الكتابة الشعرية ليست بمعزل عن مجريات الحياة
في هذا الحوار، تتحدث الشاعرة سميرة بوركبة، عن ديوانها الشعري الجديد «ليزانكسيا» الذي صدر أواخر سبتمبر 2015 عن دار ميم للنشر، كما تتحدث عن خلفيات اختيارها اسم دواء معروف في عالم أدوية الأمراض النفسية كعنوان لديوانها. وهي تؤكد أن الصدفة لعبت دورا مهما في هذا الأمر، وأن العنوان وبعد أن كان عنوانا لنص شعري كتبته عن «فيروز» التي ترى أن صوتها شفاء لجروح الروح. وانطلاقا من هذه الزاوية عنونت الشاعرة النص الذي أهدته للمطربة فيروز بـــ»ليزانكسيا»، وهكذا أصبح عنوان القصيدة عنوانا للديوان. وهي تقول من جهة، أن الربط بين تخصصها النفسي (أخصائية نفسانية عيادية) والعنوان جاء في الأخير بعد أن اكتمل الديوان وأصبح جاهزا للطبع، وقد أعجبتها فكرة أن يكون العنوان له علاقة بمهنتها التي تمارسها منذ 2004. وفي سياق حوارها وحديثها عن الشعر دائما، تعتقد الشاعرة وبكثير من الإيمان، أن الشعر قد يخرجنا من نفق الأحزان وينقذنا من حالات اليأس سواءً بالقراءة أو بالكتابة.جدير بالذكر أن ديوان «لزانكسيا»، فاز بجائزة أحسن مخطوط شعري، (مناصفة) في المهرجان الثقافي الوطني للشعر النسوي في طبعته السادسة أكتوبر 2013. وكانت الشاعرة قد أصدرت قبل هذا ديوانها الأول «وهج الخاطر» في إطار تظاهرة الجزائر عاصمة للثقافة العربية العام 2007. وهي حاليا تشتغل على تأليف كتاب تتناول فيه الجوانب النفسية في القصيدة، حيث تعالج فيه «الجانب النفسي في الكتابة/القصيدة». تتناول فيه عدة تجارب شعرية نسائية مغاربية، من الجزائر وتونس والمغرب.
حاورتها/نوّارة لحـــرش
سوداوية توشح قصائد ديوانك الجديد «ليزانكسيا»، وفي ذات الوقت هناك غنائية شفافة تقطر منسابة في كل القصائد، ما سر هذه الثنائية: السوداوية والغنائية؟
سميرة بوركبة: الشِعر كما الحياة، يجمع المتناقضات كلها، فكما نكون أحيانا حزانى، نكون أيضا سعداء. والكِتابة الشعرية ليست بمعزل عن مجريات الحياة وتفاعلنا معها، فهي وليـدة لحظات نجسدها كتابـة عبر تفاصيل القصيدة التي تحمل عبء أحزاننا أحيانا ودفء أفراحنا أحيانا أخرى، كما أنها تحمل عنا عبء الألم حينا وتنقدنا من لحظات اليأس أحيانا أخرى. هكذا ولدت قصائدي من رحم الأحزان ومن رحم الفرح أيضا.
أما سر ذلك فتجيب عنه اللوحـة التي اخترتها لتوشح وجه الديوان لتعبر هي الأخرى عن ثنائية الحزن والفرح عبر وجه «عائشـة»، وهي لوحة للفنان التشكيلي «حسن زويني». «عائشة» تُبين لنا جانبين، الجانب السعيد إذا ركزنا على الجانب الأيمن من وجهها، وجانب حزين إذا ركزنا على الجانب الأيمن. فبداخل كل منا جزء سعيد وآخر حزين، تماما كــ»عائشة». ولأن «ليزانكسيا» عنوان ديواني الجديد يخاطب الجزأين فينا، اخترت أن يوشحه وجه «عائشة» من جهة، ولغة الشعر من جهة أخرى كي تكون عنوانا للفرح والحبّ وبلسما لجروح الروح.
من خلال العنوان، يذهب القارىء لقراءته وهو يعتقد أنه سيجد شعرا نفسيا يتحدث عن حالات نفسية بطريقة شعرية، لكن حين يتوغل في الديوان، يجد «ليزانكيسيا» عنوان قصيدة فقط، فيما بقية النصوص والقصائد، متنوعة المواضيع ولا تتناول فقط جانبا نفسيا كما يوحي العنوان. ما رأيك؟
سميرة بوركبة: فيما يخص عنوان الديوان «ليزانكسيا»، فقد ذكرت في مقدمة الكِتاب أنه لم يكن إلا عنوانا لقصيدة من بين القصائد، ولم أكن أفكر حين كتبتها أنه سيكون عنوانا للديوان. إلا أن الفكرة تبلورت في ذهني حين أصبح الديوان جاهزا واخترت «ليزانكسيا» كعنوان لارتباط هذا العنوان بمهنتي بدرجة أولى، حيث أن الكتابة الشعرية في حد ذاتها هي عملية إسقاط لما هو مُخزن في اللاشعور من حالات وأحداث، وهي من جهة أخرى تفريغ نفسي لما تكتنزه نفس الإنسان من هموم وأحزان. والحالة الشعرية هي كل ذلك. فلا ننتظر أنه بمجرد أن يكون العنوان اسم دواء فالحديث سينصب عن حالات نفسية مرضية، فالعمل هنا ليس عِلميا وإنما هو عمل أدبي إبداعي باستطاعتنا تأويله أدبيا. فقط هناك ارتباط ضمنـي عميق بين الحالة النفسية التي نعيشها لحظة الكتابة وهي وليدة عوامل وتفاعلات مختلفة مع الواقع المُعاش والواقع الذي تم كبته إلى حين ولادته من جديد على شكل قصيدة.
عنوان الديوان هو اسم لدواء خاص بحالات نفسية قلقة ومتوترة، لماذا هذا العنوان؟. هل ترين أن اسم الدواء، الذي اخترته عنوانا للديوان، يحمل ما يكفي من دلالات فنية وجماليات شعرية؟
سميرة بوركبة: هي فرصة أخرى لأوضح سبب اختياري للعنوان رغم أنه يبدو غريبا في الوهلة الأولى، خاصة عند الذين لا يعرفون أنواع الأدوية النفسية. في الحقيقة هناك ثلاث جوانب في واجهة الديوان: «العنوان، اللوحة، وصفة الديوان/ وهو الشعر». منذ أيام اتصلت بي طالبة تحضر رسالة دكتوراه بعد حصولها على الديوان قائلة: «في باديء الأمر كنت أظن -ليزانكسيا- فلسفة معينة». كما أعجبني أيضا تعليق بعض الأساتذة في جلسة التوقيع في ملتقى الشعر والفن التشكيلي بمدينة سكيكدة، حيث علق أحدهم قائلا: «ثلاثية متناقضة وجميلة»، مشيرا إلى اسم الدواء ووجه امرأة باسمة حزينة يجمعهما الشعر. وبالتالي سأترك الرأي للقراء بخصوص العنوان. إلا أني وأنا أتمعن في العنوان من الناحية الجمالية بعيدا عن أي ربط علمي فإني أجده لا يختلف من حيث الإيقاع عن بعض الأسماء مثل «فنطازيا»، «تراجيديا» الخ..
«ليزانكسيا» اسم مألوف لدي ولدى العارفين للطب النفسي، أما الكلمة فهي تستثير القارئ ولكنه لن يتوه كثيرا لأني تعمدت إعطاء إشارة في مقدمة الكتاب شرحت فيها المعنى وارتباطه بالديوان.. فـــ»ليزانكسيا» بالنسبة لي هي دواء الروح بدون مواد كيميائية، بل إنها دواء النفس عن طريق اللغة الشعرية، أوليس الشعر بلسم للروح؟.
هل مهنتك كنفسانية مختصة في الطب النفسي العيادي، لها الأثر المباشر في اختيارك لهذا العنوان؟
سميرة بوركبة: والله الصدفة لعبت دورا مهما في هذا الأمر، نصوص الديوان لها تواريخ مختلفة فمنها القديمة التي أردت أن ترى النور ومنها الجديدة وهي نصوص شعرية متنوعة تحكي الوطن والحب والجرح العربي والموت والمدن، الخ...
أما العنوان وبعد أن كان عنوانا لنص شعري كتبته عن «فيروز» التي أرى شخصيا أن صوتها شفاء لجروح الروح، وحين أستمع لصوتها أحس أني فراشة تتجول بين الأزاهير في حدائق الفرح والأمل. لذا شبهت فيروز بالدواء الشافي فصوتها علاج لكل الأحزان في نظري، فعنونت النص الذي أهديته للمطربة فيروز بـــ»ليزانكسيا»، حيث أقول في مقطع منه: «ستخبرك الأصداف عن صوتها/ وتر من عود زرياب/ ليس صوتا ما سمعت/ بل رقرقة الماء في صمت المحيطات».
وهكذا أصبح عنوان القصيدة عنوانا للديوان لاعتقادي أن الشعر قد يخرجنا من نفق الأحزان وينقذنا من حالات اليأس سواءً بالقراءة أو بالكتابة. والربط بين تخصصي النفسي والعنوان جاء في الأخير بعد أن اكتمل الديوان وأصبح جاهزا للطبع، وقد أعجبتني فكرة أن يكون العنوان له علاقة بمهنتي التي أمارسها منذ 11 سنة، وجاء بعد ديواني الأول الذي اخترت له عنوان «وهج الخاطر». فالشعر يولد من روح الشاعر والحالة النفسية الماضية والراهنة لها تأثير مباشر على كتاباتنا.
المجموعة تتوفر على قصائد ونصوص في الحب، في الوطن، فلسطين، وعواصم عالمية، وأمكنة، بعيدا عن قائمة الأدوية النفسية المتداولة، لكن هل يمكن حقا أن يكون الشعر كعلاج وكدواء؟
سميرة بوركبة: في الحقيقة «ليزانكسيا» ليس عملا علميا بكل ما يحمله قاموس علم النفس من أمراض نفسية وعلاجها بالمفهوم الباثولوجي أو المرضي، فأنا حين أتحدث مثلا عن الإدمان علميا فإني سأشير إلى ما يمكن أن يتركه هذا السلوك المرضي أو هذه المادة الكيميائية من آثار التبعية النفسية والجسدية إذا ما تم تناولها لفترة طويلة، هذا بمفهوم الطب النفسي. ولكن «ليزانكسيا الشعرية» هي عمل أدبي إبداعي ولا يمكنني أن أتعمد كتابة نصوص شعرية تعالج حالات نفسية مرضية، فالشعر بالنسبة لي حالة لا أختار لحظة كتابته. اللحظة تباغتني فأترجم الحالة شعرا.
في الحقيقة أنا أتحدث عن سحر الكلمات وما يمكن أن تفعله في وجداننا، فهي التي تبكينا وتفرحنا وهي التي تحزننا وتسعدنا، وهي التي تنقذنا من لحظات اليأس وتبعث فينا الأمل. هي التي تحرر مدنًا عشقناها وترسم حدود وطن محتل. إنها تحمل مفعول الدواء المهدئ الذي يريح النفس ويعالج همومها.. وذاك ما قصدته، فالشعر بالنسبة لي علاج الروح وإنه رسالة حقيقية من الإنسان إلى الإنسان ومرآة للنفس التي تعشق الجمال والسلام وتعبر بالكلمة عن آلام الإنسان وأحزانه.
كنفسانية وشاعرة، كيف تشرحين أو كيف توضحين الحالة الشعرية الممتزجة بالحالة النفسية، كيف ترين هذه الثنائية من الجانب الفني والنفسي؟
سميرة بوركبة: نحن نحيا تفاصيل الحياة بكل تضاريسها إن شئتِ القول وبمختلف أحداثها. نتفاعل مع محيطنا فنؤثر ونتأثر، فحينما أكتب فإني أنفس عما هو مخزن في ذاكرتي من أحداث علقت بالذاكرة سواءً كانت قريبة أو بعيدة المدى، وأحيانا يترجم كاتب حالة إحباط بالكتابة الشعرية كي يتخلص من أعراض الكآبة، وفي كثير من الأحيان يعبر الشاعر كتابةً عن واقع ما، وعن حالة انفعالية، سواء كانت حزينة أو سعيدة، فالشعر بالمعنى النفسي هو حالة نفسية انفعالية تنتاب المبدع فيترجمها حروفا متناسقة معبرة تنفس عن حالة قلق، ويتم التخلص منها بالكتابة الشعرية، هي بالضبط «ليزانكسيا الشعرية»، فالحالة الشعرية لا يمكن فصلها عن الحالة النفسية فهناك تفاعل وترابط لا يمكن تجاهله. فالمصور مثلا يلتقط الصورة الفوتوغرافية، فيعطينا صورة طبق الأصل عن المنظر، ولكن المنظر الذي تبدعه ريشة الفنان تعطينا منظرا واقعيا مضاف له ذات الفنان. تماما مثل الشاعر الذي يصف لنا شروق الشمس أو غروبها فإنه يدخل عليها عناصر أخرى من انفعالات كالحنين أو الفرحة أو الحزن الخ..
الشعر عموما لا يخلو من حالات نفسية و وجدانية، ومع هذا كيف ترين توظيف الجانب النفسي في الكتابة/ في القصيدة وفي التجارب الشعرية الجزائرية؟
سميرة بوركبة: ليست النفس الإنسانية شيئا ملموسا، إنها مجموعة من النشاطات الداخلية التي لا يدركها إلا صاحبها بواسطة الحدس والاستبطان، وقد بذلت مجهودات كبيرة للوصول إلى فهم عميق لهذه النشاطات، وحينما نتحدث عن الإبداع الشعري فهو نشاط فني يخضع لكل التأثيرات الخارجية وللتركيبة النفسية للمبدع ومجموعة من الدوافع والحاجات. وفي هذا الصدد أقوم بتأليف عمل بدأته العام الماضي لم أنهه بعد، يتحدث عن هذا الجانب حول عدة تجارب شعرية نسائية مغاربية من الجزائر وتونس والمغرب.