اللغز المحير: كيف يمكن للإنسان أن يغني أغنية حرب؟ يجب أن يبدو الأمر بسيطًا بالنسبة لأولئك الذين يزجون بالبشر للموت في معركة من أجل مفاهيم مثل الممتلكات والحدود ويقولون للواحد منهم: غن الحرب على نطاق واسع، بكامل صدرك، بكلمات مثل الوطنية والشجاعة والولاء. بالنسبة لأولئك الذين يبكون حداد موتاهم - مثل الشاعر اليوناني سيمونيدس الذي كتب نصوصا عن المحاربين الذين سقطوا - يجب أن يرتفع صوتك شجاعا مع مسحة من الحزن. ولكن ماذا عن سكان القرن الحادي والعشرين أولئك الذين يرغبون في معالجة ثقل الماضي المزدحم بالحرب بينما هم يدقون ناقوسا واضحًا للمستقبل؟
ترجمة عبد السلام يخلف
هناك الكثير مما يجب مراعاته خاصة بالنسبة للكتاب. هناك مشكلة الحجم أو السُّلم بحيث يجب أن تكون كل من التفاصيل الدقيقة واستعراضات الحرب متوازنة ودقيقة. هناك أيضا مشكلة الجمال بحيث يميل التاريخ الطويل لكتابة الحرب - من تينيسون إلى بات باركر إلى أديشي - نحو العظمة التي نسميها «السمو» ومع ذلك يبدو الأمر وكأنه سخرية أو جريمة لتصوير المعارك بشكل رائق. يجب ألا يتحول النص إلى بكائية. لا يجب أن يتحول إلى صراخ أو دعاية. يجب ألا يعمه التجريد أو تسوده الدقة مثل عملية جراحية. يجب ألا يستسلم لإغراءات الكتابة الهزلية لتمجيد البشاعة أو الانغماس في تفاصيل القتل والسفك المروع للدماء. وماذا الذي يفعله بالنساء؟
لقد لاحظت كارا هوفمان في صحيفة نيويورك تايمز عام 2014 أن «قصص النساء المحاربات القديمات غائبة تقريبًا عن ثقافتنا. ليس لأنه تم سرد قصصهن بشكل سيء ولكن ببساطة لأنه لا يتم سرد قصصهن في أدبنا وأفلامنا وثقافتنا الشعبية على الإطلاق». في القصص القديمة تأتي النساء كأسباب أو غنائم للحرب وفي الروايات الحديثة تظهر معظمهن كلاجئات أو ضحايا. في قصص الحرب القديمة والجديدة على حد سواء تكون النساء ممرضات للجرحى وضحايا الاغتصاب - ظل الحرب الذي لا يمكن التخلص منه. نادرا ما يتم تصويرهن كمحاربات. هل هذه حقيقة عميقة أم بقعة عمياء؟
رواية مازا منغستي الغنائية الرائعة الجديدة «ظل الملك» التي تحكي الحرب الإيطالية الإثيوبية الثانية، تمكنت بطريقة أو بأخرى من حل لغز كيفية غناء الحرب الآن. إنها لا تبحث عن سبيل ضيّق بين مضايق هذه الأسئلة الفنية والمعيارية بل بدلاً من ذلك فهي تشملها بكل تناقضاتها مما يضعها في تقاطع وتركيب مذهل. إن مشكلة المرأة في الحرب - المعارضة الأساسية لكونها السبب النهائي مقابل الضحية النهائية، والسلطة مقابل الهشاشة - هي بنية الصراع في لب الرواية والتي تنتهي بعبارة «استقر داخل قلب واقسمه إلى الأبد».
تحكي رواية «ملك الظل» قصة هيروت وهي امرأة إثيوبية شابة تنتقل من خادمة متواضعة إلى محاربة فخورة. إنها يتيمة تعمل إلى جانب طباخ لا نعرف اسمه في منزل ضابط يدعى كيدان وزوجته أستر. العلاقات بين الشخصيات - تشابك من الرغبة والولاء والغيرة والاستياء والحنان - تنشأ بشكل مناسب من خلال معركة حول الحصول على مسدس هيروت. هذا «الووجغرا» «المصمم لإصدار طلقة واحدة قاتلة ذات دقة ثابتة» حصلت عليه هيروت من والدها الراحل الذي استخدمه حين عمل كجندي في الحرب الإيطالية الإثيوبية الأولى. يكتسب هذا السلاح الذي تمتلكه العائلة قيمة أكثر عندما تقوم إيطاليا بغزو إثيوبيا مرة أخرى عام 1935. تدس هيروت المسدس تحت سريرها في حين تظن أستر أن الفتاة سرقت منها قلادة وبالتالي وجدت السلاح خلال إحدى غاراتها التفتيشية. في النهاية يستولي كيدان عليه من كل منهما. رداً على ذلك، في منعطف مفاجئ ولكنه مقنع، تبدأ هيروت بسرقة أشياء من المنزل ودفنها في حفرة بالقرب من الإسطبل.
عند اكتشاف هذا العمل تقوم أستر بضرب وجلد هيروت في مشهد مروع يميز جماله ودقته السيكولوجية كامل الرواية: «تأتي الضربة بمثابة إراحة لهيروت. إنه شيء يجب القيام به: أن تتعرض للضرب. إنه مكان يجب الذهاب إليه: أن تتألم. إنها ترحب بالانصراف عن الهزة التي تشعر أنها تتسرب من أستر وتغوص في جلدها. ببطء، تشعر بالجروح والخدوش والحروق المفتوحة. إنها تتمزق إلى قطع صغيرة». عندما يتوقف العنف «يدور العالم في سكون غير طبيعي. هناك فقط مشهد أستر وهي تسحق لها وجهها على الأرض وهي تنزلق نحوها. تلاحظ هيروت الحزن المحموم في عينيها والطريقة التي تمضغ بها الكلمات داخل فمها كي تبصقها خارجا. يزهر الغبار بينما تجرّ أستر نفسها فوق الأوساخ كما لو أنها نسيت استخدام ساقيها، كما لو أن جسدها لا يمكنه احتواء كامل ثقل غضبها».
مع تقدم الرواية تنحرف العلاقة بين أستر وهيروت وتدفقاتها وتأخذ منحى غريبا ثم تروح تغلي في غضب وحب. تتعرض المرأتان لكامل التعنيف الجسدي والنفسي من طرف كيدان وعندما تبدأ الحرب بجدية لا تسقط هذه الصراعات الشخصية بل تتراكم كأكبر المخاطر الممكنة. مثلها مثل هيروت، تحتاج أستر أيضًا إلى «شيء لتفعله»، لتتخطى حياتها في المنزل، لذا لجأت إلى تولي دور الجندي بكل فخر متوحش. عندما يتولى كيداني قيادة قوة متمردة في الشمال لمحاربة الإيطاليين، تصر زوجته على جمع وتدريب النساء المحليات لدعم هذا الجهد. تنضم هيروت إلى القوات وتسترجع مسدسها وتحارب إلى جانب هؤلاء النسوة اللواتي يتم الاحتفال بهن ببلاغة عادة ما تخصص للمحاربين الذكور. عندما تتدرب هيروت فإن العدو الذي تتصوره دائما هو كيدان. لعبت لاحقًا دورًا رئيسيًا في الحرب عندما لاحظت أن فلاحا موسيقيا يدعى «مينيم» (أي «لا شيء») يشبه إلى حد بعيد هيلا سيلاسي إمبراطور إثيوبيا الذي اختفى من البلاد. يأمر كيدان هيروت بإخفاء مينيم ومنحه اسم «ملك الظل» من أجل التمكن من حشد عزيمة الثوار المحبطين في البلاد، تظهر هي بجانبه كحارس ملكي له.
في النهاية يتم القبض على هيروت وأستر في معسكر حرب يديره العقيد فوتشيلي والذي يقوده جندي يهودي إيطالي اسمه إيتور نافارا (أو «فوتو» لأنه يحتفظ دائمًا بكاميرا معه) لالتقاط صور للأسرى الإثيوبيين وهم يلقى بهم بطريقة بشعة من أعلى الجرف في الهاوية. تنغمس منغستي في نفسية هذين الرجلين مع التشويش الذي يضم كلا من القسوة والإشفاق على النفس، وتأملاتهما حول الذكورة وصورتهما لدى الآخر. تروي أيضا العالمين الداخليين لامرأتين أخريين هما طباخة كيدان وساقطة تدعى فيفي ينتهي بهما العمل كجاسوستين متمردين. تدخل منغستي في نفسية هيلا سيلاسي التاريخية التي حولت «فواصلها» هذه الرواية الثانية إلى نوع من مقدمة لروايتها الأولى «تحت نظرة الأسد»، عن أيام حكمه الأخيرة في عام 1974. مرتين تقدم الكاتبة «تاريخا موجزا» استطراديا لمعلومات عن شخصيات ثانوية يتخللها وصف موجز لصور إيتور الفوتوغرافية التي أصبحت نقطة تقاطع مادية تجمعه مع هيروت بعد عقود من الزمن.
هذا ليس معقدًا كما يبدو. كل أشكال هذه الفصول قصيرة وإن لم يكن من السهل التنبؤ بها بحيث لا يشعر القارئ أنه تحت رحمة نزوات ديكتاتور تجريبي ولكنه في أيد سيدة ثابتة ومتحكمة في المواقف كما هو الحال في المقطع الذي تتفوق فيه أستر على هيروت وتتكرر بعض الكلمات (الانقسام، الدوران، الإزهار، الحرج، المحموم) وتميل القلوب إلى رفع دقاتها وصخبها. ليس هناك فكاهة في هذه الرواية، فالضحك مر، ساخر، مجنون، ومرة واحدة فقط كان سعيدا. لكننا ندرك في النهاية أن هذه اختيارات شعرية متعمدة - للبساطة والنبل - مع ظهور المزيد من الإشارات إلى الإغريق. فهناك تلميحات إلى «الإلياذة» وأصداء إيكاروس ودايدالوس بينما يتم الإلقاء بالإثيوبيين إلى الهاوية.
كل هذه العظمة وكل هذه الأبهة هي في خدمة قصة امرأة اسمها هيروت، قصة لا تمحى، مقنعة جدا لفكرة البطولة التي لم أتمتع بمثلها في قراءاتي كما أفعل الآن. جعلتني هذه الرواية أشعر بالشفقة والخوف في آن واحد، ومرات عديدة منحتني قشعريرة. كانت القراءة على هذا النحو: في خضم المعركة، بعد أن تعرضت هيروت للتعنيف الكبير من طرف كيدان، فجأة ذهب خوفها من الموت. ها هي تتجه نحو جنود الجيش الإيطالي ضاربة بيدها على صدرها وهي تقول: «بوم» (صوت الانفجار).
* بقلم ناموالي سيربيل / نيويورك تايمز سبتمبر 2019.