الفلسطيني تحديدا، يجد صعوبة في الوصول إلى العالم بسبب التضييق التي تمارسه شركة ميتا المالكة لفيسبوك وإنستغرام و واتس أب، و الذي تتعمد حجب كل محتوى إيجابي عن المقاومة أو صور تفضح بشاعة الوضع في غزة، و قد يصل الحد إلى إنذار صاحب الحساب أو إغلاقه نهائيا، كما حدث مع المصور الصحفي الفلسطيني معتز العزايزة، الذي أغلق حسابه على انستغرام بسبب ما ينشره من حقائق، ليفتح حسابا جديدا بلغ عدد متابعيه مليونين في أقل من يوم واحد.
صحفيون فلسطينيون كثر، تعزز نشاطهم على المواقع لتصوير الوضع وتوضيح الصورة للعالم، و قد عرف الأسبوع الأخير هجرة جماعية من قبل مستخدمي الشبكات نحو تطبيق تلغرام و منصة إكس، بعدما قيدت المنصات الأخرى النشر.
بالمقابل، تجند العديد من صناع المحتوى على تيك توك و سناب شات، لتقديم فيديوهات مبسطة، تشرح أصل الصراع و بداياته منذ وعد بلفور إلى النكبة، و تؤكد أحقية الشعب الفلسطيني في أرضه و تتحدث عن وحشية الاحتلال الصهيوني، و الواضح من خلال بعض التعليقات على المنصات أن الإعلام الموازي نجح في تحريك الموازين حيث كتب ناشط على منصة إكس " ملاحظة مهمة: "هنا في برشلونة وفي المحيط الذي أتحرك فيه بين المسكن و العمل لاحظت اليوم، أن الرؤية بدأت تتضح أكثر للناس الذين أعرفهم، صاروا أكثر إدراكا لقصة الإبادة التي تحدث، رغم تواطؤ الإعلام، هذا دليل على أن النضال الالكتروني يعطي ثماره، لا تتوقفوا و ادعموا المقاومة فإنها مأمورة". هدى طابي