لماذا تتأخر الترجمة العلمية في الجزائر؟
كيف هو واقع الترجمة العلمية في الجزائر؟، ولماذا تعاني من الندرة أو القلة، ما الذي يجعلها لا تصل إلى المأمول منها والمرجو؟، هل يرجع هذا إلى قلة المترجمين العلميين في الجزائر، أم إلى عزوفهم عن الاشتغال في هذا المجال لسبب من الأسباب؟.
أيضا، هل يمكن القول أن الترجمة العلمية متأخرة ومتذبذبة مقارنة بالترجمة الأدبية التي تهتم بترجمة الأدب،ومن جهة أخرى هل يمكن للمترجم الأدبي أن يخوض غمار الترجمة في المجالات العلمية؟. أم على أهل الإختصاص من (باحثين ومترجمين علميين) أن يتداركوا الأمر؟.
«كراس الثقافة» في عدد اليوم، يفتح ملف «الترجمة العلمية في الجزائر» مع مجموعة من الأساتذة الأكاديميين والباحثين والمشتغلين في حقل الترجمة العلمية.
لا أحد يستطيع أن يفسر ندرة الترجمة العلمية أكثر من العلميين أنفسهم، لأنهم الأقرب إلى المشكلة بجميع ملابساتها. على أن المؤكد أن هذا اللون من النشاط العلمي يشكو تأخرا في بلادنا، وهو في بلدان الجوار «تونس والمغرب على جهة التحديد» أكثر خصوبة. عن أسباب المشكلة، أول ما يواجهنا هو طبيعة تكوين المترجمين، ثم مشكلة التعددية اللغوية ثم السياق العلمي نفسه.فعن الأول لا نعرف سياسة علمية توجهت إلى تكوين مترجمين متخصصين، ولا هي احتفت بالترجمة وأكدت شرعيتها معرفيا واقتصاديا حتى، فقد بدأت العناية بالترجمة عندنا متأخرة جدا لا عن الغرب الذي لا يبارى في ذلك بل عن الشرق نفسه، وإن كان الأخير ليس متفوقا تمام التفوق.
وعن الثاني، تعتبر الجزائر من أكثر البلدان استشكالا للازدواجية اللغوية، خصوصا من جهة اللغة الفرنسية لمشكلة تاريخية تدركونها -طبعا- وقد شكل ذلك حاجزا أمام تخطي كثير من العقبات إحداها وأقبحها استيهان الإفادة من المنجز المعرفي الكوني.
وعن الأخير، لا أتصور أن تتقدم الترجمة العلمية في ظل تأخر البرامج العلمية نفسها عندنا. هي فرصة للتساؤل الموضوعي عن الفوارق «العامة لا الفردية الاستثنائية» التي تعرفها بشكل متزايد ومخيف أجيال الطلبة عندنا.
هل يمكن قياس هذا التأخر على ما يراه السؤال تقدما في الترجمة الأدبية، الرواية على سبيل المثال؟ أشك في ذلك، لأن التفاؤل بتقدم الترجمة الأدبية يحتاج إلى مراجعة. أين الأعمال الترجمية الكبرى عندنا، من هم أسماؤها؟ ما تأثيرها على السيرورة الإبداعية، وعلى الاستقبال نفسه؟ يكاد يطغى على الأفق الترجمي أسماءٌ قليلة، أبو العيد دودو وأبو القاسم سعد الله على سبيل المثال، لهم خَلَفٌ حاول استئنافَ التقليد مع الفارق في القياس وفي التوجهات الثقافية والإيديولوجية، من أمثال خولة طالب الإبراهيمي «من جامعة الجزائر»، المغفور له محمد يحياتن «كان رئيسا لقسم الترجمة بجامعة تيزي وزو»، محمد ساري «من جامعة تيزي وزو»، عبد الله حمادي «من جامعة قسنطينة»، خيرة حمر العين «من جامعة وهران»، وربما انضاف إليهم كاتب هذه السطور»من جامعة سطيف». سأتحفظ في الإطلاق، مفترضا أن أقسام الترجمة بالجامعة الجزائرية أفرزت أسماء، من الجيل الجديد، لها كفاءةٌ مَا في هذا الجانب، ولكن لم يتعين لي إلى الآن وجودٌ لافتٌ لها يستحق الإشارة، فيبقى الرأي على ما هو عليه حتى يثبت العكس.
مع التسليم بجودة منجز هذه النماذج الأخيرة، فليس مطلوبا منها أن تقتحم الترجمةَ العلمية لأن ذلك لا يدخل في مقدراتها التقنية، ولا يستجيب لمواهبها الأصلية، فاحترام التخصص أساسٌ لكل منجز علمي أصيلٍ. وهو المأمول في مستقبل الأيام والمنتظر من ذوي الهمم العالية.
يصعب أن نهتم بالترجمة في زمن مشكلتنا الكبرى فيه هي الاهتمام، إذ كل المؤشّرات المعرفية تؤكّد بأن الترجمة العلمية-في مقابل ترجمة العلوم الإنسانية- في الجزائر تكاد تكون منعدمة، حاشا بعض الجهود الفردية المتناثرة هنا وهناك، إننا لا نملك طموحا نحو مشروع ترجمي يؤسّس أرضية صلبة قادرة على استضافة المنجز العلمي للآخر، فضلا عن أننا مازلنا لم نفكّر بعد في انشاء هيئة علمية تشرف على نقل النصوص في مختلف المجالات وتنسّق بين المترجمين ودور النّشر، كما هو حال الدول الكبرى لإبقاء رابط التواصل قويا مع التطوّر المعرفي. لذلك أدنى تشخيص لراهننا الجامعي، يكشف عن فشل فادح في تكوين مترجمين مختصّين في مختلف الحقول المعرفية، ناهيك عن غياب الصرامة المنهجية وخاصة الضبط الدلالي للمفاهيم والتصوّرات التي أنتجت وتطوّرتفي محاضن ثقافية ولغوية أجنبية. ينبغي الإشارة إلى أنالتّعريب قد أبقى تدريس العلوم الطبيعية باللّغة الأجنبية الأمر الذي أغنانا عن الحاجة إلى نقلها، لذلك، القارئ الجزائري المفرنسلا يشعر بالحاجة إلى الترجمة لأنّ كل المراجع الأساسية في أي حقل معرفي باتت اليوم مكتوبة بلغة الآخر، في حين يكابد القارئ المعرّب محنة اللّغات الأجنبية، لأنّه لا يملك سبيلا لقراءة الإنتاج العلمي الأجنبي بالضرورة،
إلا بوساطة الترجمة المعطّلة.
لا يمكن أن نفرض على المترجم أن يشتغل على النصوص الأدبية أو العلمية، الترجمة نزوع نحو أفق معرفي تولّده الرغبة في الاهتمام بمجال دون آخر، حظيت الترجمة الأدبية في الجزائر بمترجمين هم في الأغلب أدباء على غرار محمد ساري والحبيب السايح والسعيد بوطاجين، خاضوا تجربة نقل النصوص الأدبية الجزائرية، لكن ظلّت الترجمة العلمية -أي تلك التي تُعنى بالعلوم الطبيعية- في الجزائر مشروعا جامدا، في انتظار استراتيجية محكمة للنهوض بالبحث العلمي، وقد أورد البيان الأخيرلبرنامج الأمم المتّحدة للتنمية الإنسانية في العالم، بأن كل مليون جزائري يصدرون مقالا علميا واحدا، وهي نسبة ضئيلة جدا، أمّا إذا بحثنا عن نسبة الترجمة العلمية فحتما ستكون النسبة مخيّبة كثيرا. علينا أن ننشئ معاهد ترجمة جادة تستند إلى برامج تدريس علمية قادرة على تكوين الكفاءة الترجمية، وفتح مخابر جامعية تعنى بنقل النصوص في كل الإختصاصات، ومن ثمّة تشجيع المترجمين على فعل الترجمة عن طريق كل المحفّزات المادية والمعنوية.
أخيرا، ربّما يستنكف المترجم الأدبي عن الخوض في الترجمة العلمية لكون النص العلمي اختصاص مختلف يستدعي من المترجم دراية بالمفاهيم العلمية، ومتابعة متواصلة ودقيقة للتنظير في كذا مجال علمي، فيقتصر على الترجمة في مجال اختصاصه تجنّبا للتورّط في تشويش الأفكار واضطراب المعنى. نحن إذا في مسيس الحاجة إلى هيكلة العمل الترجمي لهدف النهوض من غفوتنا التي جعلتنا نقيم على هامش النصوص التي صنعت المنعرجات الكبرى.
لا أتصور أن التَّرجمة الأدبية والفلسفية بمثل الحضور الذي يتوافر بحيث يشكل قوة ووفرة في الإنتاجات الفكرية في واقعنا، فنحن متأخرون في الترجمة كثيرا، فضلا عن أن الترجمات الموجودة لا تضاهي الترجمات العالمية، ولا نترجم من اللغات الأخرى غير اللغة الفرنسية مثلا، فنحن محجوبون عن مستجدات المعرفة الفكرية والفلسفية التي تنتجها المجتمعات المعاصرة التي تكتب باللّغات الإنجليزية والألمانية مثلا، من هنا فنحن نترجم ما هو موجود في المنتوج الفلسفي الفرنسي، أي ما يترجمه الفرنسي وما يحتاجه في ثقافته وتصوراته، وإذا كان واقع الترجمة هكذا في ميدان الأدب والفكر، فهو أضعف منه في الميدان العلمي، لأن الميدان العلمي يستوجب متخصّصين محترفين لهم ثقافة في الميدان العلمي الذي تُترجم منه الكُتب، وهذا ما لا يتوافر لدينا في الجزائر، حتى أصحاب التخصُّصات العلمية لدينا في الطّب والبيولوجيا مثلا لا تتعدى أبحاثهم النَّشر في المجلات الدّولية، ولا يولون الاهتمام بتثقيف المجتمع من الناحية العلمية، بخلاف رجال العلم في الغرب، فتجده متخصصا في جراحة القلب مثلا، لكنه يكتب للنَّاس عن القلب وعن كيفية الوقاية من أمراضه، ويُقدُّم خطوات منهجية لأجل هذه المهمة، والأمر نفسه مع المتخصّص في العين وفي الكبد وفي الرياضة البدنية، ما هو منشور لدينا يرتبط بفنون تشريح الجسد وتسمية الأعضاء، وهذا لغايات بيداغوجية علمية وليس لغايات تثقيفية للرأي العام تسهم في تزويده بمعرفة نفسه وجسده أكثر.
وأرى أنّه من الأفضل للمترجم في الأدب أن يتقن الترجمة التي في حقله، قبل أن يتجه من الترجمة في المجالات العلمية، لأنه حتى داخل الفروع المعرفية الواحدة ثمة خلل، فلا يمكن مثلا للمتخصص في الأدب أن يترجم ترجمة وافية النّصوص الفلسفية لأنها تحتاج إلى إحاطة بالمصطلح الفلسفي مفهوميا وتاريخيا، المطلوب هو أن يترجم المتخصص في المجال العلمي الكُتب العلمية، وهذا يحتاج منهم التحرر من الغرور باللغة الأجنبية، وأن يتقنوا جيّدا اللغة العربية التي هم مفلسون منها ولا يعرفون إلا لغة التخاطب من العربية، وهذا ما أورث فراغا في الترجمات العلمية التي ستقدم قيمة علمية وفائدة لطلبة العلم فضلا عن الفضاء الاجتماعي العام.
والترجمة العلمية لا تقتصر فقط على ترجمة النصوص المكتوبة وإنما تتعداه إلى ترجمة الأفلام والأشرطة العلمية أيضا، وأعتقد أن هذا الشكل من التّرجمة أكثر حضورا في العالم العربي من التَّرجمة المكتوبة، وللأسف القنوات التلفزيزنية في الجزائر يغلب عليها الاهتمامات السياسية أكثر من الفضاءات العلمية، وهذا ما يزيد من توسع الفراغ للترجمة العلمية، أليست هذه القنوات قادرة على التَّعاقد مع مترجمين جزائريين وشراء الأفلام العلمية وترجمتها، ونحن على يقين من أن الإقبال عليها سيكون في صورة تضاهي الأفلام التي يمجها المجتمع الجزائري في عمقه وصميم ثقافته.
ما الذي يجعل الترجمة العلمية لا تصل إلى المأمول منها والمرجو؟.
يعود هذا في نظري إلى سبب قلة أو ندرة الترجمة العلمية في الجزائر، كما يعود هذا في اعتقادي دائما إلى أسباب مباشرة تتعلق بالدرس العلمي الذي يعاني منه طلبتنا، بحيث يبدأ التكوين في المراحل الأولى من الإبتدائي إلى الثانوي باللغة العربية ثم ينتقل إلى اللغة الفرنسية في المرحلة الجامعية، وهو الأمر الذي ينشأ عنه تذبذبا في هضم المفاهيم والنظريات، هذا من جهة ومن جهة أخرى قد يعود أيضا إلى الإرادة التي تفتقد لدى العديد من النخب في الهياكل الأكاديمية والبحثية في تطوير اللغة العربية في مجالات أخرى غير العلوم الإنسانية وكأنه حكم على الجزائر أن تشتغل باللغة الفرنسية في الأمور الدقيقة مثل الرياضيات والطب والتكنولوجيا والاقتصاد عموما وأن تترك الأمور الخاصة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية للغة العربية، أي الوظيفة الأيديولوجية فحسب.
هذا واقع الجزائر، بسبب عدم الثقة في قدرة اللغة العربية على مواكبة العصر وهذا اعتقاد خاطئ من الأساس. هناك أيضا تعدد واختلاف المدارس الترجمية من بلد عربي لآخر وربما من مترجم إلى آخر، علاوة على اختلاف وتناقض المصطلحات في الاختصاص الواحد، وهذا أيضا من المعضلات التي تعاني منها الترجمة العلمية، بينما الترجمة الأدبية والترجمة في العلوم الاجتماعية والإنسانية قد وجدت –على الرغم من الصعوبات- امتدادا واسعا لنشاطاتها.
هل يرجع هذا إلى قلة المترجمين العلميين في الجزائر، أم إلى عزوفهم عن الاشتغال في هذا المجال لسبب من الأسباب؟.
أعتقد أن السببين المذكوران في السؤال هما الأصح، القلة في المترجمين وأيضا العزوف عن العمل الشاق، كون الترجمة في هذا المجال تقتضي جهدا مزدوجا: التحكم في الاختصاص والتحكم في اللغتين «اللغة المنبع واللغة الهدف» وهو أمر يتطلب كفاءة عالية والكثير من الجهد الشاق والإلتزام وإرادة فولاذية وهي أمور قلما تتوفر في شخص واحد، هذا بالإضافة إلى أن هذا النوع من النشاط الأكاديمي يقتضي عملا جماعيا واستراتيجية ترعاها مؤسسات تملك المنهجية والرؤية والمقاربة الشاملة.
ومن جهة أخرى أرى أن المترجم الأدبي لا يخوض غمار الترجمة في المجالات العلمية، لأنه لا يمكن له خوض غمار الترجمة العلمية كون هذا النوع من النشاط الترجمي يقتضي التحكم في الاختصاص العلمي وهو على ما أعتقد لا يتوفر للمترجم الأدبي، يمكن لهذا الأخير التعاون مع المترجم العلمي في الجانب اللغوي وحسب.
يعتبر الحديث عن الترجمة في أفقها العلمي وفي صورها الأخرى، من بين المسائل الشائكة في الثقافة الجزائرية والعربية المعاصرة وفي مستوى البحث العلمي الأكاديمي، حيث نرصد حركة ترجامنية متذبذبة، لا ترقى إلى مستوى ما هو منشود ومرجو، لأننا لم ننشغل ببناء مؤسسات تضطلع بمهمة نقل النتاج العلمي إلى ثقافتنا، بالرغم من وجود محاولات جادة وصادقة تبتغي الارتقاء بهذا الهاجس الحضاري إلى مرتبة التقعيد المؤسساتي، ويمكن أن تتقاطع عوامل مختلفة في تجسيد هذا المسعى، غير أن الأمر يحتاج إلى دراسة أكثر عمقا بعيداً عن كل منزع يحاول أن يٌقزم من العمل التٌرجمي الراهن، أو أن يسفه المساعي التي تراهن على نقل التراث العلمي والفلسفي والأدبي.
من هنا تتداخل جملة من الشرائط في توجيه هذا الحديث عن مسألة تحوز على موقع خطير في ثقافتنا العربية المعاصرة، ولعل ذلك يرتد إلى عديد من المفاعيل الجوانية والبرانية، التي تتحكم دوماً في هذه المقاربة، منها ما يتعلق داخليا بذلك التصور الذي يذهب، دون خشية من أي ردّ فعل سلبي، إلى حدّ اتهام الترجمة بالخيانة، والمترجم بأنه يملك استعداداً قبلياً بممارستها، ومنها ما يرتبط خارجياً بالتباعد الفكري واللساني بين الألسنة مما يضاعف من عسر مهمة الترجمة، وكأننا نقف أمام حقول معرفية متباعدة تفصل بينها جدران تحول دون نقل الفكر البشري.
إن المتأمل لمسألة الترجمة يلاحظ أن الحديث عن ما يسمى بالعوائق أو الإعضالات التي يكثر الإشارة إليها في كل مناسبة، تُعد في نظرنا مجرد أقوال عابرة لا تملك مشروعية تأسيسية غليظة، فهي لن توقف حركة الترجمة ولن تستطيع أن تحول بين انتقال الأفكار، أو الانفتاح على المنجز الفكري للآخر، ولا يمكنها أن تمنع ما هو مبدع في الضفاف الأخرى، والشيء الذي يجعل من الترجمة عملاً رائعاً وجليلاً هو هذه النواقص، بحيث تُحافظ دوماً على عدم اكتماله، وتبقيه على هذه الحالة القاصرة عن إتيان الكمال، لأن في ذلك عين الإبداع وجوهر الحداثة الأدبية والفلسفية، وربما تكون الترجمة فاتحة خير على النصوص في حدّ ذاتها، ألم يعترف الأديب الألماني غوته بفضل الترجمة في اكتشاف الذات أولاً والوقوف على قيمة اللغة الألمانية من خلال معرفة لغة الآخر، وتوسعة مجالات النصوص المترجمة إلى فضاءات مغايرة. الآكد في المسألة أن الترجمة تسعفنا في فهم ذاتنا وفي الترحل داخل النصوص التي سترتحل هي بدورها إلى قارئ جديد، فالترجمة هي التي تفتح لنا دروباً جديدة نحو آفاق طريفة بالرغم من عواضلها.
ربما هذه العواضل هي التي تحافظ على مستوى عال من التوتر والرجة وعلى نسبة مرتفعة من منسوب الاختلاف الذي يكرس ذلك الشعور بوجود نقص أبدي في النشاط التُرجمي، يقول جاك دريدا: «لا يحيا النص إلا إذا بقي ودام، وهو لا يبقى ويتفوق على نفسه إلا إذا كان في الوقت نفسه قابلاً للترجمة وغير قابل. فإذا كان قابلاً للترجمة قبولاً تاماً فإنه يختفي كنص وكتابة وجسم للغة. أما إذا كان غير قابل كلية، حتى داخل ما نعتقد أنه لغة واحدة، فإنه سرعان ما يفنى ويزول»، فكل ترجمة هي مجرد مقاربة ناقصة، لا يحق لها أن تدعي الاكتمال، لكي نبقي المجال مفتوحاً أما العقول القادمة.
صدر كتاب "عن الترجمة" (Sur la traduction) في أصله الفرنسي عن دار بايارد سنة 2004 بباريس قبل وفاة صاحبه بول ريكور ( Paul Ricoeur) بأشهر، أما ترجمته العربية التي نستعرضها في هذا المقال فقد قام بها الأستاذ حسين خمري ونشرتها منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم ببيروت مؤخرا وهو يقع في ثمانين صفحة من القطع المتوسط، وهو عمل جديد للمترجم بعد كتابه في ذات السياق والموسوم بـ "جوهر الترجمة" الصادر عام 2006 عن دار الغرب.
هذا الكتاب إذن ، صغير في حجمه كبير في فائدته يغري بالقراءة ، مما يجعل قراءته الأولى –حسب المترجم- سهلة وشاعرية ، ولكن عند ترجمتها يكتشف القارئ ثقلها بالمراجع والإشارات والرموز التي لم يفصح عنها الكاتب، وبذلك يمكن اعتبارها دعوة ضمنية من بول ريكور لقراءة مجمل أعماله حتى يتسنى فهم أبعاد هذا الكتاب ومراميه.
و بول ريكور (1913 2005-) الفيلسوف الشهير ، يعتبر من بين أهم الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين ، زيادة على مجمل كتاباته التي-كما يقول المترجم- كرسته كأكبر فيلسوف فرنسي رغم مزاحمة البنيويين و السيميائيين من قبيل كتابه: الذات بوصفها آخر، النقد والقناعة، الزمن والاعتراف، من النص إلى الفعل، اشتغل بالترجمة منذ بداية حياته فقد ترجم في نحو سنة 1939 (وكان عمره حينها لا يتجاوز الستة والعشرين عاما) كتاب "أفكار" لـهوسرل في سرية تامة وهو أول عمل فكري يقوم به ريكور الشاب، ولم يتخلَّ عن الترجمة –كما يضيف المترجم- طوال حياته سواء كعمل مستقل أو من خلال قراءاته للفلسفة الألمانية مباشرة في لغتها الأصلية.
يتركز فكر بول ريكور في هذا الكتاب حول فكرة رئيسية هي :" هل الترجمة ممكنة أم مستحيلة" ويقدم ملاحظة مفادها أنّ الأعمال العظيمة قد شكلت على مرّ العصور موضوع ترجمات متعددة ولهذا يرى أنّ الترجمة هي "تحدٍّ".
ويقول مترجم الكتاب د. حسين خمري بأنّ ريكور عند تناوله لموضوع الترجمة فإنه "يقاربها من جهة نظر تأويلية، أي أنّ الترجمة مهما كانت تقنية فإنها في نهاية المطاف عبارة عن تأويل" هذا الأخير الذي " يمكن تعريفه كأحد مشتقات الفهم"
صعوبات الترجمة
في محاضرته الموسومة بـ "سعادة وتحدي الترجمة" يتحدث ريكور عن "الصعوبات المرتبطة بالترجمة باعتبارها رهانا صعبا، وفي بعض الأحيان من المستحيل رفعه" ففي أثناء عملية الترجمة " نعمد إلى نوع من الإنقاذ وإلى نوع من التعويض عن الخسارة".
ويشرح المترجم المقولة الأخيرة بقوله: " أثناء كل عملية ترجمية يمكن معاينة نوع من التنازل على حساب اللغة المصدر أو اللغة الهدف حتى تتم عملية الانتقال ويطلق على هذه العملية اسم "Entropie" وهي الخسارة أو الأنتروبيا حيث تجد اللغتان نفسيهما في حالة مواجهة خاضعتين لقوانين لفظية وتركيبية ولتقطيع للواقع غالبا ما يكون مختلفا".
إذن فالترجمة تخلق علاقة بين شريكين ، الكاتب وكتابه بلغته الأصلية، والقارئ وهو المتلقي والعمل المترجم، " وبين الاثنين يحاول المترجم الذي يقوم بإرسال الخطاب تمرير الرسالة كاملة من لغة إلى أخرى" ، وهي وضعية غير مريحة أطلق عليها ريكور اسم "المحنة" وهذه المحنة هي مفارقة الترجمة paradoxe ، فهي خدمة سيّدين:" الغريب داخل عمله (الكاتب) والقارئ ورغبته في التملك، وبينهما يجد المترجم نفسه " بين ناريْن: رغبة الوفاء وشكوك الخيانة" وهي صعوبة تختصر في فكرة " ربط القارئ بالكاتب، وربط الكاتب بالقارئ".
يصادف المترجم في أولى مراحل عمله بما يمكن تسميته "مقاومة" تكون ربما في شكل حدوس بـ "عدم قابلية الترجمة" وهي الفكرة التي تشلّه حتى قبل أن يباشر العمل ذاته، حيث ينتصب النص الأجنبي –كما يقول ريكور- ككتلة جامدة مقاوِمة للترجمة، ومن ثمة يتضاعف الخوف بأنّ الترجمة لن تكون إلاّ رديئة.
هذه المقاومة تبدأ في الخفوت عندما يبدأ عمل الترجمة.
ويرى ريكور أنّ الشعر هو أول ما حرّك العقول للترجمة ، وهو يطرح مشكلة خطيرة تتمثل في الاتحاد الذي لا انفصام له بين المعنى والصوت وبين الدال والمدلول، وهنا نجد أنّ ترجمة الأعمال الأدبية التي تهمنا اليوم تطرح مشاكل من نوع آخر غير قابلة للمعالجة، فعلى مستوى التقطيع ذاته للحقول الدلالية يتبيّن عسر المطابقة الدقيقة بين لغة وأخرى وتصل الصعوبة ذروتها مع الكلمات المفتاحية والتي يفرض صاحب الترجمة أحيانا الطريقة الحرفية كلمة بكلمة "حيث تتخذ الكلمة معادلا ثابتا في لغة الوصول"، ومع أنّ هذه الصعوبة مشروعة باعتبار أنّ هذه الكلمات المفتاحية على ما يرى ريكور "هي ذاتها مضغوطات مركّزة لنصّيات طويلة حيث تعكس سياقات كاملة بعضها البعض.
كما أنّ التراكيب بين اللغة الأصلية واللغة المترجم إليها ليست متعادلة ، وأساليب الجمل "لا تحمل نفس الموروثات الثقافية" وبذلك ومن خلال هذا التنافر "يستمد النص الأجنبي مقاومته للترجمة وبهذا المعنى يعلن عدم قابليته للترجمة " أما في النصوص الفلسفية التي تتضمن دلالات صارمة فإنّ تناقض الترجمة ينكشف بوضوح.
يعتقد المترجم عند نقله لنص ما من لغته الأصلية إلى أخرى أنه يقول الشيء نفسه، لكن بطريقتين مختلفتين، ولحلّ هذه المعضلة –كما يرى صاحب الكتاب- لن يبقى من مخرج سوى القراءة النقدية المعادلة من طرف مزدوجي اللغة لإعادة ترجمة خاصة يستطيع بواسطتها القارئ المقتدر أن يعيد على حسابه الخاص عمل الترجمة محتملا بدوره محنة الترجمة ومصطدما بالمفارقة نفسها لمعادلة دون تطابق.
ويلخّص أنطوان بيرمان صعوبة الترجمة فيقول:" على المستوى النفسي فإنّ المترجم متعدد الاتجاهات ويريد اقتحام الجانبين، إجبار لغته على التشبع بالغرابة ، وإجبار اللغة الأخرى على النزوح إلى لغته الأم".
وتظهر محنة الترجمة وعدم الاطمئنان إلى أمانتها التامة أكثر ما تظهر من خلال الإعادة اللامتناهية لترجمة الأعمال الكبرى كالكتب المقدسة وأعمال شكسبير وموليير وغيرهما.