خرجت نهاية الأسبوع الماضي شقيقة الشهيد محمد العربي بن مهيدي المجاهدة ظريفة بن مهيدي عن صمتها بخصوص قضية القبض على شقيقها والإيقاع به من طرف قوات الاحتلال الفرنسي، كاشفة بأن شقيقها أوشي به بعد أن أرهق جلاديه الذين عجزوا لسنوات في البحث عنه لتخفيه وراء أسماء مستعارة، مضيفة بأن قبر الشهيد يتواجد بمقبرة العالية وليس مجهولا كما يروج من جانب بعض الأطراف، النصر التقت بالمجاهدة ظريفة على هامش الاحتفالية المنظمة على هامش الذكرى الـ59 لاستشهاد
شقيقها أين كشفت عن جوانب حياتية منيرة من حياة الشهيد.
التقاهــا: أحمد ذيب
هذه هي مسيرة العربي مع النضال السياسي السرّي
تروي ظريفة بأن شقيقها محمد العربي بن مهيدي قدر له أن يلد بدوار الكواهي محبا للجزائر وغيورا على الجزائريين، خاصة من الذين يجدون صعوبات بحثا عن لقمة العيش، ليكرس حياته من أجل هاته الفئة، وولّد الاستعمار الفرنسي للجزائر في قلبه حزنا عميقا وجعله ذلك يطرح تساؤلات تدور في فحواها: كيف لبلد حر أن يحتل من أجنبي يتسلط على شعبه ويتحكم فيه؟ وهو الأمر الذي لم يتقبله العربي منذ صغره.
العربي بحسب شقيقته حفظ القرآن في مسجد بمسقط رأسه بدوار الكواهي ثم التحق بباتنة أين تحصل على الشهادة الابتدائية بعد مكوثه عند خاله داخل مدينة بسكرة، بعد أن توجه لها الوالد مكرها في أعقاب قيام المستعمر باحتلال مصنعه الخاص بإنتاج التبغ بالخروب بقسنطينة، لتستقر العائلة ببسكرة طيلة سنوات وهناك أتم دراسته الثانوية، وبدأ بعدها مسيرته الأولى في النضال السياسي، بعد أن بدأت صورة الكفاح ضد المستعمر تتضح له جليا فهو لم يقو على الاقتناع بتحكم استعمار يتشكل من غرباء ليسوا حتى من أبناء جنس شريف في تسيير شؤون البلاد.
مخطرا الوالد بضرورة التوجه لسبيل آخر وأن مستقبله ليس بالبحث عن وظيفة بمؤسسة أو السعي وراء مصدر رزق للعائلة، والوالد يدرك بأن الطريق التي لم يفصح عنها العربي لن تكون سوى شرعية كونه كان لاعبا في فريق اتحاد بسكرة وكاتبا لرواية "في سبيل التاج"، غير أنه لم يدرك الوجهة الحقيقية التي سيتجه إليها ابنه، الذي بدأ يطيل سهراته بعمل سياسي سري يكون ليلا ويمتد حتى ساعات متأخرة من اليوم.
وخلف التأخر المتواصل للعربي عن سكنه انزعاجا لوالده، كما حصل في إحدى المرات أين عاد للمسكن مع آذان الفجر، ليستفسر منه الوالد عن وجهته نظرا لما تعرض له من مضايقات بعد أن انتزع أعمام العربي مساحات من فيرمة الجد واستيلاء الفرنسيين على المصنع، وفقدانه لكل الأموال غير أنه لا يريد أن يفقد شرفه ظنا منه أن العربي مدمن مشروبات كحولية، ليطمئن العربي والده بأن ما يجول في مخيلته لا أساس له مؤكدا له بأن شرفه في الحفظ والصون، وإذا أطال الله عمره فشرف العائلة سيعلو، وأطلعه حينئذ بأنه يناضل سريا مع أشخاص شرفاء يتعلم معهم السياسة رافضا الكشف عن هوياتهم وأنه يسعى رفقتهم لتحرير الجزائر من المستعمر، وبعد تأكد الوالد من ذلك سمح له بمواصلة مشواره بالعمل السري.
8 ماي المنعرج وبن مهيدي قتل معذبا ولم ينتحر
وتكشف ظريفة بأن نضال بن مهيدي السياسي ظل سريا حتى تاريخ 8 ماي أين خرج رفقة العشرات في مسيرة ببسكرة وكان هو حاملا للراية الوطنية، وكانت أطراف ببسكرة تحقد عليه كونه أصغر الشباب، ليلقى عليه القبض ليلة المسيرة ويعذب قرابة شهرين كاملين، ليقتنع بعدها بأن الذي دخل أرض الجزائر بالدم لا يغادرها إلا بالدم، وفرنسا بذلك لن تغادر الجزائر بالعمل السياسي لوحده، لتغادر بعدها العائلة عقب مغادرته السجن باتجاه قسنطينة.
وعن العربي الإنسان فهو بحسب شقيقته مبتسم دائما، بشوش ومطيع لوالديه، ومحب ويتكفل بأشقائه، فهو الذي أرسل الشقيق الأصغر للعائلة لتونس لإتمام دراسته، وتعامل معها كأخته الصغيرة ليصطحبها معه لأماكن مختلفة، فهو رجل عظيم سواء في تربيته العادية أو في حفظه للقرآن فهو موهبة من الله تعالى.
وتضيف المتحدثة بخصوص استقبال العائلة لخبر استشهاد شقيقها، بأنها كانت في منزل العائلة وكان والدها قائما يصلي صلاة العشاء، وكان للعائلة مذياع استمعت من خلاله لخبر نشرته فرنسا مفاده أن العربي بن مهيدي انتحر داخل زنزانته، وبدا الوالد حينها مستاء جدا من انتحار ابنه، ولم يصدق في الوقت نفسه الكيفية التي توفي بها ابنه المتدين والحافظ لكتاب الله وظل مترددا بين تصديق وتكذيب الخبر، ولم يتقبل الخبر الذي تسبب في إصابته بسرطان في الرقبة.
بيجار شجع جنوده بصورة بن مهيدي والعربي دفن بالعالية وقبره ليس مجهولا
تكشف شقيقة الشهيد بأن والدها وبعد نشر فرنسا خبر انتحار بن مهيدي، توجه للعاصمة والتقى بالفدائيين مستفسرا عن مكان قبر العربي، وتوجه بعد رحلة بحث طويلة وبمساعدة المجاهدين لإحدى الثكنات التي يسيرها بيجار، ليلج الوالد الثكنة متجها لمكتب بيجار أين تعجب لتشجيع الأخير ضباطه بصورة فوتوغرافية، اتضح بعدها بأنها لابنه محمد العربي، ليلتفت له ويستفسر منه عن سبب مجيئه معتقدا من لباسه بأنه "بشاغا" غير أنه أعلمه بأنه والد الشاب الذي في الصورة، ليقف بيجار بعد أن ظل جالسا.
ليسأله الوالد طالبا منه مكان ورقم قبر العربي، وطلب منه بيجار ألا يفتح قبر العربي حتى بعد انقضاء الحرب، ليتوجه لمقبرة العالية أين وجد القبر الذي يحمل الرقم الذي منحه إياه بيجار، والمتواجد على الجهة اليسرى عند مدخل المقبرة، وكان ذلك تزامنا وإعادة دفن رفاة الأمير عبد القادر، بمعية كل من ياسف سعدي وابن عمه نور الدين بن مهيدي وزوجها حساني عبد الكريم وبومدين وبن بلة، وتضيف المتحدثة بأن زوجها كشف بأنه وبعد اطلاعه على القبر بعد فتحه تفاجأ الجميع لتآكل الصندوق الخشبي الذي وضع فيه العربي الذي بدا في أبهى حلة ولم يتبق منه سوى الجهة التي يرقد عليها، وتأكد الجميع بأن القبر هو فعلا للعربي.
لحد الآن توجد أطراف تروج لخبر خاطئ يتضمن بأن قبر العربي مجهول، وقبر العربي بمقبرة العالية، وكل العائلة عاينت ذلك، فكل يوم 4 مارس يتوجه وفد هام للعائلة لوضع باقة من الزهور لمقبرة العالية كونه اليوم الذي يتزامن وتاريخ إعلان فرنسا عن انتحاره.
بن مهيدي يمشي بأسماء مختلفة والإيقاع به جاء بوشاية
تكشف محدثتنا بأن العربي ظل لسنوات متخف وراء أسماء مختلفة هربا من فرنسا وجنودها، فهو معروف باسم "الحكيم" ومعروف بوهران باسم "بومدين" إلى جانب عدة أسماء وألقاب، ولحظة توقيفه تضاربت التصريحات والأقوال، وحسبها فمن المستحيل أن تصل إليه فرنسا الاستعمارية من دون الإيقاع به بوشاية من مقربيه، فالعربي وبعد الانتهاء من عقد مؤتمر الصومام دخل الجزائر العاصمة لتأسيس المنطقة الحمراء وكان يلقب في القصبة باسم الحكيم، ويقطن بالعاصمة بشقة يعرفها هو إضافة إلى ياسف سعدي وإبراهيم شرقي وثالث، وهم الأربعة الذين وضعوا بينهم كلمة سرية حتى لا يصل إلى شقتهم آخرون.
وتضيف ظريفة بأن بيجار صرح بعد استقلال الجزائر بأن إبراهيم شرقي وبعد القبض عليه، كشف بأنه يعرف العربي بن مهيدي وتنقل رفقتهم للشقة، وبعد أن دق الباب رفض بن مهيدي الرد، ليوهم جنود بيجار العربي بأنهم نزلوا سلالم العمارة، ليتكلم بن شرقي مقدما الكلمة السرية وفتح العربي الباب وكانت تلك ساعة القبض عليه.
اسُتشرنا في فيلم العربي والنصب التذكاري الجديد لا يشبهه
تكشف ظريفة بخصوص الفيلم الجاري إنجازه حول الشهيد العربي بن مهيدي، أن القائمون عليه استشاروا العائلة وأخذوا معلومات من زوجها المجاهد حساني عبد الكريم قبل وفاته، وأخذوا معلومات منها كذلك وهو اليوم في الروتوشات الأخيرة، مبينة بأنها شاهدت لقطات من الفيلم للعربي وهو يمتطي حصانا، على غرار ما كان عليه في صباه، وحسبها فالفيلم من المنتظر أن يعطي صورة مقربة عن حياة العربي.
وبخصوص النصب التذكاري الجديد الذي وضع على النقطة الدائرية المتواجدة على الطريق الوطني رقم 3 وهو الذي رصد له مبلغ 260 مليون سنتيم، وأثار استغراب الأسرة الثورية بالمنطقة وكل الحاضرين للتدشين المؤقت له كونه لا يشبه الشهيد محمد العربي بن مهيدي، بينت ظريفة بأنها استفسرت عن عدم وجود شبه بين النصب وصورة العربي، ليعلمها القائمون على إنجاز النصب بأن الأخير ما يزال ورشة ولم تنته أشغاله بعد، وتم وضعه منتصف ليلة الأربعاء تحضيرا لزيارة الوزير.
هذه وصية بن مهيدي وعائلته لجيل الاستقلال
واختتمت ظريفة بن مهيدي حديثها بأنها وعائلتها كافحوا المستعمر بالسلاح وقاوموا وعذبوا، فالاستقلال لم يأت بسهولة وجاء بدم وأرواح طاهرة، لتتمنى من هذا الجيل بأن يحب الجزائر كما أحبها الشهداء، ويحارب من أجلها بالقلم والعلم والصبر، داعية إلى وجوب المثابرة والعمل من أجل ترقية الجزائر والمحافظة عليها، وذكرت ظريفة بأن الوالدة كانت تحب أن تفرح بزواج العربي الذي رحل في ريعان شبابه، غير أنه في إحدى المرات قبّل جبينها ويديها مطمئنا إياها بأنه وإن ظل حيا سينجب لها أحفادا تفرح بهم وإن استشهد فسيولد جيل كله من أبناء الجزائر هم أبناء العربي.