كيف هي علاقة الكاتبة الجزائرية بمجتمعها، كيف تجد نظرته لها، وكيف تتعامل مع هذه النظرة التي في أغلبها خاطئة ومصابة بقصور في الوعي والثقافة. هذا المجتمع الذي لا يقدر ما تقدمه المرأة الكاتبة والفنانة من فن وإبداع؟. فالكثير من المفاهيم السلبية المغلوطة والجارحة تُراوح مكانها وتمارس سلطتها وتسلطها ومنها العلاقة التصادمية في كثير من الحالات بين المجتمع والمرأة الكاتبة. فهناك كاتبات وفي هذا العصر يعترفن أن نظرة المجتمع لهن قاسية وفيها الكثير من الظلم والريبة حتى أن كاتبات كثيرات، أنهين مسيرتهن الأدبية خضوعا لأحكام المحيط الرافض لتواجد كاتبة فيه، ودفعن فاتورة هذا بصمتهن المؤلم الذي أُجبرن عليه، الصمت الذي يمجده المجتمع كثيرا. كثيرات كن ضحية لهذه النظرة الذكورية الجائرة من مجتمع لا يشجع الكاتبة والكتابة ويرى فيهما خروجا عن التقاليد والآداب والأعراف وما إلى ذلك، وبالمقابل هناك كاتبات تحدين المجتمع وتجاوزن عقدته الذكورية و واصلن مسيرة الكِتابة بكل إصرار وطموح. حول هذا الموضوع، تتحدث كاتبات ومبدعات في ندوة «كراس الثقافة» لهذا الأسبوع، وكلّ واحدة من وجهة نظرها الخاصة وانطلاقا من تجربتها الذاتية مع محيطها ومجتمعها.
استطلاع/ نوّارة لحــرش
ف.ياسمينة بريهوم (قاصة): الكاتبات يعشن أكثر من حياة تدينهن
حين نبدأ خطواتنا الأولى في عالم الكتابة نكون شفافين لدرجة أن نرى العالم يفتح يديه لاحتضان حروفنا بعيدا عن كوننا إناثا أو ذكورا، لكن عندما نصطدم بمن يقول: «وهذا ستنشرينه؟» تبدأ أوّل أسئلتنا ومقاوماتنا لهذا القمع وهذه الرقابة، ونبدأ في بناء جدار بين الكاتبة والمرأة، وتجهيز حُججنا لمن يتّهمنا بالحلم، وبأنّنا لن نغيّر في الحياة شيئا، وكأنّ الكاتب آخر الزعماء الثوريين، أو آخر سلالة مخلّصي البشرية! لتتجمّع هذه الحوادث الساذجة وتكون أوّل صِداماتنا مع الآخر الذي يرفض ميزة أن نقول، وأن نكشف ونسجّل ما نفكر وما نحسّ، بخاصة عندما نكون إناثا وضعت لهن مهمّة الحفاظ على صورة القبيلة، والعائلة، والمجتمع، فمنطقيّ إذ ذاك ألاّ يغفر لنا الحديث عن عيوبه ونقائصه التي تقلّم أجنحة خروج الأفراد عنه، أو حتى الإشارة إلى ذلك.فنادرات هنّ اللّواتي رافقهن أب مؤمن بموهبتهن، أو التقين رجلا شدّ على أيديهن، مفرّقا بين الشخصيّة والكتابة، فاصلا الإنسان الذي يتعامل معه، عن العمل الذي يقرأه أو يسمعه أو يراه. وأظن أنّ هذا ليس استثناء يخصّ الكاتبات فقط، بل وضعية مجتمع لا يعرف بعد كيف يتقبّل هذا التغيّر المفروض عليه بسبب تعلّم الإناث وخروجهن للحياة والمواطنة، فكلّ النساء الفنانات، كالمطربات، والممثلات...إلخ، أي حيث تكون المرأة «أنا» مستقلة، وتقول الحب، والرغبة، وتطالب بالحريّة وحقها في أن تكون خارج التبعيّة، يوجد في المجتمع ما يقف في وجه كلمتهن، بل إنّ طبيبات ومحاميات تطلقن بسبب رفضهن كتابة لقب الزوج على باب العيادة أو المكتب. فقط مع الكاتبة يكون هذا أكثر ظهورا، لأنّ المرأة الكاتبة تفضحها كلماتها التي ترفض الوصاية والقمع وتلك طبيعة الحرف، وليس لأنّ الكاتبة أكثر جرأة دائما، فكاتبات كثيرات وهن يمارسن ما يسمينه تمردا وخروجا عن المجتمع في الحقيقة يعبرن شكليا فقط عن رفض تبعيتهن، لنكتشفهن مدجنات راضيات بما أقرّت لهن الأعراف، بل لا يزعجهن أن يُسيّر الرجل حتى كُتبهن ونشرها وما يكتب فيها دون الدخول في موضوع الاستلاب الذي يجعلهن ينظرن إلى أنفسهن نظرة ذكورية.
ولأنّ الحروف شاهد إدانة تكون الكاتبة المرأة الوحيدة التي عليها مواجهة سؤال لا يخفيه حتى من تأمنهم من دارسين ونُقّاد: هل كتبتِ هذا عن تجربة واقعيّة؟، وهو سؤال حمّال أوجه عن نساء يعشن أكثر من حياة تدينهن، حتى وإن كانت على الورق، وكم تعيش النساء في أزقة الحياة وبراثينها دون أن يسألهن المجتمع طبعا فأولئك لا يكتبن، ويكتفين بأن يقلن للأخريات لتنتهي مشاكلهن وقصصهن..بعضهم لا يتوقّف عند السؤال، بل يتعامل مع الكاتبة على أنّها امرأة «متحرّرة» والتحرّر في خلد هؤلاء لا يعني أنّها امرأة حرّة قادرة على اختيار ما يناسبها، وعيشه، وتحمّل مسؤوليته، فالمتحرّرة في استيهاماتهم هي التي لا ترفض طلبهم للجنس.. وحياتها فوضى لا يضبطها حدّ، ولعلّه ما يجعل بعضهم يتّصل بك في أيّ وقت لأنّكِ مبدعة، مع أنّه يخفي زوجته تحت حجاب غيرته، أو عقدته، أو حتى حجة معرفته بذهنية رجال المجتمع، لكنّه لا يفكر ولو لوهلة، أو لعلّ استيهامه يستغرقه لدرجة لا يرى أنّ هذه المرأة /الكاتبة ليست مجبرة على الردّ على هاتفه أصلا أو رسالته أو حتى التعامل معه، وأنّها فقط لكونها حساسة ومؤدبة تخجل أن تجرحه، وأن تقول إنّ لها ارتباطاتها، ومسؤولياتها، وحدودها، وأنّها لا تستطيع أن تستقبل أو تلتقي كاتبا أو ناقدا، أو دارسا... فقط لأنّها التقته ذات عمل جمعهما. ليغضب وينتقدها بالتكبّر، طبعا فهو مركز الكون فكيف لم يكن اتّصاله ما ينقص حياتها!. سأقول بعد هذا المثال البسيط الذي يمكن أن تتعرّض له المرأة ليس لأنّها كاتبة فقط، بل لأنّها أنثى خرجت عن حضن التقاليد، والأعراف التي تُطالبها بالصمت والإتّباع، فما بالك عندما تكتب، وتفكر، وتعلن أنّها تفكر وتريد أن يكون لها وجودها المستقل. فازدواجية المجتمع هي السرّ في تعاملات غير سويّة: إذ يقبل ويسامح نساء خرجن عن كلّ ما رصّف لهن من حدود، لكنه يحارب امرأة لأنّها ترسم ما تفكر به، أو تعلن ما تحلّله عن المجتمع، أو تنتقد ممارساته أو تكشفها وحسب في قالب فنيّ، وأحد لا يقتنع بأنّ ما تقوله على لسان شخصياتها، لم تعشه. هذا لأنّ من تكتب، أو تغني، أو ترسم، أو ترقص (ومن تعبّر بحركات الجسد هي أشدّ المبدعات معاناة) تُعرض جسدها الذي لا يرى المجتمع المرأة خارجه، جسدها الذي لا حق لها في امتلاكه والتصّرف فيه لأنّه شرف رجل قد يكيلها كلّ الإهانات أبًا أو أخًا أو زوجًا كان. ولسبب آخر هو أنّها إذ توجد فيما تبدع تقول إنّها مفرد، لا تنتمي إلى جماعة بل لفكرتها، ونظرتها عن الحياة والكون والرجل، الذي قد تجرح رجولته المهزوزة بما تكشف فيه من ضيق وتقوقع يعميه عن رؤية هذه الروح الحرّة التي تقولها الكتابة والمستعصيّة على التدجين أو السيطرة. وأحسب أنّ هذا يتعلّق بالإبداع عموما، فحتى الرجال المبدعون يعانون من قمع المحيط لموهبتهم، وثقافتهم، وخروجهم عن النمط الذي يصهرهم المجتمع فيه.
لكن يبقى أنّ الإبداع قوة أقوى من كلّ خوفنا وحذرنا لاسيما إذا سيّجها الوعي برسالة الفن التي لم تكن يوما دربا سهل المسالك، بل طريق كلّه عزلة ووحدة تزيد من غربة الكاتب السابق لمجتمعه وعصره.
منى بشلم (روائية وناقدة): كثيرا ما يُنظر لها من منظور المسترجلة التي تجاسرت
قبل الحديث عن علاقتنا بالمجتمع علينا أولا أن نلقي نظرة على هذا المجتمع، والنظرة لن تعود سعيدة، إننا للأسف مجتمع من عالم ثالث الهيمنة فيه للعطالة الفكرية والإبداعية والإنتاجية، وأي خروج عن نسقه هذا لا يُقابل إلا بالرفض، إن التحجر يسعى إلى خلق شبيه له حتى لا يضره حاله، وبمجرد خروج أحد عنه يتحول إلى عدو عرضة للنميمة وأحيانا للاعتداء اللفظي، فما بالك إن كان هذا الخارج عن العادة أنثى في وسط محكوم بالعقلية الذكورية، لا ينتظر منها غير الخضوع، فإذ هي تتمرد.والكِتابة تمرد وخروج من هيمنة الصمت إلى الجهر بأفكار الأنثى، إنها في مجتمعنا لا تقف عند حدود كونها ممارسة إبداعية، بل تتعداها لتمثل تحديا لنظام متوارث من الصمت، يكون له ثمن باهظ اجتماعيا، فكثيرا ما يُنظر لها من منظور المسترجلة التي تجاسرت وكسرت القيد الاجتماعي، هذا إن لم توصف بأوصاف لا أخلاقية، ليس فقط من فئات أقل وعيا بل أحيانا من الوسط الثقافي ذاته الذي يعيش ازدواجية تشطر مواقفه. لا تختلف في هذا الكاتبات أنفسهن عن المثقف الرجل، إذ تخضع آراؤهن ببعض إلى هذا الفكر الذكوري الذي يرى في كل إبداع أنثوي حركة تمرد تُقابل بالرفض، وفي كل وصف تقدمه لشخصياتها وصفا لذاتها، وهي أحداث نصوصها سيرة ذاتية لها، ما يجعلها تُجلد اجتماعيا بسياط نصها الإبداعي. ما يحبط عزيمتها ويدفعها للابتعاد تدريجيا عن العوالم الإبداعية حتى لا تُسقط على حياتها. لا يبقى للمبدعة إلا أسرتها الصغيرة التي تشكل الفيصل في الصراع مع المحيط الاجتماعي، إن وجدت الدعم هناك وهو ما أعيشه منذ اتخذت قرار نشر روايتي الأولى «تواشيح الورد» لم أجد بداية غير أسرتي سندا ومشجعا، وشكل تشجيعها مناعة ضد الإحباطات وأمدني بالسند لأستمر، بفضلهم أمكنني المواجهة وعرض نصي لا نفسي، والحمد لله هذه الثقة التي اكتسبت في محيطي القريب هي التي فرضت على محيطي الأوسع كثيرا من التقدير لصفة المبدعة، دعمها تواجدي في وسط مهتم بالأساس بالإبداع وهو الوسط الأكاديمي الذي يشتغل على النص الإبداعي، و وجدت من عدد من الزملاء الاهتمام والإقبال على دراسة نصوصي وتقديمها للطلبة، وإن كان يبلغني أحيانا أن زملاء أُخر يطعنون بإبداعي وأحيانا بشخصي، فإني أقنع نفسي دوما أن البقاء للفن لا للثرثرة التي ترافقه.أما إن لم تجد الكاتبة في أسرتها الدعم، وكانوا هم أيضا غير مقدرين لفنها، فلا يبقى لها غير الهروب إما إلى خارج الوطن أو إلى الصمت، الذي لا يعرف ثقله إلا من عاشه، صمت الكاتبة عن خط ما تعزل نفسها موجع، يفوق آلام المرض إنه حالة من الموت البطيء التي تكبر في داخلها.
ياسمينة صالح (روائية ): نظرة المجتمع إلى الأدب بدأت تتدخل فيها رؤى أخرى تتجسد في «قلة الأدب»
لو طُرِحَ هذا التساؤل في الثمانينات لكان ممكنا القول أن ثمة نظرة أحادية إزاء المرأة الكاتبة التي يُعتقد أنها تنشر «غسيل الأسرة» في كتابات تحمل اسمها الصريح أو اسمها المستعار، لكني أعتقد أن الكاتبة في الجزائر أو في الوطن العربي تجاوزت كثيرا هذا الإشكال، وإن نظرتِ إلى الحِراك الأدبي في دول كانت محافظة جدا في السابق مثل المملكة العربية السعودية لوجدتِ أن أكثر الكُتب السعودية الصادرة خارجا تحمل توقيع كاتبات، وهذا يعني أن ثمة حراكا فكريا واجتماعيا قد تغير عما كان عليه في السابق.
من الصعب على المجتمع أن يكون عائقا ضد المرأة الكاتبة، عادة ما تكون المرأة عائقا إزاء نفسها بنفسها، وأحيانا تبدو ضحية أفكار جاهزة، حتى الزواج يتحول إلى فكرة جاهزة تعتقد بعضهن أنه سوف يقتل فيهن القدرة على الكتابة والرغبة على الإبداع! وإن واصلت نساء كثيرات الإبداع بعد الزواج ـ رغم ظروفهن الصعبة أحيانا، فهذا لأن الأفكار الجاهزة هي التي تقتل الروح الإنسانية والإبداعية لدى الرجل والمرأة على حد سواء، فثمة رجال أيضا توقفوا عن الكتابة لأن ركضهم اليومي خلف لقمة العيش سرق وقتهم وأوراقهم الحميمة، مثلما قتل حلم الكتابة فيهم. أستغرب أن يكون المجتمع اليوم سببا في توقف المرأة عن الكتابة، أصدق أن ثمة ظروف شخصية، وأحيانا رهانات عليها أن تخوضها إزاء حياتها كإنسانة نعم، لكن في النهاية لا أصدق أن ثمة كاتبات في هذا الوقت الذي وصل فيه الحديث عن الأدب الرقمي، يمكن الحديث عن منع المرأة اجتماعيا من الكتابة، وهنا لا أنكر أن ثمة موانع كثيرة وقتل بطي لكائن المرأة على أكثر من صعيد، وغالبا ما تمارسه المرأة ضد المرأة في النهاية! أما التقاليد، فيجب النظر إلى إشكالية «الكتابة والمرأة» مثلا بأنها حقيقة كائنة بذاتها، من الصعب تغييرها، وإن استطاعت المرأة الكتابة فهذا رهانا رائعا لأجلها أولا، أما التقاليد فأنا أستغرب أن ينظر إلى الكتابة الجميلة كما لو كانت «رقصا ماجنا على طريقة فيفي عبده»!
ولنكن صرحاء مع بعض أن نسبة القراءة في الجزائر جد كارثية، نسبة الأمية مرتفعة، فمن ذا الذي يقرأ أولا ليمنع المرأة من الكتابة؟!! وإن كانت المرأة في دول أكثر محافظة مثل السعودية تلجأ إلى الكتابة كتعويض نفسي بالنسبة إليها، وتنشر (وتطبع) أكثر مما ينشره الرجل وبأسماء صريحة، فهذا يعني أن المجتمع في حالة تغير حقيقي، وأن نظرته إلى الأدب بدأت تتدخل فيه رؤى أخرى تتجسد اليوم في ظاهرة «قلة الأدب» التي صارت تتنافس عليها الكاتبات في أكثر من دولة لأجل أن تحظى بالانتشار وبالشهرة والمال أيضا!. الإشكالية أصبحت أكبر وأوسع وأخطر من المجتمع والكاتبة، بل صارت الكتابة والأدب!!!.
جميلة طلباوي (/ قاصة و روائية): عصرنا عرف تحولات كبيرة و المجتمع تفهم رسالة و دور المرأة الكاتبة
عصرنا هذا عرف تحولات كبيرة، فبحكم الخوف على المرأة التي هي عَرض العائلة مُورس عليها القهر وحاولت الأعراف والتقاليد أن تحجبها عن الأنظار وأن تخرس صوتها، ولم يشفع لها مشاركتها في الثورة التحريرية إلى جانب أخيها الرجل، بل ظلّت في حالة نضال من أجل الحق في التعليم ثمّ الحق في العمل، فما بالك بالكِتابة التي تعني القدرة على التفكير المغاير والاستعداد للتمرد والتغيير، ولنا المثال في الأديبة زليخة السعودي التي لولا الظروف الاجتماعية التي خنقت صوتها لكان لها شأن آخر في الساحة الأدبية يضاهي ما حققته الراحلة آسيا جبّار. ولنا المثال الحي أيضا في الأديبة المجاهدة السيدة زهور ونيسي التي استطاعت أن تتعلم بفضل المدرسة التي أسّسها رائد النهضة الجزائرية الإمام عبد الحميد بن باديس الذي آمن بضرورة تعليم المرأة، زهور ونيسي المجاهدة استطاعت أن تكتب أيضا وأن تحفر اسمها من ذهب في المشهد الأدبي الجزائري والعربي بفضل توافر الظروف والبيئة المساعدة.
والحديث عن علاقة المرأة المبدعة بالمجتمع يحيلني على تجربتي الشخصية ويعيدني إلى مرحلة الثانوي لأستحضر أصواتا أدبية جميلة جدا ظهرت في تلك المرحلة، كتبت القصة والشعر والمسرحية. فتيات جميلات كنّ يتوهجن حيوية وطموحا وإبداعا، كنّا نسعد كلما التقينا وعرضت الواحدة على الأخرى ما كتبت، لكن ماذا حدث بعد ذلك؟
الذي حدث هو اختفاء تام لتلك الأصوات خوفا من ردّة فعل مجتمع كان يؤمن بأنّ المرأة خُلقت لتتزوج وتلد وحسب، وأيّة إضافة من المرأة خارج هذا الإطار تعتبر تمردا عليه فيعاقبها بتهميشها ويقسو عليها بنظرة تدينها وتجعلها تعيش أقرب إلى وصمة العار التي قد تسيء إلى عائلتها أيضا.
من زميلات الحرف من توقفت عن الكتابة بسبب الزواج ومنهنّ من توقفت عن الكتابة خوفا من عدم الحصول على زوج، لأنّها تعتقد بأنّ المجتمع لا يمكنه تقبّل امرأة تكتب وقد تنشر كتاباتها ويصبح اسمها معروفا وهذا أمر لا يليق أبدا في عرف مجتمعنا.
وكنتُ من بين الأصوات التي استطاعت أن تواصل الكتابة وأن تنشر ما كتبت، ولا أقول بأنّ للأمر علاقة بتحدي المجتمع، فأنا لا أرتاح لكلمة تحدي، سأسمي الأشياء بمسمياتها، فالذي يحدث عادة في المجتمعات الذكورية أنّ المرأة لا تنجح إلا إذا كان وراءها رجل يسندها سواء كان الأب أو الأخ أو الزوج. بالنسبة لي الفضل في استمراري يعود لوالدي ولأخي رحمهما الله.كنتُ منذ صغري ألاقي التشجيع من أسرتي ومن الأساتذة الذين درسوني، وبعد حصولي على البكالوريا والتحاقي بالجامعة في شعبة التكنولوجيا لأحقق حلم أهلي بالتخصص في الهندسة، صادف ذلك حصولي على الجائزة الأولى في القصة القصيرة في مسابقة نظمتها جمعية أحمد رضا حوحو بمدينة بشار واستضافني برنامج إذاعي ليعرّف المستمع بهذه القاصة الناشئة التي افتكت الجائزة الأولى، فحدث أن لفت صوتي انتباه المسؤولين على الإذاعة المحلية واقترحوا عليّ الانضمام إلى طاقمها. يومها وجدت معارضة شديدة من الأهل وكان ذلك في تسعينيات القرن الماضي أيام كان العمل في الإذاعة غريب عن عرف المنطقة الجنوبية التي نشأتُ فيها، ولولا وقوف أخي الأكبر رحمه الله إلى جانبي لما تمكّنت من الالتحاق بالإذاعة التي أبقى مدينة لها بالكثير، فبفضلها نشأت علاقة وطيدة بيني وبين المجتمع نتيجة عشقي لعملي، هذه العلاقة كانت سرا من أسرار تقبّل مجتمعي الصغير لي ككاتبة. لمست ذلك أكثر يوم نظّمت لي مديرية الثقافة لولاية بشار بيعا بالإهداء لروايتي بالصالون الوطني للكتاب الذي احتضنه الحي الشعبي الكبير الذي نشأت فيه، وجدت سكان حيّي والطلبة والمستمعين يُقبلون على الجناح الذي كنت فيه لاقتناء الرواية ولتشجيعي وليغمرني شعور كبير بالامتنان لهم جميعا.
رأيت أيضا مؤخرا الآباء يرافقون بناتهم الصغيرات تلميذات المتوسط والثانوي إلى مقرّ عملي بالإذاعة على أنهنّ موهوبات في الكتابة يحتجن للتشجيع والنصائح، يحلمون بأن تصير بناتهن أديبات يشرفن المجتمع. كلّ هذا بالنسبة لي أمر يبشر بغد أجمل للمرأة الكاتبة مادام المجتمع تفهم رسالتها ودورها.
كما خلصت أيضا إلى نتيجة أخرى وهي أنّ المجتمع يتقبّل المرأة ما دامت تحترمه وتحافظ على الجسر الذي يربطها به، لكن لحظة تتمرّد عليه سيرفضها أيّا كان النشاط الذي تمارسه. كما أعتقد بأنّ الهوة التي قد توجد بين الكاتب (سواء كان رجلا أو امرأة) وبين المتلقي يكون للأوّل فيها دور كبير إذا لم يجتهد في إيجاد آليات لمدّ جسر بينه وبين المتلقي الذي في النهاية هو يخاطبه ويكتب ويبدع له. ويبقى إيمان المرأة برسالتها المحرّك الأساسي لمواصلة المسيرة ولإيصال صوتها دون أن ينقص ذلك من سرّ أنوثتها ومن دفق إنسانيتها ودفء أمومتها.
خيرة بلقصير (/ شاعرة وكاتبة مقيمة في الأردن): هناك رقابة ومحاولات تضييق يفرضها المجتمع على الكاتبة وإبداعها
أكتبُ بصفتي كائن يتوقُ للجمال والحريّة، أحرّكُ اللّغة بصفتها مسْكناً للكائن ومأواه كما يقول (هايدغر)، وبصفتها عجينة الأبدية، ولا أعترف هاهنا بجنس الكتابة أو أدلجتها، وأمام هذا الكم الهائل من الرّقابة والمحاولات التي يفرضها المجتمع في تضييق الحلقات حول كل ما هو إبداع، خاصة إذا كان الأمر يتعلّق بامرأة تحمل رأسا يلهج بالحرية فالأمر ليس بالسّهل أعتقد أنه تحدّ كبير، فالإبداع بالنسبة لي هو إعادة صياغة الأشياء وإخراجها من قيودها وكسر تلك الطابوهات الجاهزة كالتهمة الملصقة بالمرأة بتاء تأنيثها المشرعة على الاضطهاد، فهي المنكوبة بجسدها وعقلها على مرّ التّاريخ.
لولا الكتابة لمِتُّ مثل فتيل في مصباح «علاء الدّين!»، أنا أتنفس كتابة في أخفض منطقة في العالم أمسك الجاذبية وأدير نِسْبية الأشياء بطريقتي، تبدو المواجهة مع العقليات المهُووسة بجاهزية الأحكام وخلفيات الدين والمعتقد مواجهة صعبة لها عوائدها طبعا من نظرات إقصاء.
عموما المرأة الكاتبة والمثقفة هي دائما في حالة تأهب كالخطر الذي يتربص بالشّهيد قبل استشهاده بدقائق. ألا تستحق الكِتابة إذن مثل هذه التضحية الجسيمة، فقط ليعم النّور على هذا الكوكب المنفي، أبحث ككاتبة عربية في مجتمع يفرض وصايته الذُّكورية، يملك النّصوص الدينية والقانونية، يملك الحقّ في امتلاك جسد المرأة تحت وطأة السّلطة الأبوية والأعراف وإلقاء بعقلها النّاقص من منظورهم المتوارث وتحجيم دورها بكثير من الحِيَل المقننة، بعض المجتمعات ذهبت إلى حدّ تجريد المرأة من حقها في الميراث وتحويلها إلى مجرد فأر تجارب لكثير من الدراسات البيولوجية والسوسيولوجية، أبحث عن بؤرة ضوء لأمرّر منها شظاياي، أمرّر جسد المرأة المحموم خارج الاستهلاك اليومي وسلطة المطابخ،، أبحث عن إنسانيتي خارج التّصنيف الممنهج، فأنا كائن لا يؤمن بتهمة إفقاد الرّجل متعة الفردوس الأعلى وأن المرأة مجرد ضلع أعوج يجعلها قاب قوسين من القهر وأدنى من مطالب العيش بكرامة.. منذ سنوات وأنا أمارس عملية التّسلل من خيوط الشّرنقة وفي اعتقادي أن ثمّة ما يستحق إظهار هذه الهشاشة دون الاصطدام بجدران الواقع أو طمس للمتلقي بسواد جناح الفراشة المهووسة بالتحليق عاليا، عاليا جدا.. ومحاولة إثبات أني لست كائنا افتراضيا يعيش على حفنة «لايكات» كما هو معروف، لقد استطعت أن ألامس سقف السّماء في كثير من محاولاتي رغم الضّجر ونميمة تأتي دائما من الشّباك المفضي للنّاس، من أشخاص نعلمهم ولا نعلمهم، أُشيد هاهنا بدور زوجي في دعم مسيرتي ككاتبة واجتهاده في دعم موهبتي ودفعها للأمام دائما، وتحمل أعبائي ككاتبة لها طقوسها وطموحاتها.
في الأخير أتمنى أن أصل إلى ترجيح الكفّة لصالح الوعي الثقافي الحثيث والرُّقي بأسباب الكتابة والقفز فوق كل ما يُحاك ضد المرأة المبدعة من مؤامرات ومحاولات إجهاض فكري وتضييق تعسفي. أريد تغيير مقولة الكاتبة «سيمون دي بفوار»: «المرأة تولدُ إنسانا ثم يجعلها المجتمع امرأة»!. نعم أنا إنسان يُحلّق باللّغة، يمشي في مناكب الحرف وأبتغي فيها رزق المحب في طلبه يصدّق العصافير والفجر حين يبتسم رغم النهيق الذي يبتزه به الأفق الضيق.وأما الكتابة فهي وحدها مقياس الخروج عن هذا الحصار «الطِرْوادي» الذي يفرضه مجتمع يقتل الموهبة بدم بارد.