منظومة القيم بدأت تتغير نتيجة غياب دور التربية وتأثير العولمة
مع تسارع وتصارع الزمن في هذا الراهن المتشعب، ما هي منظومة القيم التي تشكل ثقافة المجتمع الجزائري الآن، وما مدى تأثير العولمة على قيم الثقافة الجزائرية؟، أيضا ما مدى تغير أو ثبات القيم في المجتمع الجزائري، وكيف يمكن للتربية أن تؤدي دورا تجديديا لقيم هذا المجتمع: الدينية والتاريخية والاجتماعية؟، أيضا كيف يمكن معالجة أزمة القيم التي يعانى منها الإنسان الجزائري والتي نجدها أكثر حدة عند جيل الشباب الذي يعاني غموضاً في الهوية وضياعاً في الأهداف.
حول هذه القضية المتشعبة، يتحدث في ندوة «كراس الثقافة» لهذا العدد، مجموعة من الأساتذة والدكاترة الأكاديميين من تخصصات متنوعة، منها: علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس، وهذا حتى تكون الرؤى متكاملة، وملمة ولو بدرجات متفاوتة بحيثيات هذا الشأن الحساس.
إذا تحدثنا عن منظومة القيم المشكلة لبنية ثقافة المجتمع الجزائري فيمكن الحديث عن ثلاث ركائز وهي، أولا: ما هو مشترك إنساني بين جميع شعوب العالم من حب وتطلع لما يريد أن يكون عليه أي مجتمع إنساني كحفظ نفسه وبناء وطن تحترم فيه قيم الإنسانية كالحرية والمواطنة والتسامح والتواصل في ظل الدولة المدنية الحديثة.
ثانيا: قيم الأصالة والعروبة والأمازيغية: وفي هذا المستوى نجد قيم التكافل والتعاون والحمية نحو بلوغ الهدف مهما كان هذا المرمى صعبا أو عسيرا، وكذلك الإلتفات إلى تكوين بنية مجتمعية مغاربية عربية إسلامية لها خصوصيتها في العالم العربي والاسلامي والعالمي ولا ننسى قيم الثورة ضد المستعمر التي شكلت تفاؤلا.
ثالثا: القيم الإسلامية، وهذه القيم بالطبع مستمدة من الإسلام باعتباره ديانة عالمية تحترم وتقدس الإنسان بإعتباره حاملا لأمانة وكلت إليه من قبل المتعالى وهو ملأ الوجود بالقيمة، لقوله تعالى: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا»، وهذه الركيزة تعد الفكرة الدافعة للحفاظ على الركيزتين السابقتين وملهمة لروح الحماسة والفعالية.
إن تجربة الانفتاح والتنميط التي تمارسها العولمة مع أي ثقافة أدت إلى تغيير في الثقافة والقيم في المجتمعات المستهلكة بإعتبار أن العولمة منتج ثقافي للآخر ولسنا النحن من ساهم في انتاجها، وبطبيعة الحال أي ثقافة تحاول أن تمارس فعل الهيمنة والتنميط لتجعلها بشكل يخدم مصالحها، فالقيم الثقافية في الجزائر قد مُست في بعض جوانبها بفعل حدية فعل الممارسة العولمية.
حقيقة إن القيم في المجتمع الجزائري قد مسها فعل التغيير ولا أدل على ذلك مثلما نجده لطائفة من المخضرمين الذين قد عاشوا بين فترات زمنية مختلفة من عهد الاستعمار إلى الآن، وهذا التغير بالسلب والإيجاب حتى نكون منصفين، إلا أن دائرة السلب تكاد تكون الطاغية على ماهو جيد، إلا إن القيم الأصلية -الدينية- تكاد تكون متماسكة رغم الهزات الإرتدادية لفعل التحديث كما يسمونه.
إن التربية هنا لا يمكن أن نحصرها في المفهوم الضيق، وهو الأسرة فقط، وخاصة أن الأسرة قد زعزعت الحداثة قيمها لتصبح قيم الإعتناء في كثير من الأحيان، فمعاني التربية لابد أن يتبناها المجتمع وتفعلها الدولة عبر المؤسسات المختلفة مثل: المدارس والجامعات والمساجد والمجتمع نفسه، على أن تكون هذه المؤسسات محترمة لخصوصيات المجتمع الثقافية، الدين والتاريخ والبنية التكوينية للمجتمع الجزائري، ولا يمكن الحديث عن تجديد مع إقصاء لدور المجتمع.
لعل تحديدك لفئة الشباب بالخصوص التي تعتبر الأكثر تأثرا للواقع العولمي على مستوياته المختلفة لاسيما واقع الإعلام الفائق وواقع عالم الأشياء المبهرة خاصة التقنية منها، مما شكل لنا نوعا من الإنسان يميل للإستهلاك وغريزة عجيبة لحب التملك، على حساب سؤال «الأنا» الذي نعاني منه «النحن»، فالضمير الجمعي للمجتمع الجزائري «مأزوم» في ظل سؤال الهوية والغاية والمصير، فمعرفة الذات هنا لاتكمن إلا بمعرفة الخصوصية الثقافية التي نغاير بها الآخر، فإذا كان سؤال الخصوصية المرجعية مفقودا فإننا سنبقى بعيدين جدا لوضع إجابة هنا، لكن لبعث الأمل هنا، نقول إن الرهان هنا الذي لابد أن يفعل ونجعل عملية البعث تنصب عليه هو «فعل الإيمان وتجديد الوجدان والضمير» ونعني به تجديد الصلة بالله وهذا الأمر سيكون له وجوده إذا كان الإيمان من القلب وليس مجرد تقليد للفعل الجمعي في دائرة الممارسة الطقوسية، إننا هنا نتحدث عن الإيمان الذي تلعب فيه قيمة الإحسان دورا محركا للأفكار الحية التي تجعل المجمتع هو الذي يريد ويفعل ويصنع، وليس مقلدا أو مرآة عاكسة لأفعال الغير أو مجرد سوق رائجة لمستهلكات الأفكار العالمية.
مع تسارع وتصارع الزمن في هذا الراهن المتشعب، ما هي منظومة القيم التي تشكل ثقافة المجتمع الجزائري الآن؟. يمكن أن نجيب على هذا السؤال إجابة مزدوجة مركبة، أي ما هي مصادر ثقافة المجتمع الجزائري من حيث الصورة النّظرية أولا، وثقافته من حيث مادته الواقعية ثانيا، فمن حيث الصورة النّظرية نلاحظ أن ثقافة المجتمع الجزائري تتشكل من الدين والموروثات الثقافية التي تنسجم مع المبادئ الأخلاقية لدين الإسلام، فالقيم الدينية والقيم الاجتماعية والقيم النَّفسية والقيم التاريخية، تداخلت لكي تشكل منظومة ثقافية يتشربها الإنسان الجزائري. أما من حيث المادة الواقعية أو الثقافة الواقعية، فهي تعبر عن لحظات الانفصال عن هذه القيم الأصلية، بخاصة في مستوى القيم الإجتماعية والنّفسية، وبداية الإنخراط مع ثقافة جديدة تصنعها الوسائل الإعلامية التي بدورها لا هم لها إلا بث الثقافة الاستهلاكية والسلعية.
وتبعا لهذايأتي دور العولمة التي تعيد تشكيل الثقافة الجزائرية وثقافات المجتمعات الأخرى على حد سواء، فتدخل إلى صميمها وتغير من أصولها، فتحل بدلا من الالتزام بالأخلاق التحرر منها، وتجعل العلاقات الاجتماعية القائمة على التكافل والمحبة واحترام القيم، لا تنسجم مع الفردية التي تنادي بها العولمة، أو بالأحرى النرجسية، أي أن الذّات تقبل أو ترفض ليس بناء على قيم، وإنّما بناء على رغبة ذاتية فردية خالصة، فالعولمة فعلا فتحت لنا الحدود الجغرافية وغيرت من الزمن وجعلت من التواصل مفتوحا، لكنها دمرت منظومة القيم الأخلاقية التي تعبر عن سلامة الفطرة الإنسانية، وعن الجانب الروحي في الإنسان.
لكن ورغم هذه الأزمة في القيم الجزائرية، إلاَّ أن العلاج ممكن ضمن هذا التحدّي، وهو علاج متوقف على تجديد مؤسساتنا التربوية، وعلى رأسها مؤسسة الأسرة والمسجد والمدرسة والجامعة، فهذه عليها أن تجعل من أولى أولوياتها بناء الوجدان وتنمية البعد الروحي في الطفل، لأنه خميرة المستقبل، ولأن قوة الروح منبع المقاومة وأداة حفظ منظومة القيم الدينية والاجتماعية والنّفسية والتاريخية الخاصة بثقافة المجتمع الجزائري. والتركيز على مرحلة الطفولة هذه هي الحصن الحصين لحفظ الهوية وإنقاذ الشباب من الشعور باليأس وضياع القيم، فالقيم هي التي تعبر عن نشاط الروح الإنسانية، بينما العولمة تعبر عن النشاط الجسمي، والروح أولى في الاعتبار من ثقافة الجسم، لأن الغاية الكبرى من وجود الإنسان هي تنمية هذا الثراء الداخلي فيه لكي لا يطمس جسمه روحه ووجدانه، ولكي لا نصل إلى الحالة الثقافية التي يعيشها الغرب في تجرده من القيم الأخلاقية، وعجزه في المقابل عن خلق قيم تلبي حاجاته المتكاملة. إن الطريقة المناسبة للحافظ على روح القيم هي إيجاد القدوة للشباب التائه، الذي أضحى يشعر بالعبث واليأس، وأيضا إنشاء علم جديد يهتم بكيفية تفعيل القيم وتجديد العلوم النفسية العاجزة عن إيجاد حلول نفسية فعلية، إن رجال الأخلاق يقولون اليوم، أن الروح هي التي تعالج النفس وليس العكس وهذا العلم يمكن أن يكون علم روحانيات جديد ينقل الثقافة من النمطية والشكلية إلى الروحية والعلوية.
أزمة القيم العميقة التي تمر بها الجزائر والتي بدأت تظهر انعكاساتها بشكل واضح على كل المستويات الهيكلية للمجتمع، هي في مجملها نتاج واضح لكثير من الإخفاقات على عدة مستويات خاصة الحضارية والفكرية التربوية والاجتماعية التي عاشتها البلاد منذ الاستقلال إلى اليوم. فما نلاحظه اليوم من مشاكل وأمراض وآفات وإضطرابات تكاد تعصف بالمجتمع بكل فئاته ومكوناته هي نتيجة منطقية لتدني المستويات الفكرية والعلمية والتربوية وغياب أفكار ومشاريع وسياسات قائمة على أسس حضارية صلبة، نابعة من توجهات وأفكار المجتمع الجزائري وانتماءاته التاريخية، وهو ما أدى إلى التعثر في كل التوجهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلاد وأحدث حالة من التخبّط الذي يكاد يفقد الجزائريين بوصلتهم ويجعلهم فريسة للتيارات المتضاربة من الشرق والغرب.
إن قيم العولمة -وأقصد بها محاولات الهدم التي تمارسها التيارات الوافدة من وراء البحار- والتي تخلت عن طرق الاستعمار القديمة، وأصبحت اليوم تستهدف قلوب وعقول الناس من خلال وسائل جهنمية رهيبة تهدف إلى مسخ وسلخ وتشويه الأسس والمرجعيات الفكرية والتاريخية والحضارية التي يقوم عليها المجتمع.
إن انهيار قيّم العمل والعلم والمعرفة والتطور والتربية والأخلاق والإخلاص والضمير واحترام الآخر والمنافسة والإجتهاد وتقدير العائلة والمجتمع وحب الوطن وإتقان العمل والصدق والصراحة والأمانة والمسؤولية والواجب والإنتماء الحضاري والعرقي، وغيرها من القيم، هي في الحقيقة دليل واضح على إنهيار منظومة القيم التي لن يقوم بدونها أي بناء سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي وثقافي، لأنها في النهاية هي ذات القيم التي تشكل الإنسان وتجعله خليفة في الأرض لكي يقوم بتعميرها وبنائها، ويؤسس لمجتمع يعيش في وطن متكافئ ومتجانس تسوده الطمأنينة والأمن والرخاء، وفي حالة إنهيار هذه القيّم فإن كل المقومات المادية والمالية ستتحول الى أسلحة للدمار والتناحر والتشاجر والتقاتل وتقضي على وجود الإنسان ذاته.
في العادة يلجأ الإنسان إلى القيم كمعيار لتقييم الأعمال والتصرفات سواء الصادرة منه أو من غيره، فهو يعتبرها ميزاناً لكلامه وكلام غيره، ومقياساً لترجيح أمر على آخر، فجميع شؤوننا في الحياة من عمل وزواج ودراسة وعلاقات تخضع للتقييم، فالقيم هي المعايير التي نستند إليها لإصدار الآراء والأحكام وعلى أساسها تبنى كل أعمالنا الحاضرة ومشاريعنا المستقبلية، وهي التي تؤطر مشاعرنا وإعتقاداتنا وأفكارنا.
تشكل القيم الاجتماعية بنية العقل الجماعي. فالقيم تفسر للشخص الأجنبي السلوك الإجتماعي للأفراد والجماعات في مجتمع ما، وهي في نفس الوقت المصدر الاجتماعي لنمطية سلوك الأفراد وطريقة تفاعلهم مع الآخرين.
أما داخل المجتمع فإنها تفيد في التفاهم والتوافق الاجتماعي وبالتالي إلى استقرار النظام الاجتماعي وتماسك أفراده في بناء واحد. فهي تزود الفرد بالتوجهات العريضة لما يجب أن يكون عليه السلوك المفترض وما يتوقعه المجتمع منه، وهي بالتالي وسيلة لإصدار الأحكام على التصرفات والممارسات المتعدية.
يكون دور القيم في المجتمع بمثابة العملة غير الملموسة التي يلجأ إليها الناس في التعامل بينهم وتبادل المنافع والتعايش، أما في المجال الثقافي فهي تمثل المرجعية الثقافية التي تميّز هوية المجتمع عن غيرها من المجتمعات البشرية الأخرى. فهي من جهة تبيّن مدى اشتراكه مع تلك المجتمعات، وفي نفس الوقت مدى تميزه عن الآخرين، والحقيقة أن منظومة القيم بدأت تتغير في مجتمعاتنا وتصطرب طبعا نتيجة غياب دور التربية.
القيم هي المعايير العامة التي تشكل في مجملها النظام الإجتماعي والنسق الثقافي والوفاق الأخلاقي للمجتمع. وهي كذلك إعتقادات راسخة في العقل، لما هو صحيح وما هو مهم. فالقيمة تقتضي الإيمان بأن شيئا ما هو خير وذو قيمة، وهي كذلك تقود الفرد في تحديد الأفضليات من بين الخيارات المتاحة له، وما هو جدير في حياتنا للحصول عليه أو ما هو جدير للتحقيق والمجاهدة، والقيم تزود الشخصفي إطار مجتمعه بالتصور العام لما هو خير أو صالح أو جيد، وهي بذلك تمدنا بفهم الخلفية الفكرية التي توجه الناس في حياتهم وتضبط الأنشطة التي يقومون بها في اليوم، وهذا الخيار تحدده المنظومة التربوية وتصيغه في برامج ومناهج وتصنع به أفرادا وأجيالا تعرف وتعمل وتتقن من أجل الدنيا والآخرة، وفي النهاية يجب ضبط مشروع المجتمع الذي نريده.
تعيش الساحة الاجتماعية والثقافية في الجزائر اضطرابا كبيرا في منظومتها القيمية نتيجة عوامل متعددة ومتداخلة، قد يكون أصلها تقهقر الدين في نفوس الناس، ففي الجملة، يحدث صراع بين القيم الغربية التي حلّت بداية نتيجة الإحتلال الثقافي الفرنسي، ولكنها استمرت إلى يومنا وتكرست تحت تأثير العولمة والإعلام المعاصر وعوامل أخرى منها: -التركة الاستعمارية الفرنسية: فالمشروع الإحيائي أو الإصلاحي الذي تبناه المجتمع الجزائري بقيادة جمعية العلماء المسلمين نجح في استعادة منظومة القيم الجوهرية إلى الساحة الاجتماعية وإنقاذ المجتمع من المسخ الكلي، لكنه مع ذلك لم يستطع أن يمنع حالة «الازدواجية الثقافية» التي لا تزال تصبغ الحياة المدنية، حيث تحوّل المجتمع إثرها إلى حلبة صراع ثقافي بين القيم والقيم المضادة، مما أحل انقساما في المجتمع واستقطابا بين النخبة المفرنسة ذات التوجه «التقدمي» الذي يصفه المناوؤون له «بالإنسلاخي»، والنخبة المعربة والإسلامية ذات التوجه التأصيلي الذي يصفه المناوؤون له «بالرجعي».
يمتد هذا الازدواج في الحياة اليومية ويمسّ جميع النواحي المدنية من معاملات وهيئة وسلوك، ففي المجال اللغوي يعتبر الحديث بالفرنسية قيمة ثقافية تفتح الأبواب للمعاملات الإدارية والعلمية وحتى التجارية، فمن لا يحسن اللغة الفرنسية ومن لا يلقّم حديثه بالمصطلحات الفرنسية قد يكون عرضة للحطّ المبطن لدى المستمع واستهجان منه خاصة إذا تحرّى اللغة العربية، وفي المقابل فإن الفئة المعرّبة ترى من اللغة الأجنبية بقية من عهد الإستعمار البائد وخيانة ثقافية وانسلاخا فكريا، وقد بلغ حد رد الفعل الإجتماعي إلى استعمال اللغة الفرنسية لمخاطبة الحيوانات وخاصة الكلاب.
إن الحديث عن المعالجة يتطلب رؤية واضحة وجريئة لوضع المقدمات وهي خطوة مسؤولة بالدرجة الأولى من طرف النخبة في المجتمع ترتقي بنفسها وتجر معها المجتمع على شكل سيرورة وصيرورة تراكمية.
تمثل منظومة قيم مجتمع ما الإطار المرجعي الموجه للسلوك الفردي والاجتماعي لمجموع أفراده، بحيث تفرض عليهم توجيه سلوكياتهم وفقا لغايات وأهداف المجتمع. كما تشكل منظومة القيم المعيار والمقياس الذي يعتمد عليه في الحكم على ما هو مدنس «الممنوع» وما هو مقدس «المسموح» فيما يتبناه الأفراد من أفعال وسلوكيات. وتتداخل القيم، في أغلب المجتمعات، مع العادات والتقاليد والأعراف وتتنوع القيم لتشمل القيم الدينية «التدين، الورع، التقوى، التضامن...» والقيم الاجتماعية والاقتصادية. وبطبيعة الحال، كون المجتمع الجزائري مجتمع مسلم، فإن منظومة قيمه إنما هي مستمدة من مقومات الثقافة الإسلامية.
ومع أن القيم تنتقل من جيل إلى جيل عن طريق ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية وكذلك الأسرية، فإن التغير يطرأ عليها وهو يفسر ما يعانيه المجتمع الجزائري من ظاهرة تصدع قيمه وفقدانها لفاعليتها وكذا ظاهرة اللامعيارية «الانوميا» وصراع الأجيال وتضاد القيم. وإلا كيف نفسر ما يعرفه المجتمع الجزائري من سلوكيات عدوانية وإجرامية كالسرقة والرشوة والاختطاف وتعاطي المخدرات والإدمان والانتحار والعنف اللفظي والجسدي... هذه السلوكيات بطبيعة الحال تعكس تصدع منظومة القيم في الجزائر وضعف فاعليتها في ضبط السلوك الاجتماعي لأفراد المجتمع وتحديده وتوجيهه لغايات محددة.
من بين الأسباب التي أثرت على قيم الثقافة الجزائرية نذكر ما يسمى بالعولمة، فقد أصبح العالم اليوم أشبه بقرية صغيرة ماانفكت تختزل فيه المسافات، ما أدى إلى احتكاك الثقافات المختلفة فيما بينها.
إن العولمة اليوم لم تعد تختص فقد بعولمة رؤوس الأموال والشركات المتعددة الجنسيات، بل تعدت ذلك إلى ميدان الثقافة والقيم، أضحت فيه الأفكار سلعا «عابرة للقارات والدول» ومهددة لنسق قيم الكثير من الدول.
في ظل هذه المتغيرات، تشهد منظومة القيم في الجزائر تراجعا كبيرا أمام القيم المادية الاستهلاكية والفردية الرأسمالية التي تشبع بها بعض شبابنا ووجد فيها ملاذه في ظل تآكل قيمنا نتيجة لما يسميه البعض «بالغزو الثقافي» أو «التهجم الثقافي». والحق أن وسائل الإعلام اليوم تلعب دورا كبيرا في الترويج لثقافة «الغالب» وتنميط سلوكيات «المغلوب» على حد قول عبد الرحمان بن خلدون في قوله بأن «المغلوب مولع بتقليد الغالب». هذا ما جعل شبابنا اليوم يعيش حالة من الصراع القيمي والازدواجية الثقافية بسبب تعارض نسق قيم مجتمعه مع واقعه المعاش والأفكار والقيم الجديدة المستوردة.
يمكن للتربية أن تؤدي هذا الدور إذا ما استطاعت أن تكون شبابا قادرين على «التكيف» في مجتمعهم، فالتغيرات السريعة التي تعرفها المجتمعات وخاصة مجتمعنا تجعل من قيمنا عرضة للتغير والتطور، فمنظومة قيمنا آيلة لا محالة للتغير وأن هذا التغير هو أحد أهم أسباب الأزمات الاجتماعية التي يصطدم بها الشباب في مراحل حياتهم ما يجعلهم يرفضون الامتثال لقواعد القيم السائدة في مجتمعهم ورفضهم لها. إن الهدف من التربية لا بد أن يكون بتكوين شباب الغد على «التكيف» داخل مجتمعهم ومعالجة أزماتهم الاجتماعية بتطوير سلوكيات ايجابية تتماشى وتتوافق مع خصوصياتهم الثقافية.
تتشكل منظومة القيم في المجتمع الجزائري من روافد متعددة تراكمت عبر الأجيال والعصور صنعت هويته الثقافية والحضارية، وميّزته عن غيره من المجتمعات. وإن تعددت الروافد فإن رافد الإسلام كان أقواها وأعمقها لما حمله من دين عالمي خُتمت به الديانات السماوية، وما تضمنه من أخلاق سامية حفظت كرامة الإنسان واعترفت بحق الاختلاف، وما برهن عليه من تفتح على الحضارات السابقة التي انصهرت فيه دون أن تفقد خصوصياتها الثقافية. وهكذا عاش الإنسان الجزائري عبر القرون حريصا على كرامته، ومدافعا عن شرفه، ومتعلقا بأرضه، وغيورا على حريته، ووفيا لدينه، ومتضامنا مع المظلوم، ومتفتحا على غيره. غير أن الاستعمار الفرنسي أدرك مبكرا هذه الخصائص فوضع مشروعا متكاملا لهدم كل تلك القيم السامية. وما زالت آثاره قائمة إلى اليوم على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلتها الأحزاب الوطنية والحركة الإصلاحية خلال فترة الاحتلال، ثم الدولة الجزائرية المستقلة من أجل إصلاح ما أفسدته السياسة الاستعمارية.
أرى أن تأثير العولمة على قيم الثقافة الجزائرية، جلي وواضح. أنطلق هنا من مقولة المفكر الاستراتيجي المصري الأستاذ السيد يسين: «لا نبالغ أدنى مبالغة إذا قلنا أن الإنسانية تنتقل الآن، عبر عملية معقدة ومركبة، صوب صياغة مجتمع عالمي جديد، تحت تأثير الثورة الكونية». فالجزائر كجزء من الإنسانية الواقع في قلب العالم بحكم موقعها الجغرافي والحضاري تتأثر باستمرار بهذه المتغيرات التي تفرضها العولمة في أشكالها المتعددة عبر وسائل الاتصال والتواصل الحديثة. إن السائر في الشوارع الكبرى في الحواضر الجزائرية أو التونسية أو السعودية ينسى لحظات أنه يعيش في بلد عربي، فالعلامات التجارية الغربية تستحوّذ على المشهد أينما وجّه نظره. واللغات الأجنبية حاضرة في كل المعاملات التجارية والنشاطات الثقافية. كما أن سلوكات الناس وملابسهم أصبحت غريبة عن عاداتنا وأعرافنا التي كنا إلى وقت قريب نفتخر بها ونعتز بها!. تتغيّر القيم التي هي نتيجة تراكمات تجارب الأجيال المتعاقبة، وتختلف وتيرة التغير بحسب التطوّر الحاصل في المجتمع في مجالات مختلفة، فيقاوّم القيم الوافدة أحيانا، ويتكيّف معها أحيانا بمقدار ما يساعده على حماية نفسه من الضياع أو الفناء. كما ينتج قيما جديدة أحيانا أخرى للإقدام نحو مستقبل أفضل. لقد عرف المجتمع الجزائري بدوره تحوّلا في مجال القيم نابعا من الذات ومفروضا من الآخر. فالتحوّل الذاتي هو استجابة لتطوّر المجتمع ورغبته في الانتقال من الأحادية إلى التعددية، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن احتكار الثروات إلى التوزيع العادل لها، ومن الانغلاق إلى الانفتاح، ومن الأصالة إلى الحداثة...الخ. أما التغير المفروض فكان مسايرة مقهورة للتحولات الكبرى التي عرفتها الإنسانية في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين. فلم يكن المجتمع الجزائري مخيرا فيها، بل مجبرا على ذلك كباقي المجتمعات الأخرى بما في ذلك المجتمعات المتطوّرة. إذا كانت مهمة التربية في الماضي هي بناء الإنسان من جميع جوانبه الروحية والعقلية والنفسية والخلقية والبدنية وفق منظومة قيمية توافقية أو مفروضة بالقوة، فإنها اليوم تتمثل أيضا في توجيه هذا الإنسان نحو الرقي بمرافقته من بعيد في عملية التكيف مع القيم الوافدة بسرعة وبكثرة من خلال غرس قواعد منهجية وأدوات نقدية محصِّنة. فإن التربية يتعيّن عليها قبل كل شيء أن تصنع فردا قادرا على التعايش مع التحديات القائمة، وواعيا بدوره في المجتمع، مشاركا دائما في حراكه السياسي والاقتصادي والثقافي الصاعد. المؤكد أن أزمة القيم التي يعاني منها الإنسان الجزائري والتي نجدها أكثر كما قلتِ، عند جيل الشباب الذي يعاني غموضاً في الهوية وضياعاً في الأهداف. حقيقة هذه المشكلة مطروحة أمام السياسي والمفكر والمربي وكل من له مسؤولية في بناء المجتمع وتوجيهه. إن كثيرا من التحوّلات التي نشاهدها يوميا في شوارعنا ومدارسنا وأسواقنا وملاعبنا، تكشف خللا عاما يهدد مستقبلنا إذا لم نستدرك الوضع بسرعة لنحصر المخاطر ونتخلص من المشكل قبل فوات الأوان. ولن يكون ذلك ممكنا بدون تضافر الجهود لإصلاح الخلل الذي صنعته استقالة النخبة السياسية والثقافية تاركة الشاب الجزائري يتعامل وحده مع الهوية الأصلية الفائضة والثقافة الغربية الغازية المجتاحة التي تحاول باستمرار أن تفرض عليه منطقها العقلي وأسلوبها السلوكي ونمطها المعيشي. إننا حقا في حاجة ماسة إلى مشروع حضاري جديد متجذر في موروثنا المتنوّع، ومستفيد من الانجازات المعاصرة، ومساهم في بناء نهضة إنسانية مشتركة.