مشاريع التنمية بعد الاستقلال تضمنت جهدا لتحديث البنى الاجتماعية
يتحدث الكاتب والباحث، الدكتور عبد السلام فيلالي، في هذا الحوار، عن كِتابه الجديد «الجزائر/الدولة والمجتمع (1965-1979)»، الصادر مؤخرا عن دار الوسام العربي. وهو عبارة عن مقاربات، تناول فيها الباحث بالدراسة والتحليل تطور أنساق القيمة والتوجيه للمجتمع والدولة خلال فترة جد هامة من تاريخ الجزائر. تجدر الإشارة إلى أنّ الجزء الأوّل من هذا الكِتاب صدر عام 2012 عن دار الوسام العربي، وقد تناول فيه الباحث مرحلة التأسيس للدولة الجزائرية المستقلة. ومع صدور الجزء الثاني محور هذا الحوار يكون الدكتور فيلالي قد قدم للقارئ مقاربة شاملة لطبيعة المجتمع الجزائري، وهو يخطط لانجاز الجزء الثالث من هذا المشروع.للتذكير، الدكتور فيلالي، أستاذ محاضر بقسم العلوم السياسية بجامعة عنابة، ونائب عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بذات الجامعة، ويرأس مخبر التنمية المستدامة والحكم الراشد في جنوب المتوسط، وهو أيضا رئيس تحرير المجلة التي يصدرها هذا المخبر.
حاورته/ نوّارة لحــرش
كتابك الجديد «الجزائر/الدولة والمجتمع»، الصادر منذ أيام، يسعى إلى دراسة وتحليل تطور أنساق القيمة والتوجيه للمجتمع والدولة خلال فترة جد هامة من تاريخ الجزائر (1965-1979). لماذا ركزت على هذه الفترة الزمنية تحديدا؟
عبد السلام فيلالي: يتعلق الأمر بمشروع عام يخص تطور بُنى المجتمع الجزائري وكيفية هيكلتها تبعا لأنساق القيمة التي تميزها، وتكون دراسة هذه البُنى انطلاقا من أنساق التوجيه (أي عملية التأثير التي هي مرتبطة بنسق السلطة وتحوله إلى ولاية autorité). وبالتالي فهذا المشروع يتطلب الرجوع إلى عملية التأسيس والتي جعلتنا في الجزء الأول نستقصي تطور البُنى الاجتماعية «الثقافية، السياسية، الاقتصادية» وهذا عبر مختلف المراحل التاريخية. ولم يكن عملنا عملية تأريخ بقدر ما كان محاولة لتتبع نشأة وتطور هذه البُنى واستقرارها كبنية مهيمنة عبر ما يضفيه عليها نسق السلطة «أي تأثير الفاعلين الأساسيين»، وهو المسار الذي أوصلنا إلى تشكيل سِمات رئيسية لِمَا سيعرف بالثقافة الوطنية «الجزائرية».
منطلق «البومدينية» كان يتمثل في إحداث نصر معنوي للقوى الريفية على القوى البرجوازية الحضرية
وكان الجزء الأول، ونظرا لكبر حقل التناول قد توقف عند مرحلة التأسيس للدولة الجزائرية المستقلة، حيث كنا توقفنا عند تحليل مباني المجتمع والدولة، أي عملية إنتاج وإعادة إنتاج الواقع الاجتماعي. وكان الجزء الأول من الدراسة قد انتهى مع هذا التحليل إلى خلاصة مفادها أن مسألة تمفصل وترابط أنساق القيمة مع أنساق التوجيه هي أنّها: «لم تغادر مبانيها التقليدية، لأجل تحقيق التأثير بواسطة قوة –عصبية-، مع -سلطة أبوية- ترسخ منظومة امتثال وخضوع». كان هذا مرتبطا مع تشكل المركز «السياسي» الذي صار يسعى إلى اكتساب الشرعية «تحوله إلى ولاية». لقد توقفت الدراسة عند تحليل ما حصل في 19 جوان 1965. وهو أيضا كان موضوع بداية الجزء الثاني الذي ركز على تحليل المجتمع والدولة الجزائريين إلى غاية سنة 1979. وهي مرحلة غنية وثرية بمختلف الأحداث والانجازات بطموحاتها ونجاحاتها وتعثراتها، فكانت دراسة وتحليل مبانيهما هي صلب تناول هذا الجزء الثاني من مشروعنا الذي سيستكمل بحول الله بانجاز القسم الثالث من هذه الدراسة من خلال دراسة مرحلة 1979-1992. وهو مشروع يدرس الدولة الوطنية الجزائرية عموما والرهانات التي واجهتها (بخلفية عامة للفكر السياسي الذي ميز نشوء الدولة الوطنية)، مع تأكيد على خاصية الظاهرة السياسية لكل وطن.
الكتاب ضم ثلاثة فصول، الأول هو «إعادة تشكيل المركز»، وقد احتوى على ثمانية مباحث وتم فيه السعي إلى فهم مضامين مشروع «التصحيح الثوري» من خلال نسق النظام السياسي وبناء الدولة والمجتمع الجديد. هل يمكن ذكر أهم المراحل التي مر بِها تشكيل المركز؟
عبد السلام فيلالي: المركز السياسي (كمفهوم لتشكل الفاعلين الأساسيين الذين يشرفون على إنتاج المعاني) الذي واكب عملية ميلاد الدولة الجزائرية المستقلة هو نتاج تراكم تفاعلات معقدة وطويلة عرفتها الحركة الوطنية الجزائرية، ولكي نفهم عملية تشكله ينبغي دراسة مقوماته أي القيم التي نشأ وتطور في كنفها. أي قيامها كرد فعل على القوانين العقارية القهرية والإنديجانا التي هدمت المجتمع الجزائري القديم، وثم ظهور أشكال جديدة من العمل السياسي (مع حركة الفتيان الجزائريين، نشاط العمال المهاجرين في فرنسا، الإصلاحية الدينية والنهضوية...). لقد كان لتراكم أشكال مقاومة القهر وعملية الحِراك الرأسمالي الذي شهدته الجزائر تأثيره في تبلور مطلبية سياسية راديكالية تقوم على الاستقلال وبناء دولة جزائرية هي أساس الحركة الوطنية بعد ما جرى في الثامن ماي 1945 والذي سوف تتلازم فكرة الاستقلال بواسطة العنف، ومن ثم حصول عملية إزاحة أشرفت عليها قِوى جديدة من البرجوازية الصاعدة والتي سوف تشرف على إعلان الثورة المسلحة. لقد كانت للمحطات التي مرت بها ثورة التحرير بين 1954-1962، آثارها على بنية الفعل السياسي والإيديولوجي خاصة مع ظهور هيئة الأركان العامة وهواري بومدين كفاعل كان له دورا مهمًا في توجيه وتحديد مباني الدولة الجزائرية المستقلة تَبعًا لِمَا جرى في مؤتمر طرابلس. وهو الأمر الذي أشرنا إليه أعلاه، وقمنا بتحليل عمله وبنيته. ولم يكن تصحيح الثورة -حسب هذا المنطق- سوى إعادة إنتاج لقيم تكرست، ولذلك جاء عنوان مبحثنا في الجزء أو في القسم الأول من هذه الدراسة (المركز يؤوب إلى جوهره)، وأمّا ما سوف يجري تحت مصطلح التصحيح الثوري فهو تأكيد على الطابع الثوري، أي تثوير بُنى المجتمع الجزائري تحت توجهات اشتراكية.
أيضا كيف ترى ما استقر عليه المركز من خلال ربطه بتوجهات (القيم)، وكيف تقرأ السياقات العامة التي حدثت من خلال التفاعلات داخل (حركة14 ديسمبر1967)؟
عبد السلام فيلالي: إنّ ما جرى من أحداث مع حركة 14 ديسمبر 1967 يندرج ضمن منطق عمل المركز، حيث تم إعمال إستراتيجية «الحيلة» للتخلص من الخصوم طالما أن العمل المؤسساتي غير مفعَّل بالشكل الكفيل بمعالجة التناقضات التي تعتمل داخل النظام السياسي. وهي كما بدت لنا فعلا حركة، فلم تقم لأجل هدف واضح ومحدد بتغيير نظام الحكم، حيث جاءت مطالبها مشخصة أي أنّها ركزت على شخص هواري بومدين، فظهر لنا أن متزعمها (الطاهر زبيري) كان ضحية آلة ميكيافيلية لا حول ولا طاقة له أمامها.
ولم تكن هذه المحطة الوحيدة التي أبانت وكشفت عن عمل المركز مثلما هو الشأن مع أزمة صيف 1954 و نهاية جماعة وجدة. لربّما كانت الأحداث دالة على أزمة الحكم وأيضا على طريقة تسييره من قِبل قادة ما بعد الاستقلال، لكنّها تظل جزءً من منظومة عمل شاملة ترتبط بمختلف مناحي الأنشطة الصناعية والثقافية والسياسة الخارجية كما عرضنا لها بشكل مفصل في هذا الكتاب.
في الفصل الثاني: «من الثورة إلى الثورات الثلاث مشروع التنمية والمجتمع الجديد»، جاء التناول بنوع من التحليل لمحتوى مشروع التنمية عبر هذه الثورات على الصعيد الداخلي وسياسة الجزائر الخارجية. ما هي برأيك أهم القواسم بين هذه المشاريع الثورية، وأيضا أكثر الإرباكات أو الهزات التي حدثت في جسد هذه المشاريع؟
عبد السلام فيلالي: لقد قِيل الكثير حول مشروع التنمية، حينما تم تسليب انجازاته من حيث ارتباطه بخيارات ما قبل الاستقلال ومن حيث أنّه كان يهدف بشكل غير واقعي وفعّال ببناء المجتمع الجديد. إلا أنّنا يمكن أن نقر بأنّ المشروع التنموي (من خلال المخططات التنموية) ينضوي ضمن جهد تحديثي لِبُنى المجتمع الجزائري والتخلص من التخلف وتحقيق الازدهار لشعب عانى الكثير. ثم هناك مقاربة أشمل له من حيث أنّه كان علامة مضيئة في مسيرة التحرر الوطني العالمثالثية. ولقد كان التصنيع هو الأداة والغاية.
فشل مشروع الثورة الزراعية وبروز مجال عيش هامشي أفرزته دائرة الإنتاج الصناعي، أدى إلى تفكيك بُنى المجتمع التقليدي وظهور مجتمع جديد شبه حضري
لقد تم وضع إستراتيجية جزائرية للتنمية (S.A.D) في نهاية الستينات والتي شكلت إطارا للسياسة الاقتصادية المخططة، تقوم الدولة بالإشراف بشكل مباشر على عملية التنمية وتتدخل في جميع مراحل الإعداد والتنفيذ. وهو الأمر الذي كان يشير أوليًا إلى تبعية التقني للسياسي، وأدى إلى طرح تحديات كبيرة من حيث شروط النجاعة الاقتصادية والمبادرة والابتكار، وتحسين التسيير والاستثمار الذاتي والتنافسية. فكان هذا يعني ثقل عملية اتخاذ القرار. وهذا ينسحب على مشروع الثورة الزراعية والثورة الثقافية، من حيث النتائج المخيبة للآمال، أدت إلى إضعاف حجية النظام السياسي أمام خصومه. لقد كان المنطلق هو إحداث نصر معنوي للقِوى الريفية على القوى البرجوازية الحضرية.
في الفصل الثالث «قواعد تنظيم المركز ومباني المجتمع الجديد»، هناك الكثير من نقاط تتقاطع بين المركز ومباني المجتمع الجديد؟
عبد السلام فيلالي: نعم، هذا هو جوهر خيارات التصنيع والإصلاح الزراعي والتعريب إلى غاية سنة 1975، وسوف تكون المبادرة بإصلاحات دستورية وتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية سنتي 1976 و1977، لأجل مواكبة المتطلبات المُلحة للمجتمع الجديد الذي صار أكثر تطلعا لتجاوز التأطير الذي لم يعد يُلبي جيل ما بعد الثورة.
تبعا لتحليلك مباني النظام السياسي وإستراتيجية التنمية وتطور بُنى المجتمع في جزائر ما بعد 19 جوان 1965، خلُصتَ إلى تحديد إعادة هيكلة المجتمع والدولة. ما هو الملمح الرئيسي لمثل هذه الهيكلة؟
عبد السلام فيلالي: لقد اعتبرنا أن مقاربة المجتمع من قبل «البومديينية» تمت من منطلق صراعي، أي بأن ينتصر الريف على المدينة. لكن النتائج المخيبة خاصة في مشروع الثورة الزراعية وبروز مجال عيش هامشي أفرزته دائرة الإنتاج الصناعي، أدى إلى تفكيك بُنى المجتمع التقليدي وظهور مجتمع جديد شبه حضري. وهو ما كان يعني الدخول في أزمة جديدة، من حيث تعايش نموذجين اجتماعيين متباينين: الأول تقليدي محافظ، والثاني حداثي يتطلع إلى لعب أدوار جديدة.
وماذا عن مخرجات النسق السياسي وتوجهاته الجديدة على صعيد بناء المؤسسات السياسية وعلى صعيد نتائج هيكلة المجتمع؟.
عبد السلام فيلالي: لقد كان هذا يستدعي تعديل بنية العلاقات المدولنة، أي مواكبة عملية فردنة المصائر من خلال التخفيف من هيمنة النظام السياسي على المجتمع، بإتاحة المجال أمامه عبر الانفتاح السياسي. وهو ما يشير إلى أدوار المجتمع المدني والمشاركة السياسية.
الكتاب كان في معظمه مقاربة لطبيعة المجتمع الجزائري، هل يمكن أن تضع القارئ في صورة شاملة عن أهم ما يميز طبيعة المجتمع الجزائري –حسب دراستك ومقارباتك-؟
عبد السلام فيلالي: إن مقاربتي تقوم على الانتقال من نموذج العلاقات التقليدية إلى نموذج العلاقات المفتوحة التي تقوم على تعزيز دور الفرد والانتقال من التنظيم العرفي إلى منظومة قانونية، ونستطيع القول أن مشروع التحديث في مرحلته الأولى مع ظهور دائرة الإنتاج الرأسمالي الكولونيالية ثم مع مشروع التنمية بعد الاستقلال قد أدت إلى إعادة هيكلة العلاقات الاجتماعية وكانت المسيرة تبدو طبيعية إلى غاية الأزمة العاصفة التي دخلت فيها الجزائر ابتداء من سنة 1986.
قلت أن هذا الكتاب، هو مشروع لن يكتمل إلا بانجاز الجزء الثالث، الذي سوف تتناول فيه محددات الفكر السياسي للدولة الوطنية في الجزائر في ضوء مآلات الأوضاع العامة التي عاشتها في مرحلة حرجة من تاريخها. هل بدأت الاشتغال على هذا المشروع، وماذا يمكن أن تقول بشأنه؟
عبد السلام فيلالي: هذا هو طموحنا الذي تشكل في منتصف تسعينات القرن الماضي، كما تجلت معالمه في المشهد السياسي والثقافي. كُنا بحاجة ماسة إلى إعادة سبر أغوار ثقافتنا (هويتنا) لأجل فهم الأزمة الخطيرة التي أدت إلى حالة من الشك والإحباط جعلت تُسلب مكتسبات الدولة الوطنية. وإن علمنا بالتالي في الهدف العام هو محاولة الفصل بين ما هو ثقافي وما هو سياسي، أي عزل العناصر المُعرفة للشخصية الجزائرية كما شكلتها الثقافة الوطنية المقاومة، عن معطيات العمل السياسي المرحلية. وهذا بالضبط ما عجزت عنه النُخب السياسية الوريثة لمشروع الحركة الوطنية. إن هدف القسم الثالث من هذه الدراسة -قيد الاشتغال- هو طرح سمات معرفة للدولة الوطنية تستطيع معها تجاوز أي أزمة، بحيث تظل نضالات