وقفنا مساء أمس الثلاثاء على مشاهد صادمة حين دخلنا مركب الخزف بقالمة، قلعة السيراميك الشهيرة بالجزائر، حيث لم نجد أثرا لسلسة الإنتاج التي ظلت صامدة هنا منذ 46 عاما، فقد تحوّل كل شيء إلى خراب و أطلال، في غضون أيام قليلة، بعد تنفيذ عمليات حجز، و بيع بالمزاد، لتسديد حقوق الدائنين، الذين ظلوا يلاحقون العملاق المتداعي في المحاكم و يدفعون به نحو الانهيار، الذي أصبح اليوم حقيقة ملموسة على أرض الواقع.
بقايا عمال يواصلون الاعتصام و الإضراب داخل خيمة صغيرة، للمطالبة بأجور تنقذ عائلاتهم من الموت جوعا، و ورشات إنتاج كأن زلزالا عنيفا ضربها، و لم يبق لها أثر، كما قال مدير المركب خير الدين قشاشة، الذي رافقنا في جولة بين الحطام، و قلبه يتقطع، و عيناه تدمعان، حزنا على قلعة الخزف التي انهارت في صمت، و ربما لن تقوم لها قائمة بعد اليوم.
«انظروا كيف أصبح عملاق الخزف بالجزائر»، يقول مدير المركب، و هو يلقي نظرة على عامل يقطع ماكينات الإنتاج الثمينة بآلة كهربائية بعنف، و آخر يشحن قطع الحديد في عربة شاحنة كبيرة ستتوجه قريبا إلى مدينة وهران لبيع الحديد بالكيلوغرام، لمتعامل أجنبي.
«لقد تم تفكيك المصنع بالكامل، لتسديد حقوق الدائنين، كناص، مديرية الضرائب، البنوك و الممونين، حتى العمال لم يتمكنوا من الحصول على أجورهم من عملية البيع، الذين رسا عليهم المزاد أخذوا كل شيء، و مازالوا يطلبون المزيد، انتهى كل شيء»، يقول مدير المركب، الذي بدى حزينا للوضع الذي وصل إليه عملاق السيراميك، الذي جثا على قدميه و تحول إلى حطام معدني يباع بالمزاد، لم يبق إلا السقف المغطى بصفائح الزنك التي ظلت تقاوم عوامل الطبيعة و الزمن، ويد الإنسان التي أتت على كل شيء، و أنهت قصة ميلاد القلعة الصناعية الكبرى بمدينة قالمة قبل 40 عاما.
كل الدائنين لمركب الخزف بقالمة لم يترددوا في تنفيذ قرارات الحجز، منهم من حصل على مستحقاته من بيع ماكينات عملاقة، و آخرون من مواد أولية، و البقية من تقطيع الحديد و بيعه بالمزاد، و هي آخر مرحلة تصل إليها عمليات تفكيك المركب التي توشك على الانتهاء، رغم الاحتجاجات و الاعتصامات التي يقوم بها بقايا العمال باستمرار، للوقوف في وجه موجة الدمار الكاسحة، التي جرفتهم في النهاية، و ألقت بهم في خيمة اعتصام صغيرة، لا تسمن من جوع و لا تقي من صقيع الشتاء الذي يطبق على المنطقة هذه الأيام.
و كان مركب الخزف بقالمة يشغل أكثر من 1200 عامل، عندما بدأ الإنتاج في 20 جوان سنة 1972، و يمول السوق الوطنية بالمواد الخزفية، معتمدا على مخزون هائل من المادة الأولية القادمة من مناجم جبل دباغ، الواقعة شمال ولاية قالمة، و بلغ المركب ذروة نشاطه نهاية السبعينات، و تحول إلى قلعة كبرى، و قاعدة قوية، من قواعد الصناعة الجزائرية، في تلك الفترة الذهبية، التي مرت بها الصناعة الوطنية.
و بعد عمليات إعادة هيكلة المؤسسات الصناعية الوطنية منتصف الثمانينات، وانفتاح السوق الوطنية على المنتجات الأجنبية، بدأت أزمة المركب تلوح في الأفق، حيث تراجعت المداخيل تحت تأثير المنافسة القوية التي فرضها الخزف الصيني ذو الجودة العالية.
وحاول المشرفون على المركب آنذاك، تدارك الوضع بتحسين الإنتاج، و تقليص عدد العمال عن طريق آلية التسريح الطوعي، و التقاعد المسبق، لكن الوضع بقي متجها نحو مزيد من التعقيد، مطلع التسعينات، بعد أن سيطر المنتوج الأجنبي على السوق الوطنية، و تسبب في كساد المنتوج المحلي، الذي عجز عن المنافسة بسبب ضعف الجودة، و كان أكبر خطأ ارتكبه المشرفون على المركب، حسب المتتبعين لشؤون الصناعة المحلية، أنهم لم يطوروا الإنتاج، للوقوف في وجه المنافسة الأجنبية، و بقوا معتمدين على نماذج قديمة من قطع السيراميك، رغم توفر المركب على إمكانات بشرية و مادية هائلة، تسمح لهم بالتطور و منافسة الصينيين.
و ظل تعداد عمال المركب في تراجع مستمر، تحت تأثير الأزمة الاقتصادية الخانقة و تراكم الديون، حيث هرب الكثير من العمال إلى ملاذات أخرى، يرونها أكثر أمانا لمستقبلهم من مركب الخزف المتداعي.
و بلغت أزمة الديون الخانقة إلى حد قطع التيار الكهربائي عن المركب أكثر من مرة، و العجز عن تسديد مستحقات صناديق الضمان الاجتماعي، و الممونين و أجور العمال، الذين دخلوا مرحلة الإضرابات الطويلة الأمد، من بداية التسعينات إلى اليوم.
الشراكة الإيطالية...بداية الانهيار و البيع بالمزاد
و بالرغم من المساعدات المالية التي قدمتها الدولة لإنقاذ مركب الخزف بقالمة من الانهيار، إلا أن الوضع بقي يتجه بسرعة إلى مزيد من التأزم، مما دفع بمجلس مساهمات الدولة، الذي تولى الإشراف على المركب، إلى البحث عن شريك فعال لوقف الانهيار، و وقع الاختيار على متعامل إيطالي، و متعامل جزائري سنة 2007، و عاد الأمل للعمال، بعد الوعود التي أطلقها الإيطالي، و أعلن الشركاء الجدد عن ميلاد شركة إيتار الجزائر، التي تولت الإشراف على قلع السيراميك المتداعية.
كانت بداية الشراكة مليئة بالنجاحات، و ظهرت منتجات جديدة ذات قيمة و جودة عالية، بينها الآجر المقاوم للحرارة، المستعمل في بناء الأفران العالية، و كل المنشآت المعرضة لدرجات حرارة قوية، و تحسنت جودة قطع السيراميك الأخرى، و تحسنت معها أجور العمال، بعد معاناة طويلة.
وفي تحول مفاجئ اختفى الشريك الإيطالي، و ترك الشريك الجزائري وحده يواجه أعباء الأجور، و الإنتاج، منافسة السوق الأجنبية، و عادت أزمة الديون من جديد، و تراجع الإنتاج إلى أدنى المستويات، و دخل عملاق الخزف بالجزائر إلى أروقة المحاكم، بعد أن لاحقه كبار الدائنين و صغارهم بلا رحمة، و بلا شفقة، حتى أوصلوه إلى ما هو عليه اليوم، بقايا عمال يواجهون الجوع، و ورشات و ماكينات إنتاج تقطع بعنف و شراهة، و تباع بالكيلوغرام في سوق الخردة، التي يسيطر عليها تجار الحديد القادمين من وراء البحر. و قبل أن نغادر مواطن الخراب و الدمار المنتشرة في كل أرجاء المركب، قال لنا المدير بأن متعاملا جزائريا ربما سيأتي قريبا لتركيب سلسلة إنتاج جديدة، و إصلاح ما أفسده جشع الدائنين و سماسرة الحديد.
فريد.غ