قراءة: إلهام بورابة
سأقول للعام القادم:
تعلّمت كثيرا
من زاد الصمت
..
من بلاغة النظر في عيون النار المتقدة.
…
سأقول للعام الجديد:
لي أجندة ثقيلة جدا
سفرة حالمة إلى أرض كتبتها
عواصم بالقلب تتأهّب لانتظاري.
سأقول له:
رسائل الله تنقذني …
أفرّ إلى وجهه
أقاوم برغبة أطول
ألا تكون نهاية العام نومة أخيرة
قبل توبة أخيرة.
…
صليحة نعيجة، من نص / حارسة الجمر
ابتداء من اسمها، تقوم الشاعرة صليحة نعيجة بإصلاح كلّ قطعة خشب تحملها في بسطة نار. أعتقد أنّ الليل والتأمّل الطويل في الظلام قد دفعها منذ كانت طفلة إلى إشعال النار كراهبة تريد انبعاث الإشراق من نفسها كي تتجلّى. فكان عليها إذن أن تحرس شعلتها ، أن تكون حارسة الجمر.
الجمر لغة هو النار المتقدة. واحدته جمرة. وللجمرة عديد المعاني منها ظلمة آخر الليل التي يستتر فيها الهلال. وهذه هي المقاربة التي اعتمدها في قراءتي.
والجمرة هي أيضا القبيلة والجماعة والإخوة لأم والجمرة هي الحصاة ومنها جمرات المناسك.
كل هذه المفردات محتواة في الديوان كوحدة بذاتها تستعيدها الشاعرة لتربط بعضها ببعض لتكمل صورة واضحة للجمر التي تمثّلت أمام عينيها فراحت تمعن التحديق فيها لتشاهد عن كثب استواء صدرها المكوي بحرارته.
بوسع علم النفس الذي لجأت إلى مفرداته الشاعرة إدهاشنا كما اللغة من خلال ملاحظاته ومهارته في وضع المعنى والمعنى المضاد ليملك آليات تفسير الشعر . في العادة هناك خطوات ست لكن ليس عليّ عدها إنما يمكن للخطوة الأخيرة أن تعدّل الخطوة الأولى ووفقها يكون الجمر يعني الخشب.
في التحليل النفسي للنبات، الخشب هو الأصل . فلنختبر في ديوان الشاعرة مستوى تأويل علم النفس فنستشف من مسافة معيّنة أقصى ما يمكن الارتقاء إليه / القمّة. فكم هذا مثير!
الشاعرة تحاور السماء فنقرأ لها:
رسائل الله تنقذني
أفر إلى وجهه
أفرّ إلى ورع.
هاهي إذن جمرتها، من جمرات المناسك .
صورة نهائية رسمتها الشاعرة لتبرز امتلاكها للفضيلة وليس للكمال.
وتقول أيضا: أعود إلى مدينتي الفاضلة
أروي لأزقتها ما رأيت بالحلم.
كأنّ هذا الديوان كله بعاطفة واحدة هي عاطفة الأمومة. لا تفسح المكان لغيرها لأن الحارس يلزم مكانه يسهر كأم على سلامة ما يحرسه.
وقد جاء في الإهداء: إلى أمي وهي تراقب مخدتي على مدار العمر لأجل الشعر.
فهذا الربط بين الأم والمدينة الفاضلة على وجه شبه حضاري فتقول في نص أمي خيلاء الأزمنة/
بوجه أمي تضاريس الأرض
ملامح قارة عجوز تمسك زمام الأمور
حفظا لحضارة عريقة.
فأي حضارة تقصدها الشاعرة ، وأي مدينة فاضلة؟ وكل المدن بمستوى واحد إذا سوّى بينهن الحب؟
أهي الأندلس؟ التي تحرّكها في أغوار نفسها منذ البداية فتقول في نصها الافتتاحي للديوان/ للقلب أندلس تهذي وتبوح؟
أم هي وريثة الأندلس ، مدينتها ، قسنطينة؟
فقسنطينة هي الحواري القديمة ، هي رحبة الصوف . هي « ديار عرب» التي كل لبنة فيها صُقلت في صقلية منذ عهد الأغالبة . الدولة العربية الأولى في افريقيا . فنسبت إليها ديار الطوب فقيل ديار عرب. أميرها الأخير أبو العباس عبد الله ترك القصور وسكن دار طوب. فصار يقال للتكريم « لو أجلستك على عرش لكان دار عرب».
رائحة قسنطينة هي رائحة ديار عرب، بسقوفها التي كانت من أغصان الدردار ، والدردار يرمز للاستقامة ويشتق من اسمه لفظ « دار» . فها هي الشاعرة تحفظ بمهارة سجّل التاريخ. حيث تقول:
أنا الطفلة العاشقة لصباحات رحبة الصوف
أنا أوّل المتعبين بحبها
بحب تلك الحواري والشعاب والجسور
أنا أوّل وآخر المتعبين.
إن المدينة موحشة بغير ديار عرب. إن حالها إذن يشبه خروج العرب من الأندلس.
تقول في نصها خوف الأجنبي/
تركت لك الديار ، المدينة، الرفاق والجيران
فلماذا دونا عن جميع سكان المدينة
يحلو لك السطو على ممتلكات القلب البسيطة؟
…
فوبوس،
لماذا يحلو لك المعارك بالمدن الجميلة؟
…
وفي نص آخر تقول:
أنا العربي قتلت هنا
يوم دفنت احلام العروبة
قتلت هنا
هنا اصطلي بنار
لا تنتهي بوجد كل الوافدين لاقتناص اللحظة
هنا زرياب
هنا ابن حزم
هنا ابن رشد
وابن عربي.
…
فلنحيّ شاعرة لم تكن في ماضي الأندلس فيقال عجزت أندلس أن تنجب شاعرة بعد « ولّادة» حتى أنجبتها « سيرتا» .
فصليحة نعيجة تبدو كأنها ولّادة بنت المستكفي بعباءة الترحيب بالشعراء. فمن الشاعر الذي تخاطبه صليحة ولا يرد ؟
كأن مهمة الشاعرة أن تقرأ شعرها بصوت مرتفع في شوارع المدينة خارج جدران البيوتات مبتكرة طريقتها هذه لتبيّن أن الساكن المثالي لهذه الديار ،في فترة طفولته الأولى قد امتلك وحده صورة العش على الشجرة وحافظ عليه مثل طائر . يملك جناحين ليحلّق بعيدا لكنه لا يفارق. هاهنا الطبيعة تحفّز الأمومة للحنان اللانهائي.
فتقول:
كان الزقاق باردا إلى أن أتيت
وكانت « القالمية» ( والدة الشاعرة) كأيّ مهرة جموح
تمنحني الحياة.
هاهنا الشاعرة تتراقص فوق اللهب/ فراش الأم / كفراشات الربيع
فتقول: لأمي متسّع من الوقت لتقول ما تعجز عنه القصيدة.
وأقول إن الشاعرة لا تتقدّم نحو مجمرتها بالعبارات الغرامية التي شكّلتها ، لتضطجع للشاعر الذي كان يبكي من مأزم بين شدّة الرغبة وعدم الجرأة.
الشاعر المسكين الذي هو بمثل البئر الذي تقول عنه:
البئر مسكين
لا يعي قانون الجاذبية فيه/ إليه/ عنه
لا بئر في المدينة يسمع أنّاتهم بعد الآن.
هذا الشاعر الذي من وراء حصون عالية ينتهي السؤال عنه بانطفاء الجمر.
لكنّ طرطقة الجمر أكثر حدّة من السؤال .
تقول الشاعرة:
كان بودي أن أقيم لهم وليمة فاخرة
ودعوة أنيقة
ثمة سر أنوي البوح به
ولا تقوى الكمنجات على عزفه.
فيا لها من شاعرة تضاهي بجمرها أزهار بنات النار، تلك الأزهار التي تتعب نفسها لتعطي حامض الكبريت الواصل للتيار الكهربائي.
فلا بد للوصل بين الشاعرة وشاعرها من عذاب يشبه عذاب مازوش، فداخل نفسها تتمنى أن تصلح كلّ شيء بكلمة واحدة توحي بالدفء وهي كلمة جمر.بلونه النحاسي في الشتاء يثير الغبطة بشكله في البرودة الشديدة يحفّز الحب الدائم.
الشاعرة بذكائها ومهارتها كأنها حفيدة لآل الأحمر تتألّق بلغة عظيمة عظمة ملكهم .تملأها الموهبة لكنها تتعلّم وترى وتسمع وتمارس وتهيّئ تجاربها لإنتاج فكر شعري حيث القلب والعقل معا يسهمان في خلق القصيدة.
إنها امرأة عظيمة العاطفة تحث نفسها على الشعور بالألم مثل مازوش لتظلّ حريصة على اتّقاد نارها كعادة العربي الأصيل ليستقبل ضالّي الطريق .إنّها الفانوس إذن والمصباح وابتسامة تعطي الطاقة للمشاعر الخامدة لتتألّق من جديد. فشكرا لك أيتها الحارسة، أهديتنا حرارة العناق فاشتدّ عزمنا على تحمّل العتاب.