بدأ المسرح الجهوي لأم البواقي يتعافى في عروضه للكبار بعد سلسلة من النكسات الفنية المؤلمة التي سبق وأن قدمها في الفترات الماضية، فوجدناه يقدم هذه المرة العرض المسرحي «تينهينان» لليلى بن عائشة تأليفا وكريم بودشيش إخراجا وتصميما للديكور. تمثيل فريق سبق لمجموعة منه أن قدمت العديد من الأعمال للمسرح نفسه. بينما كانت الموسيقى لعبد الكريم خمري. العديد من النقاط المضيئة توجد في هذا العمل بلا شك تشجع المتلقي على حضور العرض والاستمتاع به في كل مرة يُعلن عنه. العرض الشرفي كان في مسرح قسنطينة ثم تم تقديم العرض في أكثر من ولاية في إطار جولة فنية.
ياسين سليماني
يحاول العرض الاشتباك مع مرحلة تاريخية من أهم مراحل تاريخ الجزائر من خلال شخصية تنهينان القائدة والملهمة ليس للتوارق فقط ولكن لكل من يعرف السياقات التاريخية والظروف السياسية التي ظهرت فيها هذه المرأة التي تتحدث كتب التاريخ عن فرادتها.
في الملخص الذي قرأناه وجدنا العمل يقف على «شخصية تينهينان» من وجهة نظر إنسانية وبمقاربة نسوية وبقراءة تجمع بين الحقيقة والكثير من الخيال لما خفي من التاريخ لنقف على جوانب من شخصية تينهينان المرأة الحازمة في قراراتها الصارمة في تعاملاتها القوية في شخصيتها والمؤثرة في من حولها، تنيهينان «الأميرة والملكة والزوجة» ولا أعرف واقعيا الفرق الذي يُقصد من وجهة النظر الإنسانية والمقاربة النسوية والقراءة الجامعة بين الحقيقة والكثير من التاريخ. هل يتطرّف هذا العرض عندما يدّعي أصحابه أنهم يقدمون وجهة نظر إنسانية؟ أليس المسرح من أول ما ظهر في التربة اليونانية إلى اليوم يقدم وجهات نظر إنسانية؟ ما حدود هذه اللفظة في سياق العمل الذي شاهدناه؟ لم نجد في العرض مقاربة نسوية (إذا كان كاتب هذا الملخص يفهم جيدا فلسفة النسوية ومقارباتها بعيدا عن الكليشيهات الجاهزة) وفي العرض ذاته لم نلمس شيئا من الأميرة الملكة والزوجة (هل تزوجت تينهينان في العرض؟ !)
علينا ألاّ نقف مطولا حول مصداقية بعض الأحداث التي قدمها العرض فهذا يهدم العمل كلّيا إذا استجلبنا القراءة التاريخية من مرويات وما تواتر عند المؤرخين والآثار أهمها على الإطلاق الوجود الروماني عند التوارق. هل كانت تينهينان وأبوها قبلها يعانيان من الهيمنة الرومانية ومحاولات الاعتداء أم كانت الهجومات الخارجية من غيرهم؟ فحتى عندما نتحدث عن «الكثير من الخيال» لا يمكننا أن نتجاوز حقيقة أساسية: العرض يسوّق لنا شخصية تاريخية كانت موجودة فعليا، والاشتغال الفني في العمل يجب أن يمس الجزئيات التي سكت عنها التاريخ لا أن يزيف الوقائع الكبرى والمحطات الأساسية التي فصل فيها المؤرخون.
فلا يمكن أن يقال أنها التقت بالرومان وأنهم قتلوا والدها بينما الرومان تاريخيا لم يتوغلوا ضمن تمددهم الاحتلالي متجاوزين الشمال. التفريق مهم جدا بين الخيال بمعناه القيمي الذي يفجّر الطاقة الإبداعية ويضيف للعمل ويغنيه وبين التزييف الذي يعني الخلط والإساءة وعدم التحكم في المادة وهذا ما يثير الاستغراب من الكاتبة. مع التأكيد أنّ الفن لا يقدم لنا التاريخ كما هو، ولكن يقدم لنا التاريخ كما يراه الفنان ولا يمكن للمؤرخ أن يحاكم الفن بتهمة التزييف، لكن على الفنان أن يعرف الأماكن التي يمكن له أن يشتغل خياليا والأماكن التي تمثل مرتكزات مرجعية لا يمكن التحريف فيها. ولو انسقنا مع المؤلفة بهذه الطريقة فقد نجد من يقدم لنا عرضا مستمدا من تاريخ الجزائر يضع الاستعمار البريطاني بدلا من الفرنسي، وتاريخ دخول قوات الاحتلال أسبق بخمسين سنة ويجعل من ثورة التحرير في السبعينات وليس في الخمسينات ويدعي أن هذا خيال ولا يمكن أن نسمي هذا إلا جنونا غير مقبول. عندما قدم لنا شكسبير مسرحياته التاريخية ككليبواترا مثلا لم يغفل السياقات التاريخية التي عاشت فيها الشخصية. يمكن الاستئناس هنا بعرض يقدم حاليا في مصر بعنوان أمير الجنوب وهو يتقاطع كثيرا مع عرض تنهينان عن شخصية همام بن يوسف المسمى بشيخ العرب، لم يغفل كاتب العمل السياق التاريخي الذي ظهرت فيه الشخصية وعلاقاتها مع المماليك وحلم إقامة دولة بجغرافيا وحدود واضحة بعيدا عن الحكم العثماني مع الكثير من الفنتازيا في الجزئيات التي لا نجدها في الكتب التي أوردت سيرة الرجل.
علينا أن نفهم الفرق بين تاريخية الأحداث أي تسلسلها من القديم إلى الحديث ضمن العمل المسرحي نفسه بعيدا عن أي عامل خارجي وبين علاقة الأحداث التي يصورها العمل والأحداث المذكورة في بطون كتب التاريخ. في الأول يذهب الناقدان إلين أستون وجورج سافونا في كتابهما الهام «المسرح والعلامات»: «العالم الممثل ما لم يشر إلى خلاف ذلك يتبع القوانين الفيزيائية والمنطقية الخاصة بعالمه» (ص 67 من الترجمة العربية) والناقدان يتمثلان بآراء إيكو وكيلام في هذا الصدد، وهذا واضح ولا يحتاج إلى مزيد من التفصيل، فمقتل والد تنهينان كحدث جاء بعد توتر العلاقة بينه وبين الرومان ولجوئهما إلى الحرب. القانون الفيزيائي حسب الناقدين يعني أنّ الموت جاء نتيجة للقتال، والقانون المنطقي أن الموت جاء بعد الحياة، ولا يمكن أن نرى الرجل يعود الى الحياة بعد أن تم قتله. هذا واضح ضمن العمل ذاته. لكن في المنظور الآخر إذا قارنا الأحداث التاريخية في العرض مع الأحداث التاريخية التي يذكرها المؤرخون نجد النص وقع في «مأزق» (نضع هذا الكلام بين قوسين لأنّ الأمر يتخذ شكل النسبية بعيدا عن القطع رغم وجاهته). ويشدد باتريس بافيس مثلا على أنّ المؤلف المسرحي الذي يستلهم التاريخ يخضع لضرورة تقديم عرض صحيح من الناحية التاريخية وهذا ما يستدعي «دراسات كثيرة مسبقة وتقديم مستندات عن الحقبة التاريخية» (ص 270 من الطبعة العربية) الكاتبة بكلمة أخرى وضعت حقيقة درامية كما يسميها باتريس بافيس وغيره ولكنها لم تنتبه للحقيقة التاريخية.