آسيا جبــــار تعود إلى جبــل شنــوة
غابت آسيا جبار يوم الجمعة الفارط عن ثمانية وسبعين عاما وفقدت الجزائر برحيلها آخر "مؤسسي" الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية.
طفلة شرشال التي قالت:»أكتب ضدّ الموت، أكتب ضدّ النسيان. أكتب على أمل أن أترك أثراً ما، ظلاً، نقشاً في الرمل المتحرّك، في الرماد الذي يطير وفي الصحراء التي تصعد» عادت إلى أرضها بعد رحلة مجد لا تنقصه إلا جائزة نوبل.في هذا العدد من كراس الثقافة تمنح النصر الكلمة لكتاب قرأوها واشتغلوا على منجزها، وتترجم نص خطاب دخولها إلى الأكاديمية الفرنسية، كما تكشف عن آخر أعمال الكاتبة وتسلط على علميها السينمائيين.
تعتبر أسيا جبار الكاتبة الجزائرية التي وظّفت أكبر قدر من الشخصيات النسائية، وذلك ابتداءً من روايتها الأولى «العطش» سنة 1957. كتبت هذه الرواية في ظرف شهر وهي لا تزال طالبة في المدرسة العليا للأساتذة في «سافر» الفرنسية. وقد عرفت هذه الرواية عند صدورها رواجا كبيرا وتوّجت بجائزة أدبية. الشخصية الرئيسية «نادية»، عشرون سنة، تقضي صيفا في محطة سياحية، أغلب زوارها من المعمرين. فتاة شقراء، ميسورة الحال، أمها فرنسية وأبوها جزائري عربي. من البداية، مَوْقعَت أسيا جبار نفسها في صف النساء المتحديات، المقاومات، الرافضات لوضعهن، الطامحات إلى عالم جديد، يعتقهن من قيد التقاليد الأسرية واستبداد الذكورة، باسم قداسة ثقافة الأجداد التليدة. في السنة الموالية، أي في 1958، تنشر أسيا جبار رواية ثانية «المتلهفون»، وتضع شخصيتها الرئيسية في السياق نفسه، بتغيير الفضاء. تركز على العمران الداخلي لعائلة عربية مسلمة محافظة. «دليلة»، الشخصية المحورية، تنتفض ضد الانغلاق وتتحدى محيطها، وبالأخص والدة زوجها. تشترك الروايتان في توظيف شخصيات نسائية شابة، تتقاسمها عواطف متناقضة ولكنها متجاذبة: ثقافة الجماعة التقليدية التي تصقل هوية مُتجذّرة في التاريخ والثقافة الوافدة عبر الفرنسي الغازي، المختلفة، الحاملة لرياح التغيير وإن كانت قاسية ومدمرة. صراع مرير بالنسبة للمرأة الشابة المتعلمة التي تختلط بثقافة الغير، هذه الثقافة التي حرّرت المرأة من التقاليد البالية، ولكنها تدرك اختلافها مع هذا «الأجنبي»، ثقافة ودينا وتاريخا.
تَعمّق هذا الشرخ في روايتها الثالثة «أطفال العالم الجديد»، حيث تتحدّث عن رجال ونساء يشتركون في الكفاح من أجل تحرير الجزائر. تتشكل الرواية من خمس فصول تحمل عناوين أسماء نسائية. تنبني القصة على تداخل حيوات ومصائر شخصيات عديدة. إنها أصوات متعددة، تتعايش وتتصارع. ابتعدت الكاتبة هنا عن القوالب الجاهزة، خاصة منها السياسية. أعطت أهمية كبرى لأصوات النساء، نساء متفرجات على اشتعال نار الثورة، يردن المشاركة ولكن أغلب الرجال يرفضن إقحامها في الحرب الدائرة، لا يرونها قادرة على ذلك، بل يرون أن أفضل مكانها هو البيت والشؤون المنزلية وتربية الأولاد.
تروي أسيا جبار قصصا عن المرأة الجزائرية العامة، ولا تنساق خلف الحالات الفردية النادرة لنساء شاركن جنبا إلى جنب مع الرجل في الكفاح المسلح ضد الاستعمار. هن قليلات مقارنة إلى ما كان ممكنا، لو سمح الآباء والأزواج والإخوة للمرأة أن تحقق اندفاعها وحماسها في أرض الواقع الملتهب.
لم تهمل أسيا جبار ذاتها وحياتها الخاصة كأول فتاة عربية في قريتها تعتب باب المدرسة الكولونيالية وسط أبناء وبنات المعمرين. السرّ في ذلك أن أباها كان يشتغل مدرسا في تلك المدرسة. فسمح لابنته البكر بالتعلّم ودرس الخروج بلا «حايك» حتى وهي فتاة مراهقة نمت أنوثتها التي تعوّد حراس شرف القبيلة إخفاءها داخل أسوار مسيّجة. ومع ذلك لم يسمح لها بقيادة الدراجة، حتى وهي صغيرة لا تزال في الابتدائي وفي ساحة المدرسة، بسبب بروز فخذيها، تقليدا لبنات المعمرين. هناك شعرت الطفلة الصغيرة بالاختلاف وقيد الانتماء. في الثانوية، كانت فتاة جزائرية تأتي إلى المؤسسة متوشحة بحايك أبيض إلى غاية الساحة، وغالبا ما تأتي برفقة حارس من العائلة ولو كان طفلا صغيرا. ولكن أسيا جبار وجدت أبا متفهما وأما حضرية مدينية تقدّس العلم والمعرفة، مما كسّر جميع الحواجز، حتى وجدت نفسها طالبة في المدرسة العليا للأساتذة بفرنسا وهي لم تخرج بعد من المراهقة.
أسيا جبار مؤرّخة أيضا، فكانت أوّل من حفر في أرشيف الإستعمار الفرنسي لتحدّثنا عن محرقة «أولاد رياح» التي قام بها الجيش الفرنسي في 1845 في منطقة الونشريس، حيث أبيدَت قبيلة بأكملها. لم تكن هذه الجريمة النكراء، البشعة، معروفة على المستوى العام. وحدهم المؤرخون يعرفون تفاصيلها المأساوية. استعانت بالأرشيف وروت الحكاية بتفاصيل الروائية القادرة في روايتها «الحب، الفانتازيا» التي صدرت سنة 1985.
كما عادت إلى الفترة الإسلامية الأولى في «بعيدا عن المدينة المنوّرة،1992» لتزور التاريخ الإسلامي، وبالأخص أولئك النساء المقاومات، بشخصياتهن القوية وعلمهن الرصين. إنه جواب على الاتهامات المتسرعة بالاغتراب والانسلاخ عن الجذور العربية الإسلامية. خاصة بعد إنجاز فيلمها الرائع حول «نوبة نساء جبل شنوة» حيث عادت إلى الثقافة الأمازيغية العتيقة، عبر الأغاني والأناشيد والمدائح المصاحبة للأفراح والأتراح والتي لا تزال نساء منطقة «شنوة» تتغنى بها في المناسبات. فجاء الفيلم ليحي ثقافة شفهية تكاد تندثر أمام زحف تكنولوجيا الاتصال وشلال الهوائيات الغربية بمغرياتها الخارقة.
لم تطفئ أسيا جبار ظمأها للحديث عن المرأة والمقاومة. فنشرت رواية-سيرة «امرأة بلا قبر، 2002»، حول زليخة يمينة عوداي، المجاهدة الشهيدة التي قاومت الاستعمار إلى جانب زوجها، متحدية بطش الجيش الفرنسي واستبداد التقاليد، لترفع السلاح وتختلط بالمجاهدين. حاصرها الجيش الفرنسي في الجبال بأعالى شرشال، قادها إلى السجن. عذّبت وقتلت ودفنت في مكان مجهول، لا يعرف أحد مكانه إلى اليوم. أخفاها العسكريون خجلا من عار جريمتهم البشعة ضد امرأة شجاعة، ربما ذكرتهم ببطلتهم المقدسة جان دارك، فسارعوا إلى إخفاء جثتها صونا للعار والفضيحة. كيف يعذبون امرأة ويقتلونها، هم الذين نصبوا أنفسهم جيشا عاتيا يقهر الرجال الصناديد مثلهم. فكيف ينحط بهم فعلهم الشنيع إلى هذا المستوى، مثلما فعلوا مع المجاهدة إيغل لاحريز وغيرها.
وفي روايتها الأخيرة «لا مكان في دار أبي»، عادت أسيا جبار إلى سيرتها الذاتية، لتحدثنا بالتفاصيل الممتعة عن مسيرتها الدراسية، وتلك الحياة المتفردة وسط المجتمع الأوربي وكيف قاومت التطرفين، تطرف الفرنسيين حتى مع واحدة تريد أن تدخل عالمهم وثقافتهم، وتطرف المجتمع التقليدي الذي لا يرى بعين الاستحسان تعلم المرأة وخروجها إلى فضاء الرجال. ولكن أسيا جبار قاومت وناضلت إلى أن أصبح اسمها متداولا كل سنة في قائمة المرشحين لنيل جائزة نوبل للآداب، كما انتخبت عضوا في الأكاديمية الفرنسية ضمن الخالدين في معبد العلم والمعرفة. فلنخلدها نحن بدراسة أعمالها وتحليلها وترجمتها (أنوّه هنا بالترجمة التي قام بها محمد يحياتن لروايتها الأخيرة) والرواج لها كي يتسنى للجزائريين قراءة رواياتها والوقوف على مواقفها النيّرة.
هل كان علينا الانتظار إلى غاية سنة 2014، لنشهد أول ترجمة عربية لأحد آخر أعمال آسيا جبار، ويتعلق الأمر برواية «لا مكان في بيت أبي» بمبادرة من الكاتب والمترجم الراحل محمد يحياتن، ولكن بعد ماذا؟، بعد نحو ستة عقود حافلة بالتأليف والإبداع والانجازات التاريخية والمعرفية، أثمرت قصصا وشعرا ومسرحا ودراسات تاريخية، وعشرات الأعمال الروائية ابتداء من «العطش» عام 1957، وانتهاء برواية «لا مكان في بيت أبي» عام 2007، وهي الأعمال التي تُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة عبر العالم.
لعل آسيا جبار أكثر الكُتاب الجزائريين تتويجا بمختلف الجوائز الأدبية العالمية ومن مختلف دول العالم: فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، الولايات المتحدة الأمريكية... وغيرها من الدول، وهي أكثرهم ترشيحا لجائزة نوبل للآداب في العشر سنوات الأخيرة، كما أنها المرأة المغاربية والعربية الأولى التي دخلت الأكاديمية الفرنسية الشهيرة، وهي الإفريقية الثانية بعد الشاعر السنغالي ليوبول سيدار سنغور التي تلتحق بهذه الأكاديمية العلمية المرموقة.
جميع هذه الانجازات العظيمة التي بوأتها قامة أدبية سامقة نالت اعتراف العالم، أكاد أجزم أن لا أحد من الكُتاب الجزائريين قديما وحديثا استطاع أن يحققها، آسيا جبار من طينة الكِبار، هؤلاء الذين لا يتكلمون كثيرا، لا يبحثون عن الأضواء ولا يسعون إليها، مواقفها وانجازاتها الأدبية هي وحدها الكفيلة بالتحدث عنها، هي الناطقة الرسمية باسم صمتها ورؤيتها الاستشرافية لمستقبل الأشياء.
هل حال أسلوب ولغة الكِتابة لدى آسيا جبار العصي على الإدراك أحيانا، دون الاقتراب من ترجمة أعمالها؟ أم هي رغبة خاصة من الكاتبة نفسها، أملتها اعتبارات معيّنة كما أورد بعض الناشرين الجزائريين، هل حال سوء الفهم لدى بعضنا في اعتراف العالم وفرنسا بالتحديد، من خلال انتخابها عضوا في الأكاديمية الفرنسية، إلى توجّس غير مبرر، أفرز مواقف مشككة في هوية الكاتبة والتزامها.
هل كان سيتغير موقفهم هؤلاء، لو قرأوا نص كلمتها سنة 2006، الذي ألقته أمام نخبة من كِبار الأكاديميين والكُتاب الفرنسيين في حفل انتخابها، يصغون إليها بإمعان وهي تسرد بلغتها الراقية امتدادات الجزائر الضاربة في تاريخ الحضارات، عن محاولات الاستعمار طمس الشخصية الجزائرية في بعدها العربي والأمازيغي، عن «اللغة العربية التي واكبت انتشار اللغة اللاتينية واليونانية في الغرب إلى نهاية القرون الوسطى»، عن إسهامات ابن بطوطة، ابن رشد، الغزالي، ابن العربي وابن خلدون في التراث العالمي، كما أوردت ذكرهم لفظا عربيا سليما. وعن الحضارة العربية الإسلامية التي أنتجت علوما ومعارفا، قالت: «بعد سنة711 وحتى سقوط غرناطة عام 1492، أنتجت الأندلس روائع الكُتب، الرحالة ابن بطوطة المولود في طنجة، ابن رشد الذي استند إلى فلسفة أرسطو في ردّه على الغزالي، وأخيرا أعظم صوفي في تاريخ الشرق: ابن العربي، انتقل من بجاية الى تونس، وسرعان ما عاد إلى قرطبة ثم فاس. كانت اللغة العربية أيضا، لغة العلوم والمعرفة (الطب، والفلك، والرياضيات، الخ)... وهكذا، حدث شيء جديد في لغة الآخر (البدو العرب أدخلوا البربر للإسلام ليفتحوا معا أسبانيا) سيكتب ويبدع بها أجدادي الأفارقة، آخرهم وجه من وجوه الحداثة، إنه ابن خلدون، المولود في تونس، والذي كتب تاريخ البربر في الجزائر، في منتصف القرن الرابع عشر، وافته المنية عام 1406 في الشرق، تماما مثل ابن عربي منذ ما يقرب من قرنين من الزمان. بالنسبة لهذين العبقريين: الصوفي الأندلسي ومؤسس علم الاجتماع، حوّلتهما لغة الكتابة إلى مواطنين من العالم، فضّلا المنفى عن أراضيهما، بدلا المنفى عن كتاباتهما».
ماتت آسيا جبار، معها كنا نترقب كل سنة انجازا أدبيا عالميا، لعل اسمها يرتفع عاليا ذات إعلان لجائزة نوبل للآداب، قد يعيد ترتيب موقعنا في خريطة الأمم المتحضرة، مع غيابها سنتوقف قليلا عن الحلم، لأن لا أحد من كتابنا الآن يمكنه، على الأقل في اللحظة الراهنة للأشياء، أن يملأ فراغا حقيقيا في أن نكون أو لا نكون.
يأتي خبر رحيل الكاتبة آسيا جبار ليعطي لغيابها الذي اختارته عمدا، واختفائها من المشهد في السنوات الأخيرة، تتويجه النهائي باعتباره المحطة الأخيرة لمسيرة إبداعية وحياتية كانت مقترنة بمرارة ما، وخيبة زادت من حدتها انكسارات أحلام جيلها من رواد الأدب الجزائري، أو ممن جاءوا بعدهم، ليروا بلدا مستقلا ومزدهرا وديمقراطيا، هي التي كانت تحلم للأطفال بعالم جديد، وللنوارس ببحر صافي الزرقة، وللجزائر ببياض أبهى، ولنساء جبل شنوة بأناشيد. أمازيغية تحمل شجن البحث عن فسحة ضوء في سماء المتوسط المجروحة بالانتظار لما لا يأتي.
ترحل آسيا جبار في صمت، هي التي انزوت في عزلة أخيرة، بعد مرضها، وقبله، تتأمل ما يفعل التاريخ الذي أحبته بشهوده وشهدائه وضحاياه، وبأولئك الحالمين بيوتوبيات تبقى وعدا، وتستعيد ملامح تلك الفتاة التي سكنتها بهواجس الحرية والتمرد والرغبة في الإنتصار للهوامش التي لا صوت لها، وللإرث الشجي لذاكرة حملتها النساء في عزلاتهن المبصومة بالشجن والبحة المجروحة لأصواتهن الطالعة من ليل طويل من القهر والسيطرة والخذلان.
ترحل إذن، كما رحلت مرارا هي المشاءة السادرة في مدن الآخرين، المسكونة بروح الأمكنة وعبقها وروائحها، ترحل هي المفتونة بحفريات الشغف الباحث في طبقات الأحداث، وركام الخسارات عن معنى قد يضيء ليلها القلق، ويجيب عن أسئلتها المنصورة في شقوق الأيديولوجيا وتصدعات المآلات البائسة لوطن خان أحلامه، إذ ها هي تختار المنفى بعد تعريب الجامعة في الستينات وترحل كما رحل جمال الدين بن شيخ، ومحمد أركون، ومحمد ديب، وغيرهم، لتواصل رحلتها في الشهادة على التفاصيل التي تبقى حاضرة.
بمثابرة عجيبة أيضاً بقيت مخلصة لعوالمها، ولبنية واقعية وكلاسيكية في الكتابة، وللحفر في التاريخ ومكره بروح المؤرخة الصبورة، والمناضلة النسوية المدركة لضرورة إعادة قراءة تاريخنا لإسماع أصوات من لا صوت لهم، خاصة النساء اللواتي رمين للصمت والنسيان، ولم يصغ لهن سواء في الماضي أو في الحاضر، من هنا كانت روايتها «بعيدا عن المدينة» غوصا في سير النساء اللواتي صنعن تاريخ الإسلام وساهمن فيه.
تقاسمتها نداءات كثيرة، فلم تكن كاتبة فقط، بل كان شغفها بالسينما وبالأفلام الوثائقية يضاهي ما منحته للكتابة، وأيضاً حبها لفن الفوتوغرافيا، ورغبتها في القبض على اللحظة بكامل امتلائها، وإنقاذها من الزوال والتلاشي، من خلال ألبومات الصور التي وضعت لها مقدمات شفافة، أو تلك الأفلام التي خلدت من خلالها لتراث شفهي يكاد يختفي ويضيع لولا لفتتها الآسرة.
كل هذا هو آسيا جبار، وهي الذهاب الحميمي في سنواتها الأخيرة إلى الذاتي والداخلي من خلال التركيز على السيرة ومنعطفاتها، والعودة بشكل من الأشكال إلى بيت الطفولة والوله، مستعيدة حكاية سفرها المستمر.
برحيل آسيا جبار نفقد صوتا كان يسهر علينا في ليل المنافي، ويحرس الثقافة الجزائرية من الإنقراض والتلاشي، ويُرسخ لتقاليد النقد والمساءلة والاجتهاد. هي رحلة أخرى فقط لتتحدي بالبياض اللانهائي وتطيري في الأفق المفتوح لغناء سيبقى خالدا، نامي في أبديتك البيضاء ولترعاك النوارس والأزرق اللازوردي لمدينة شرشال.
كثيرون فرحوا بوفاة أديبة الجزائر الأولى. كثيرون غنّوا ورقصوا اِحتفاءً بنهاية الكابوس، واِنزياح الهرم الذي كان يحجب عليهم الرّؤية. لقد ماتت آسيا جبار لتبعث الرّوح في ورق ديناصورات الأدب أحاديّة الخليّة، ماتت لتكشف عوراتنا، فلا أرشيف مصوّر ولا كتابي يُثبت اِنتماء الكاتبة إلى هذه الرّقعة من الجغرافيا، لا شيء يؤكد بأنها واحدة منّا، سوى الاسم ومكان المولد، لا علامة بارزة تربطها بمخيلتنا سوى شخصياتها الرّوائية، الهاربة من القهر والنّسيان. كيف نجحوا في محو آسيا جبّار من الذّاكرة الجمعية؟ كان يمكن أن نتجاهلها لو لم تدخل مجمع الخالدين، ولو لم يردّ اَسمها في ترشيحات نوبل، تمامًا مثلما نسينا عائشة لمسين وليلى صبّار وآخريات، فأن تخرج من بلدك، وتحاول أن تؤسس لتجربة أدبية بعيدًا عن أرض المنشأ، فهذا لا يعني بالضرورة أنك ستعود إليها يوما نجمًا «مستغانميًا»، فالنسيان هي الطّريق الأسهل لقتل «الكُتّاب الجزائريين».
هل نحتاج اليوم لإعادة التّذكير بفضل آسيا جبار على الأدب المغاربي إجمالا، والجزائري خصوصا، كلا! فسيرتها متوافرة على كلّ مواقع البحث، على الأنترنيت، وبكلّ اللّغات، ولكن ما لا تحكيه سيرتها هي أسباب قطيعتها مع بلدها الأم، أكثر من ثلاثين سنة! لماذا خرجت فاطمة إيملحاين (الاسم الحقيقي للكاتبة) من الجزائر، مقهورة وذليلة وخائبة. خرجت في فترة تقول عنها الكُتب المدرسية بأنها كانت من أفضل فترات النموّ الثّقافي في البلد، في فترة تلت مباشرة ما كان يسمى «الثورة الثقافيّة».
هل قامت الثّورة لتطرد آسيا جبّار من بلدها؟ تلك الثّورة التي حجزت المفكر اللّبق مصطفى الأشرف في غرفة الصّمت، ودفعت رابح بلعمري إلى السّخرية منها، تلك الثّورة الثّقافية التي لم يستفد منها سوى «إتحاد الكُتّاب الجزائريين»، فبينما كانت آسيار جبّار تحزم حقيبتها، كان كتّاب هذا الإتحاد يتنافسون فيما بينهم للظفر بالسّفريات إلى الخارج، ونيل المقاعد بالقرب من لجان الحزب الواحد. ككلّ كاتب يُغادر مضطرًا الجزائر، لم تجد آسيا من يقف إلى جانبها، لقد أدارت ظهرها للإنقلابيين على الأدب، واِتجهت شمالا، كما فعل محمد ديب، وواصلت الكتابة وأنصفها القارئ الغربي، وعادت إلى بلدها، خصوصا في السّنوات العشر الماضية، كاسم فقط، ليس كجسد، فهي لم تنل تكريمًا في بلدها، في فندق خمس نجوم، كما نالته أحلام مستغانمي، ولم يزرها مسؤول رسمي، كما زار الطّاهر وطار، بل ظلّت فقط اِسما ونصًا تتداوله الألسن القارئة لا غير، وفي لحظة تخيّلنا فيها نهاية القطيعة، مع صدور أول ترجمة قانونية لروايتها الأخيرة، خاب الظّن سريعا، فلا الكِتاب رُوّج له كما ينبغي، ولا القارئ المُشبّع بكليشيهات الثمانينيات تحمّس له، كما لو أن يدًا خفية تسللت لتعتّم على اِسم آسيار جبار في أول ظهور لها باللّسان العربي، وكلّ من تحدث عنها، في الأيام الماضية، خصوصا في المشرق العربي، تأسف لعدم صدور ترجمة لها بالعربية! هكذا إذا غًُيّبت آسيا جبار مرّة أخرى، لا هي فرنسية كاملة الفرنسية، ولا جزائرية بجزائرية كاملة، هناك دائما حلقة ضائعة في علاقتها ببلدها وبلغتها، وماذا يمكن أن نفعل لنردّ لها الاعتبار؟ هي ليست بحاجة إلى بيان صحافي أو تصريح مقتضب من هيئات إعلامية، سيكون العرفان الأهم أن تقوم مؤسسة عمومية بما قامت به المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار، التي اشترت حقوق روايات رشيد بوجدرة وترجمتها إلى العربية، ونحن نقترب من تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015، أليس من الأفضل تخصيص شطر صغير من ميزانية الحدث لشراء حقوق روايات آسيار جبار وترجمتها إلى العربية؟ إننا في الانتظار، آسيا جبار في وصاية الجيل الجديد من القراء، وهم أكيد سيردون لها الاعتبار.
قبل رحيل آسيا جبار ببضعة أيام، قرأت الفصول الأولى من روايتها «اختفاء اللغة الفرنسية» منشورات ألبان ميشال سنة2003، وهي رواية عن مغترب يدعى «بركان» يقرر العودة إلى مسقط رأسه بالقصبة، بعد 20 عاما من الغياب «المنفى» فيعيد اكتشاف ذاته، وهو يسير عبر الأزقة العريقة، وقصبة «بيبي لوموكو»، (إحالة للفيلم الفرنسي الشهير الذي أخرجه جولين دوفيفيي، سنة 1937، ومثل فيه الدور الرئيسي الممثل جان غابان، ودارت أحداثه في حي القصبة). ترك «بركان» حياة رغدة ورائه في باريس، وعاد إلى أرض أجداده لإعادة ربط الصلة مع اللغة التي يتكلم بها أهل القصبة، والتي هي مزيج من لهجات متوسطية مختلفة، رغم غلبة العربية عليها. ذكرتني هذه الرواية بنص سردي سابق نشرته بعنوان «تلك الأصوات التي تحاصرني»، والذي جاء على شكل «سيرة ذاتية»، حيث استعادت من خلاله ذكريات الطفولة، وبداياتها مع الكتابة الروائية، منذ روايتها الأولى «العطش»، وصولا إلى رواية «الحب والفنتازيا»، وهي الجزء الأول من رباعيتها التي سُميت لاحقا برباعية الجزائر. فبين رواية «اختفاء اللغة الفرنسية» والنص السردي «تلك الأصوات التي تحاصرني»، تشكل السيرة الذاتية جزءا أساسيا من المتن الروائي، الذي يأخذ المنحى نفسه لروائية تلجأ للغة الفرنسية للتعبير عن مكانة المرأة المسلمة في مجتمع منغلق.
قرأت بعض التصريحات منذ يومين، لمثقفين جزائريين «أداروا ظهرهم لآسيا جبار»، لأنها «أدارت ظهرها لنا» على حد تعبيرهم. وهذه مغالطة كبرى لأناس لم يقرؤوا لها حرفا واحدا حسب اعتقادي. إن فاطمة الزهراء ايملحاين (وهو الاسم الحقيقي لآسيا جبار)، عرفت مسارا نضاليا وثوريا، حيث استجابت لنداء جبهة التحرير الوطني للطلبة، وتركت مقاعد الدراسة، وشاركت في المجهود الثوري. عاشت شديدة التأثير لأن أعمالها لم تترجم إلى اللغة العربية كاملة (باستثناء ثلاثيتها الأولى، التي ترجمها إخواننا المشارقة، ورواية «لا مكان في بيت والدي» التي ترجمها المرحوم محمد يحياتن، وصدرت العام الماضي عن منشورات «سيديا»). وقد عبرت آسيا جبار عن ذلك الألم في حديث مع الروائي واسيني الأعرج.
شخصيا، كنت دائما أسأل عن الأسباب التي تقف وراء توقفها عن الكتابة الروائية بين1967 و1985، واهتديت للإجابة بعد أن قرأت كلمة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي التي نشرتها الصحف بعد رحيل الكاتبة بيومين، حيث اعتبر أن آسيا جبار انتقلت من الكتابة الروائية النفسية الاستنباطية التي ميزت أعمالها الأولى منذ رواية «العطش»، إلى الكتابة التاريخية لما نشرت رواية «الحب الفنتازيا»، عام 1985، وتطلب ذلك بحثا معمقا في تاريخ الجزائر خلال القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي شهد احتلال الجزائر من قِبل الفرنسيين، وبذلك اكتسبت وعيا بتاريخ البلاد وأهميته في فهم أسباب الإخفاق الذي أدى إلى وضعية استعمارية دامت طويلا. ففي «الحب..الفنتازيا»، عادت آسيا جبار لظروف احتلال «الإيالة» (المحروسة) وسقوطها في يد الجنرال «دوبورمون»، وكيف وقع ذلك على وعي فتاة جزائرية فرانكفونية بعد 150 عاما من وقوع الحادثة، تحاول أن تبني ذاتها، من خلال اكتساب «وعي» بالتاريخ. وكأن آسيا جبار تخبرنا أن تعلم اللغة الفرنسية، لا يعني نسيان جرائم «سانت أرنو»، و»بليسييه»، اللذين وردا ذكرهما في الرواية. وقد سارت هذه الرواية على وقع التضاد بين اللحظة الذاتية (الحميمية) واللحظة التاريخية. ومنذ هذه الرواية، لجأت آسيا جبار إلى التاريخي لفهم الآني، مثلما فعلت في روايتها «بعيدا عن المدينة». لقد قرأت تاريخ الإسلام (عبر الطبري بالأخص) لفهم دور المرأة في مسار التاريخ. لقد أعادت بفضل هذه الرواية للمرأة المسلمة مكانتها المسروقة على حد تعبيرها.
ما يعجبني في آسيا جبار، هو هذا الإهتمام بالفضاء اللغوي المتعدد. وعليه أعتقد أن أعمالها الروائية تعتبر بمثابة رد صريح على حماقات دعاة الأحادية الذين انتصرت عليهم، وهزمتهم بعد أن احتضنا رواياتها، وأدمنا على قراءتها بنهم وإعجاب كبيرين.
كشفت الكاتبة و الباحثة أمال شعواطي، رئيسة حلقة أصدقاء الروائية آسيا جبار ، بأن هذه الأخيرة كانت قد أعلنت أمام مرتادي النادي عن مشروع روايتها الجديدة، التي خصصتها للقديس أوغسطين.
و تذكرت صاحبة «جزائريات قصر أمبواز» كيف أن الراحلة أسيا جبار، قد أعلنت خلال لقاء خصت به ناديهم بباريس، بأن مشروعها الأدبي الجديد الذي سيلي مؤلفها الأخير «بوابة الذكريات» سيكون رواية حول القديس أوغسطين، لما أولته من اهتمام كبير لفلسفة وفكر هذا القديس.
و بدا اهتمام أسيا جبار جليا بهذا القديس ذو الأصول الأمازيغية، المولود بتاغست (سوق اهراس)، في الكثير من أعمالها و مداخلاتها و محاضراتها، حيث رددت اسمه في عديد المناسبات الأدبية و الثقافية المهمة، إلى جانب رواد الفلسفة و الأدب و الرواية و بشكل خاص شخصيات من ذاكرة مسقط رأسها الجزائر و هي التي أبدعت دائما في المزج بين الذاكرة و التاريخ، حيث قالت عام 1969 أن» البلد دون ذاكرة كامرأة بلا مرآة جميلة، لكنها تجهل ذلك، و رجل يبحث في الظلام، لا يصدّق بأنه ضرير».
فاهتمام أسيا جبار بأوغسطين، برز في عديد من أعمالها النثرية، و نصوصها الخطابية و حتى الشعرية، و الذي بينته الباحثة و الناقدة بجامعة إيلينوي الأمريكية «زيمرا كلاريس» بإحدى دراساتها التي خصصتها لهذه الأديبة و عضو الأكاديمية الفرنسية، حيث تحدثت عن تأثير شخصية أوغسطين في أعمال أسيا جبار التي أوردت أيضا اسمه في الأبيات الأولى من قصيدتها الموسومة «المنفي» و التي قالت فيها «أعرف شيشرون باللاتنية مثل معرفتي أوغسطين البربري الذي قرأت بلغته سوقراط و حتى خطابات إيزوقراط.
و تكرّر ذكر القديس الجزائري المولد في عديد الدراسات النقدية الغربية التي ناقشت مختلف النصوص الأدبية لأسيا جبار التي كانت تسترجع ذاكرة هذه الشخصية في عديد المقامات الفكرية و الثقافية المهمة، مثلما فعلت يوم انتخابها كأول عضو عربي بالأكاديمية الفرنسية عام 2006، أين قدمت نبذة عن تاريخ أوغسطين، قائلة بأنه في منتصف القرن الرابع ولد في الشرق الجزائري أكبر إفريقي من ذلك الزمن القديم، و لا شك أنه كذلك في كل أدبنا: أوغسطين...و تحدثت عن بداياته كقسيس في هيبون و كفاحه الطويل ضد الدوناتيين من البربر الذين اعتنقوا المسيحية لكنهم بقوا متصلبين في انشقاقهم، و الذي ظن أنه انتصر عليهم في قيصرية (شرشال) المدينة التي قضت بها الأديبة جزء من طفولتها، ليدرك بعدها بأنه كان مخطئا و يموت عام 431 بهيبون التي حاصرها الوندال القادمين من اسبانيا و الذين حطموا كل شيء فيها تقريبا في مدة سنة.و أكدت الباحثة و النفسانية آمال شعواطي بأن مشروع رواية أوغسطين كان يعني الكثير بالنسبة للأديبة، لكنها تجهل إن كانت قد جسدته قبل وفاتها أم لا، لانقطاع أخبار الروائية منذ فترة طويلة.
مريم/ب
تتعالى أصوات النساء في المغارة، في جبل شنوه النساء يعزفن نوبة الحرية والإنعتاق، بينما تواصل ليلي رحلة البحث عن أخيها الذي افتقدته في حرب التحرير، تجالس النسوة باحثة عن الخيط المؤدي لاقتفاء أثر المفقود، تتجول في أزرقة القرية غير مكثرة بعيون الرجال الذين وخز شعورهم برؤية هذه المرأة تقتحم مجالهم، ليلي تعود إلى موطن الطفولة وهاجس الحرب التحريرية مازال يسكنها، تحاول استذكار ما حدث من خلال الحديث مع العجائز الحاملات لكل الذكريات بكل ما تحمل من مآسي والقليل من الأفراح في مجتمع رجالي بدرجة الامتياز، خزان الذاكرة الجماعية الذي يختزل كل سنوات العذاب و القهر الذي عاشته هذه النسوة.
تنظر آسيا جبار في هذا الفيلم إلى المرأة الجزائرية من الداخل، تعيد لها الكلمة ، لقد كانت هذه الكاتبة المتعددة المواهب، التي نهلت من كل الفنون، كتابة، مسرح و سينما، أن تقدم في هذا الفيلم من خلال الغوص في مكنونات سيدات جبل شنوه، من خلال المهندسة ليلى التي تعود إلى مسقط رأسها ومن خلال النسوة تعيد إحياء ذكريات الماضي، الفيلم الذي أنتج سنة 1977، يعد أول تجربة للكاتبة في عالم الفن السابع.
قبل أن تقف خلف الكاميرا، لم تكتب أسيا جبار لمدة طويلة وكأن بالمكالمات قد علقت و لم تعد تؤدي المعنى، وفقدت القوة على وصف وضعية النساء الجزائريات، في ظل حرمانهم من الكلمة، فاختارت أن تكون لسانهم، من خلال ليلي المهندسة الجزائرية لتغوص في الماضي وتنخرط في أوساط العجائز وحتى الشابات.
تعود ليلى رفقة زوجها الذي يجلس على كرسي متحرك اثر حادث حصان، تعود إلى حيها الأول ومنطقتها المسماة «شرشال»، حيث يقف جبل شنوه محاذيا البحر حيث سواحل مدينة تيبازة، فيلم أخرج اللغة من محيطها الضيق ، كما تقول آسيا جبار:» عملي في السينما هو مظهر من الإبداع مع اللغة العربية، اللغة الحية، اللغة الشاسعة، بفضل الصور أخرجت اللغة من فضائها القديم المغلق، لقائي بلغة طفولتي التي أنجزت بها الفيلم «.
و تنتصر آسيا جبار في هذا الفيلم للنساء، بعد أن وضعت الرجل في وضعية الصامت غير المتحرك في صورة رجل ليلي، وهي صورة غير معتادة سواء في السينما الجزائرية أو حتى في الواقع المعاش، كسرت طابو الرجل و حصرت مجاله في كرسي متحرك، بينما تركت المجال واسعا ليلي من أجل التحرك في أزقة القرية لقد استعادت حريتها ، وكيانها الذي أختزله الرجل في أقل مساحة ممكنة، نسق الفيلم ينطلق من نهاية الأحداث التي تكون نقطة البداية بالعودة إلى الوراء، في إشارة ذكية للكاتبة، على أن التاريخ هو المنطلق الذي نفسر به الحاضر و أساسه نبي المستقبل، بواسطة ستة مشاهد تعيد رسم الحياة في هذه القرية ، المنغلقة على نفسها و المكبلة بتقاليد وضع أسسها الرجل، جبار تقدم في هذه التجربة السينمائية، مزيجا من الصمت و الكلمة، من الذاكرة و الإبداع، الحاضر و الماضي في تعايش.
لم تتوقف التجربة السينمائية لآسيا جبار عند « نوبة سيدات جبل شنوة» وإنما كانت لها تجربة أخرى مع فيلم وثائقي» الزردة أو الأغاني المنسية « التي حاولت أن تقدم صورة عن وحشية الاستعمار في بلدان المغرب العربي الفيلم الذي أنتج سنة 1982، اشتركت في كتابة السيناريو مع زوجها مالك علولة ، و اعتمدت فيه آسيا جبار بالدرجة الأولى على الأرشيف مع مقاطع شعرية بإلقاء مسرحي، وهذا يحيلنا على تجربة آسيا جبار في الكتابة المسرحية حيث سبق لها ان كتبت مسرحية» الفجر الدامي « التي أخرجها الفقيد مصطفى كاتب.
وتقول الكاتبة في بداية الفيلم « الزردة الحفلة المشرفة على الموت ن نمتلكه، ويدعونا إدراكه ، بالرغم من الصورة التي قدموها عنا ، ورغم نظراتهم القاتلة، حاولنا نزع اللثام على وضع احتقروه»، كما ان المرأة كانت حاضرة في المشهد الأول و الأخير من الفيلم وهي الخزان الذي منه تنطلق كل شرارات النصر :» الذاكرة امرأة، ملثمة و عينها على الطريقة وحدها تركز حاضرنا «.
ومن تلك الذاكرة تنطلق روح جديدة من الماضي لتعيد الروح على شعوب المغرب العربي، ورغم مرور السنين غير أن جبار ظلت محتفظة بحرج المستعمر الذي ظل يدمي قلبها إلى أن كف عن الخفقان.
ع - قد
«أنا لست رمزا. نشاطي الوحيد يتمثل في الكتابة. كل واحد من كتبي يمثل خطوة في سبيل فهم الهوية المغاربية ومحاولة للدخول في عالم الحداثة. على غرار كل الكتّاب فأنا أستعمل ثقافتي وأجمع بين الكثير من أنواع المخيال». آسيا جبار
رسم بيكاسو لوحة تحمل اسم «غرنيكا» وهو اسم لقرية اسبانية تم تدميرها خلال الحرب الأهلية الاسبانية. غيبت القرية من الجغرافيا لكنها دخلت التاريخ وذاك ما فعلته آسيا جبار بجبل شنوة وأماكن أخرى ذكرتها في كتاباتها. هذه الأماكن التي يتحول كل ما يحدث فيها إلى أسطورة، وكل ما يحدث فيها يحدث بشكل مغاير تماما لما هو عليه في أماكن أخرى من العالم. حتى الرقص الذي هو في أماكن أخرى للتسلية أو للجنون الإبداعي والفني، هنا بالجزائر يتحول رقص النساء إلى أداة للتحرر الفيزيائي وانفتاح الجسد على ذاته في تحد لا يحده حد.
تكمن قدرة الكاتبة آسيا جبار في التعامل مع الكثير من الفنون في نفس الوقت، السينما، الرسم، الموسيقى، الفوتوغرافيا والفسيفساء. تحدثت عن بيكاسو في «الحب والفنتازيا» وخصصت للفنان دولاكروا حيزا كبيرا بل كتابا يحمل عنوان إحدى لوحاته «نساء الجزائر في مخدعهن». إنها تنقل المحلي إلى العالمية، تقول روح المرأة الجزائرية بلغة المرأة العارفة التي تهتدي إلى اللغة بأدواتها وإلى الفلسفة المعاصرة بأبوابها. الجندر أو النسوية هي آلة العصر التي تدافع عن دور المرأة في الحياة المعاصرة بكافة أبعادها وخاصة السياسية والاجتماعية منها. كتبت بنفس عامر نصا طويلا يمشي متوازيا مع لوحة الفنان لكنه تكملة لما لم يقله دولاكروا أو لكل ما قاله في صمت. هي تعرف جيدا حديث النساء، لهوهن في المخادع، حزنهن الدفين، سجنهن في الهودج، سلطة الآباء.
كل ما يحدث في المجتمع الجزائري ممثلا في عالم النساء يصبح مخبرا للثورة على السلطة البائدة بأنواعها بدءا من السلطة الأبوية وعجرفة الفكر والتاريخ المزيف.
تكتب آسيا جبار عن نفسها في نهم بيوغرافي وتقول تفاصيل حياتها اليومية، تحكي ما رأت. هل بذلك تفضح نفسها وتعري هويتها؟ إنها لا تقوم بذلك سوى بهاجس نقل ما هو محدود إلى العالم المفتوح وما هو محلي إلى فسحة ما هو كوني، عالمي ، إنساني. إنها بكيمياء اللغة وسحر المفردات تحوّل تجربتها الخاصة إلى تجربة إنسانية، والتي بدورها تصبح مرآة عاكسة لوجه كل من يقف أمامها. هوية امرأة في قرية جزائرية نائية هي في النهاية هوية كل نساء العالم، صوت من لا صوت لهن. تتكفل الكاتبة بإبداع صورة ذات موضوع تقوله بالشكل الذي ترتضيه وباللغة التي تتقنها جيدا. إنها تتحدث إلى الآخر بلغة الأخريات المغيبات، المسبيات، المسلوبات الهوية.
كسرت آسيا جبار طابوهات مجتمع يرى أن صوت المرأة عورة. منذ الوهلة الأولى فاجأته حين قالت: أنا. والأنا سيف بتار لا يهدأ ولا يستريح. سيف ديموكليس الذي يهدد الرقاب في كل لحظة. كذلك لغة آسيا جبار. لغة الجبابرة.
تبدأ كاتبتنا من الخصوصيات الصغيرة، من التفاصيل التي تعرفها المرأة وتحفظها جيدا لكنها جزء من شخصيتها، من هويتها، ولهذا تخفيها عن الآخر (الآخر دوما هو الجحيم بلغة سارتر) لكن جبار تقولها بكل طلاقة وصراحة وتفتح. تقول المرأة في الخدر، المرأة المنزوية في البيت، التي تمر في صمت والتي لا يذكرها الرجل خارج المنزل وإذا ما ذكرها فبقوله «المرا حاشاكم». ترسل الكاتبة عطرا نفاثا لا يسكته رجل ولا يقف في وجهه مستبد، دكتاتور، مجتمع رجالي.
يتجلى الحضور المحتشم للمرأة في التفاصيل التي لا تعرفها المجتمعات الأوروبية وخاصة الاستعمارية منها. في فيلم «نوبة نساء جبل شنوة» تحكي الراوية المجهولة عن طفولتها: «كنت طفلة عربية صغيرة تذهب إلى المدرسة للمرة الأولى في صباح خريفي، يدها بيد أبيها». هذه هي الصورة المحلية التي نقلتها آسيا جبار في خطابها يوم دخولها إلى الأكاديمية الفرنسية. الذهاب للمدرسة معجزة آنذاك وهذه المعجزة تأخذ كافة معانيها داخل صرح الأكاديمية.
كان والدها مدرسا ينتمي إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة والتحقت هي بالمدرسة في وقت كان الجزائريون يمنعون من قراءة لغة أجدادهم بقوة القانون أو يتوقفون عند شهادة الأهلية المخصصة لهم. لذا فإن لغة كاتبتنا في الحقيقة هي لغة مأخوذة من المستعمِر، أي من ثقافة أخرى لا تقاسم الجزائريين نفس القيم.
كل شيء يحدث بسرعة كبيرة. ما يجري على خارطة الجزائر البعيدة في التاريخ وفي اللغة تسوقه الكاتبة وتضعه أمام الآخرين صورة عالمية يتعلمون منها معاناة الآخر من خلال التفاصيل اليومية. وهنا تكمن براعة آسيا جبار التي لم تتحدث يوما لغة الآخر حتى ولو أنها استعارت منه الأبجدية.
أثرت فيها دراستها الأكاديمية، وبقراءتها لأعمال الكتاب الفرنسيين الكبار أرادت أن تكتب بلغة متعالية، لغة المستعمِر لكنها في نفس الوقت نهلت من اللغات الثلاثة التي كانت تتوالد في محيطها الاجتماعي وهي العربية الفصحى والدارجة والأمازيغية. تركيبة معقدة زادت من براعة الكاتبة في امتلاك أدوات ضالعة في القدم والتاريخ للتعبير عن حاجة آنية أو نقاش حول دور اللغة وانحناءاتها حين الضرورة.
كلما ذكر اسم آسيا جبار لا أستطيع أبدا أن أتخيلها مديرة لمركز اللغة الفرنسية والدراسات الفرنكوفونية بجامعة لويزيانا أو أستاذة كرسي للأدب بجامعة نيويورك بل أراها دوما طفلة صغيرة تمسك بيد أبيها وهي في طريقها إلى المدرسة. لم تذهب إلى مكان آخر غير الجزائر، هي التي تقول حجم الألم وشكل الفرح ونكهة الثورة على الأوضاع. لقد تعلم الآخرون الكثير عن الجزائر بفضل هذه المرأة كما تعلموا عن أدب العالم العربي كثيرا بفضل سلمى خضراء الجيوسي من جامعة كولومبيا والتي كانت لي معها محادثات بالجزائر العاصمة منذ كذا سنة. نساء من طينة الخالدات.
لقد وصلت ثقافتها المحلية إلى أمريكا بوجه يطرح الإشكالية بصراحة وقد عبّر عن ذلك الكاتب الأمريكي «وليام غاس» حين حصول آسيا جبار على جائزة «نوستاد» بأوكلاهوما وهي الجائزة التي تمنح لكل كاتب ذي مسيرة شجاعة قائلا: «لقد أماطت اللثام عن هذه الثقافة المحجوبة وتحدثت عنها من دون شطط، من دون أن تجرح عفة شخصياتها ولكن بقلم لا يرحم ولا يدع جانبا أي شيء من هذه الجريمة البشعة».
كل كتاباتها تنطلق من المحلي، من تاريخ الجزائر القديم منه والحديث مرورا بكل مراحله، من التراث القديم ثم العربي ثم الاستعماري ثم ما بعد الاستعماري وكل ما مكن من تشكيل القوة عبر التاريخ والمأساة عبر الزمن وخاصة منها مأساة المرأة. تقول كاتبتنا أن هناك أقاليم عديدة في الذاكرة الجزائرية ولهذا منحت للمرأة لسانا كي تقول به ما خفي من أنساق هذه الذاكرة، ما يؤرقها وما يورق فيها من بهجة وألم.
هي مثقفة تملك ذاتها وتحتج على عمليات السب والسلب والاستلاب التي تتعرض لها المرأة عبر التاريخ. المرأة في عرفها ليست شيئا ماديا كالمتاع ولذا ثارت على السلطة الأبوية وفضلت الثورة والمنفى الاختياري ثم القسري في مرحلة لاحقة. فرت بجلدها كي تبقي على صوت المرأة عاليا، كي يبقى الصوت الذي يولد في دواوير ومداشر الجزائر حيا في شكل صدى يتردد في جامعات أمريكا ويقول أن الأنا تصرخ هناك في مكان ما من الدنيا فاسمعوها. وكأني بها تؤثث لذلك الإصغاء بجمع شتات الذاكرة المتمثلة في الأغاني الشعبية وتقديمها للآخرين من أجل فهم أحسن وأعمق لظروف الثورة الجزائرية ومعاناة شعب تحت السياط.
تشبثت آسيا جبار باختياراتها منذ الوهلة الأولى ولذا قررت في سن العشرين أن تدرّس بالجامعة تاريخ المغرب العربي وتعود بحكاياتها إلى أبوليوس صاحب الحمار الذهبي. في «الحب والفنتازيا» تقوم بإحياء الموتى ومنحهم لسانا يتحدثون به لقول التاريخ كما رأوه وعايشوه منذ الحملة الفرنسية على الجزائر ثم تتدخل هي كي تعطي رأيها وتقدم موقفها في سرد بيوغرافي يخلق عالمين متوازيين. لكل عالم متحدث يقول ما رآه في قريته، في كل القرى التي هي الجزائر. حين يكتب الآخرون عن الأبطال وسيرتهم وكذا مسيرة الرجال في المقاومة، تكتب آسيا جبار عن بطلاتها في الحياة اليومية، ليس بالجهد والنضال بل بالجروح التي تبقى عالقة بالروح وبالجسد، بالذاكرة التي هي رمز المقاومة حين تحفظ وتحافظ على ما رأت. كل إنسان بما رأى.
مشكلة الآخر في اللغة التي تبدأ من سياسات المستعمِر في محاولة تجريد الجزائريين من لغتهم ومن شخصيتهم ومن هويتهم. تتحدث كاتبتنا بالأنا، الأنا المقاومة التي تقف على عتبة تدمير اليوتوبيا التي يبنيها المستعمِر، الأنا التي على عتبات الصراع من أجل الهوية ولكن الصراع الذي أداته فتاكة، صارمة، قاطعة وهي الكتابة. هذا النقاش الذي هو اليوم لب خطاب الدراسات ما بعد الكولونيالية وجزء من الأدوات التي نفخ فيها إدوارد سعيد من روحه قبل أن يمضي.
«بياض الجزائر» المخصص لبعض الكتّاب الذين اغتالتهم حرب الإرهاب وما أكملوا منجزاتهم الأدبية، هي كتابة محلية متعلقة بالجزائر وأشيائها الجهنمية التي تقول مرحلة الألم والوحدة والأنانيات لكنها كتابة عارفة لا علاقة لها بالآنية والحدث السياسي والأدب الاستعجالي. لقد ركبت آسيا جبار هذه التيمة كي تحاول أن تتحدث عن الانتماء لثقافة عالمية عابرة للقارات والهويات تماما كما الصواريخ، ترفض التقسيم التقليدي للمجتمعات وتوزيع الأدوار فيها تبعا لحدود سوسيولوجية وسياسية بالية. الصراع هو صراع عالمي، صراع المرأة في كل مكان، ثورة تتماهى معها كل الكائنات الضعيفة التي تتوق لشيء من الضوء. لشيء من الكرامة.
تكمن المحلية في شكل حياة المرأة وتمظهراتها ودورها في الأنساق العامة للحياة. «بعيدا عن المدينة» هي مساحة تطلع منها النساء وفي الوقت الذي يؤرخ الرجال للأحداث تختفي المرأة خلف الحجب، تتوارى في صمتها. تطلع آسيا جبار من قامتها وتمنحها لسانا (سواء المرأة التي أسلمت أو التي لم تسلم)، المرأة كما تتصورها، المخلوق الذي يجب أن يقول شيئا ما دام رأى كل شيء. يجب على المرأة أن تتخلى عن دور الشاهد الصامت. لم تترك المرأة وراءها آثارا مكتوبة ولذا تحاول هي أن تعيد تشكيل تلك الأصوات الضائعة في الهباء، الصرخات المهمشة والمخنوقة.
الحالة تتمثل في صورتين محليتين، صورة الرجل الذي يكتب التاريخ وصورة المرآة التي تحكي القصص. هل هناك تقابل؟ لا ترضى كاتبتنا سوى بمعادلة العدالة وإعادة توزيع الأدوار التي يكون للمرأة فيها نصيب. وبقدر ما قالت التفاصيل التي تصنع الشخصية والهوية بقدر ما قالت أن ذلك يجب ألا يتحول إلى قناع يختفي وراءه أعداء التغيير وعبدة الدكتاتورية. هكذا فرضت آسيا جبار نفسها ونفحة كتابتها التي تتغذى من روافد عدة، من التاريخ الذي تجيد التعامل معه كتخصص أكاديمي، من الحكي الذي أخذته من الذاكرة والمحيط، من نظرتها الشاعرية للحياة والمتحررة من القيود بشتى أنواعها.
هنا تكمن العظمة. واصلت الكاتبة تشبثها بالخصوصية في خطابها أمام الأكاديمية الفرنسية، فهي لم تخجل، بل بالعكس، حين حدثتهم عن اللغة العربية والعرب، عن ابن خلدون مخترع علم الاجتماع المعاصر، عن ابن عربي كبير المتصوفة، عن ابن رشد مترجم فكر أرسطو، عن ابن بطوطة الرحالة العالم، عن ابن سينا وكتاب الشفاء وعن السكان البربر الذين شاركوا في فتح العالم للإسلام.
هي مثل هؤلاء تماما، وتلك قدرتها على مواجهة الآخر، بثوبها المحلي وبلغة أجدادها. هي مثل ابن خلدون وابن عربي اللذين اختارا المنفى عن الأرض ولكن ليس عن اللغة.
هل تذكرون حكاية محمد ديب؟ حكاية مالك حداد؟ هذا الأخير الذي كتب: يقول الناس «مّا» في الوقت الذي أنادي «ما مير»، وتلك حكاية أخرى.