يؤكد يوسف بودن الكاتب وأستاذ الهندسة المعمارية بجامعة باتنة، أنّ الوباء يثأر من الحداثة البرانيّة ويعيدنا، على وقع الموت، إلى آخر معاقل الجوانيّة، أي البيت، بل الكهف. الكاتب الذي يشير إلى مسرحة إعلاميّة للوباء تحاول رسم الشرط الإنسانيّ القادم، دون أن تُفرّط في موازين الهيمنة القائمة، يتوقّع جنوح الدوّل نحو الإكراه الذي يجود به الوباء لينقلنا بسرعة فائقة من دولة القانون إلى دولة الأمن. كما يتوقّع انتقال مركز الحضارة إلى الصين و يعتبر ذلك وساطة ملهمة في مسار البشرية وسندا قويا لها، غير أنّ هذه الأمنية لن تتحقّق إلا بعد حروب طاحنة تعبث بالخرائط السياسيّة والاجتماعيّة.
حاوره: سليم بوفنداسة
- كيف تقرأ ما يحدث، وهل سيكون وباء كورونا بداية لمرحلة جديدة في التاريخ؟
استطاعت العولمة أن تُحقّق شيئا ثمينا للأرض عندما فرضت على الثقافات تجربة الزمن العالمي باعتباره وعْيا يعدنا بتقليص المكان ونسف الحدود الفاصلة بين الكيانات. فرضت على الجميع الدخول في دينامية متسارعة ومكثفة ومتشابكة. لقد مكّننا طابعها الحدثي من طرح هذا السؤال الخطير والشامل والمتعلق بالمرحلة الجديدة للتاريخ: بأي معنى سيشكل حدث الوباء الكوني قطيعة زمنية في سيرورة الحياة الحديثة؟
إذا استبعدنا المسْرَحة (la théâtralisation)الإعلامية العالمية للوباء التي بدأت ترسم، منذ الآن، ملامح الشرط الإنساني القادم عبر إشارات ضمنية لا تبتعد مضامينها كثيرا عن موازين الهيمنة الحالية، لأنها بكل بساطة، لا تملك بدائل حقيقية عن وضعية باتت كارثية على مستقبل الأرض. ما سيحققه الحدث هو تعميق الشعور بالإفلاس والخواء على الرغم من تخمة الأرض بالأشياء، وبعد أن فقدت الحداثة هالتها النظرية وباتت طاقاتها الذكية تشتغل في مسارات متباينة تعيق أي إعادة نظر جذرية في بداهاتها النظرية. ربما تضافر الاستعجال العالمي مع تقديس الحاضر لتقويض أفق المستقبل الجماعي وإبراز الإنسان النرجسي كعنوان بطولي للسردية الآنية.كانت أدبيات ما بعد الحداثة التعبير الجلي عن سقوط الإجابة التي قدمها عقل الحضارة الغربية عندما أجاب عن سؤال التنوير، اختزل إيهاب حسن، بصفته المرجع الأول-قبل ليوتار- لما بعد الحداثة، تجليات السقوط فيقيم أهمها: اللاشكل، اللعب، المصادفة، الفوضى، التشتت. هذا ما أفصحت عنه العمارة التي أهدت للفلسفة مفهوم «ما بعد الحداثة» من خلال كتابات تشارلز جانكس(CharlesJenks) وروبر فونتوري (Robert Venturi) وجان جاكوبس (JaneJacobs)وغيرهم. ما هو مطلوب الآن يتجاوز مجرد ابتكار استعارات تبرر الوضع القائم وتؤبد بطريقة غير مباشرة الطابع الاستعماري للوجود. هل تملك العقلانيات الإنسانية، المركزية منها و المهمشة، الجرأة على إعادة النظر والتفاوض في منطلقات المشروع الحداثي لإحداث قطيعة ابستمولوجية مع نماذجها وتصوراتها عن الإنسان الجدير بالبقاء؟ أي تأجيل لهذا السؤال وتحييد لرهاناته بدعوى أنه ينطوي على مخاطر تسلّل الديني أو أي راسب ثقافي من خارج فضاء الإمبراطورية الغربية إلى متن الخطاب المكتفي بذاته، هو إعادة إنتاج «العالم-المنظومة» نفسها، وربما استمتعت بالمشي بعناد إلى النهاية الكارثية خاصة وأن أحد أهم مرتكزات حساسيتها الجمالية يتضمن القفز في الهاوية. على سبيل المثال، يُقدّم «يوفال نوح هراري» الآن كأيقونة خطابية، تبريرية في أساسها، حلولية في اندفاعها نحو النهاية. لقد تدربت الفلسفة المعاصرة على دورها التبريري، اختارت أخيرا اللسان اللعوب والولع بالاشتقاقات اللغوية للإيقاع بالقارئ، صارت «أمَةً» تأكل الإمبراطورية من ثدييها.
- هل تعتقد أن الوباء سيؤثر في أفكار المعماريين وأنّ مدينة المستقبل ستكون بتصميمات مختلفة؟
لعل أهم حدث في أرشيف النماذج التصميمية للمدينة كان انزياح النموذج من براديغم الكل (paradigme du tout) إلى براديغم الشظية (paradigme du fragment)، من النسيج إلى الحلْقة الواحدة، من البنية إلى الحدث، وهذا الانتقال كان صدى لما قد تكرس في الخطاب الحداثي وما بعد الحداثي كمرحلتين من مراحل المشروع التنويري الشامل. لقد استطاعت الحداثة أن تستولي على النظام الكنسي بعدما أفرغته من كل دلالاته وإيحاءاته الدينية، نصبت نفسها بديلا عن الكاهن الذي يأتي إليه الناس للاعتراف بخطاياهم، ما ذهب إليه كارل شميث صحيح في هذا الشأن، لم تكن الحداثة سوى مفاهيم لاهوتية معلمنة ، لعبت فيها المؤسسات البنيوية دور الكاهن باقتدار وأدارت مصائر البشر على وقع اقتصاد آخر لا يعترف إلا بالكفاءة والمحاصيل المادية ولو كانت على حساب البيئة الإنسانية والطبيعية. مسار الحداثة كان مسارا أحادي المعنى (monosémie) أدى إلى موت المدينة كما تقول فرنسواز شوي (Françoise choay). ماتت المدينة بمعنى (la cité) ولم يبق سوى الفضاء الحضري (l’urbain)، كما مات المجتمع ولم يبق سوى الجمهور، وكما ماتت السرديات الكبرى ولم يبق سوى اليومي، قدر الأفكار الكبيرة أنها تأتي ثائرة ثم تتحول مع الزمن إلى وباء. تبدو مدينة «لاس فيغاس» الآن المدينة النموذجية في خطاب ما بعد الحداثة، مزيج من أساليب الموضة، كشكول ساخر، وهمي، فضاء لعوب واستهلاكي.أعطى المهندس الهولندي رام كولهاس (rem koolhaas) اسما فقير الدلالة لهذه المدينة (la ville générique) وهي مدينة بلا ذاكرة، تنسى بسرعة، فضاؤها اللامكان (non-lieu) أي وأد الكثافة الأنثروبولجية للأمكنة وتشييد الحدث القابل للمحو، متحررة من عبودية المركز والهوية التي اعتبرها سترة المجانين. يُشبه المهندس «رام كولهاس» المفكر الإسرائيلي «يوفال نوح هراري»، كلاهما يمضيان بتعنت نحو الإيمان المفرط بالتقنية والشك في التاريخ باعتباره حاملا للمعنى. ماذا تبقى من مشروع المدينة المُنكسرة؟
يبدو أن الجانب الإيكولوجي أصبح يستأثر باهتمام المصممين،لإنجاز ما يسمى بالمدينة الذكية (La ville intelligente) باستدعاء الطبيعة (المدينة الخضراء) أو التقنية الرقمية وبروتوكولات الاستخدام الذي يأخذ بعين الاعتبار الجوانب البيئية والثقافية والاقتصادية في عملية البرمجة والإنجاز والاستعمال. ويكاد يقع هذا المنحى الإيكولوجي في فخ عبادة الطبيعة،على الأقل هذا ما يؤكده الفيلم السينمائي أفتار(avatar) الأكثر متابعة في العالم، ولا استبعد أن يكون المنحى عودة خفية للإيمان الإحيائي(animisme) القديم، كما أن إصراره على الإيمان اللامشروط بالتقنية يفرغ الحياة من محتواها الإنساني ويحوّل ممارساته تدريجيا إلى مجرد آلية حسابية وبيولوجية. ترى ماذا تعني حديقة الحيوانات في المدن، أو الحديث المتواتر عن الغابة الحضرية؟
ربما تُعبّر في جانبه المرئي عن النصر الذي حققه الإنسان على العالم الحيواني والنباتي بوساطة الترويض و الإنشاء حيث يريد، ولكن حضورهما من الناحية الفلسفية يكاد ينطبق على فكرة الحظيرة البشرية (le parc humain)لسلوترديك(Peter sloterdijk)التي توحي لنا بالعودة إلى الحيوانية التي لا تواجه إلا بأساليب التقنية الناجعة للتدجين (la domestication). لا شك أن أي محاولة عمرانية إنسانية في المستقبل ستبقى رهينة الأسس النظرية، لنقل رهينة الإيكولوجية المتأخرة في خطاب الحداثة.
- هل ستشهد، في رأيك، مرحلة ما بعد كورونا إعادة تعريف لمفهوم الدولة؟
لا يمكننا فهم الأدوار الجديدة للدولة في الوطن العربي إذا لم نستوعب الدلالات التاريخية للربيع العربي، باعتباره خروجا سلميا، ولكنه هدمٌ صامت للسردية الرسمية وكل ما تشير إليه ولو من بعيد. فقدت دولة ما بعد الاستعمار لسان قومها عندما أغلقت على إنسانها أبواب الحرية وحرمته من التمتع المادي والرمزي بأفق الاستقلال، لم يبق من مؤسساتها إلا الإكراه الفيبري في أسوأ معانيه، وستتضاعف حدته مع تآكل أدوارها بفعل التدفق الهائل للمعلومات، حينئذ لن يكون بإمكانها إدارة المجتمع إلا بدلالة الخطر المحتمل والمراقبة القاسية، مستقبلها يكمن في عمارة البانوبتيكون (panopticon)وعينها التي لا تنام.يأتي الوباء إلى أجهزة الإكراه كفرصة سانحة لفرض التدابير الاستعجالية وتصعيد المراقبة إلى إشعار آخر، يتم ذلك باسم الضرورة. ينقلنا بسرعة فائقة من دولة القانون إلى دولة الأمن المُدربة على تشغيل حالة الخوف الشامل. تتأكد سيادة الدولة، وفي المقابل تترسخ الحياة العارية لدى الأفراد، ويسكنُ الجميع في المحتشد. على المدى القريب، لا تقتصر هذه النهاية الحزينة على الدول المحلية فحسب وإنما تشمل أدوار الإمبراطورية الحالية في اشتباكها مع «فضاءات المعنى» المنافسة.
- كيف تقرأ «فشل» الإنسان المعاصر في مواجهة الوباء وانكفائه خلف «جدار الطاعون»، وهو الذي توهّم أنه بات يحاصر الموت بعلومه؟
لقد أجبرنا الوباءُ على تذكر الباب، ما يفصلُ الداخل عن الخارج. يكشف لنا البيت المفتوح عن رغبة الحداثة في انتزاع الإنسان من جُوّانيّته (son intériorité)، هذا ما جعل المهندس الفرنسي الكبير لوكوربوزييه (le Corbusier) ينفصل عن اسمه العائلي (Charles-Édouard Jeanneret) ويقتني من أرشيفه الذهني الروماني اسم (le Corbusier)، لم يكن التحرر من الأرض في مشاريعه (choix du pilotis) سوى تأكيدا على الحداثة كانفصال بلا رجعة عن الأصل. نفس الدافع يكون قد أغوى الشاعر السوري أدونيس لينفصل عن اسمه الأصلي علي أحمد سعيد. أما الوباء فيُعيدنا إلى البيت، إلى آخر معاقل الجوانية، يثأر من الحداثة البرّانية على وقع الموت، ينتزعُ من ذاتيتها ادعاءات سيد الطبيعة بلا منازع، يوغر صدرها هذا المتناهي في الصغر، حضوره اللامرئي يربك استعداداتها الرياضية وتوقعات ذكائها الاصطناعي. هل يعدنا الكهف الإجباري بأطراس جديدة عن التواضع والكون بوصفه آية، هل سيقطع مع النظام الاستعماري للمعرفة وبكل الظلال التي تسجن الإنسان في كهف الأوهام؟وأخيرا هل سيكون مقدمة لبلورةخارجية ما (Une externalité) نكون فيها نحن أحد مصادرها الحيوية؟
لا شك في أن انتقال مركز الحضارة إلى الشرق (الصين على وجه التحديد) يمثل وساطة ملهمة في مسار البشرية وسندا قويا لها، كونه مازال يحتفظ بتقنيات ذاته الروحية وآداب عميقة في فن العيش. لكن قبل انبثاق هذه الأمنية، سنشهد حروبا طاحنة تنعكس سلبا على خرائطنا السياسية والاجتماعية الداخلية، المنهكة مسبقا بالتبعية والموؤدة – وهي حية- بسردية انتهت صلاحيتها.