أ.ياسين سليماني
في واحدة من أهم كتاباته، يقول المعلم الهندي أوشو عن الجرأة أنها رحلة شديدة الخطورة باتجاه المجهول دون أن ندري إن كنا قادرين على الوصول إلى نهايتها أو لا، إنها مقامرة، ولكن وحدهم المقامرون يعرفون ما هي الحياة، ولقد عرفت "إلكترا" الحياة بوصفها واحدة من أشهر الشخصيات المسرحية في التاريخ التي جابهت الخوف والقسوة بجرأة يعجز عنها الرجال.
نعود إذن إلى "إلكترا" من جديد من خلال العرض المسرحي الذي حمل اسمها من إخراج أحمد خوذي عن النص اليوناني الشهير لسوفوكل، بترجمة طه حسين، وإنتاج مسرح أم البواقي في أحدث أعماله لسنة 2016، بإثارة طائفة من الأسئلة التي تؤسس لنفسها كأسئلة شديدة الأهمية أولها: لماذا تتم العودة إلى هذه النصوص في هذه الفترة بالذات؟ وأيّ رؤية إخراجية يمكن أن تُقدّم لهذا العرض الذي سُبق بمئات الرؤى الإخراجية في مختلف دول العالم أوّلها اليونان موطن النص قد نذكر تجارب إخراجية لهذا العمل قدمها مخرجون مثل "جون جيرودو" و"أنطوان فيتاز"، وفي سورية قدم رفيق الصبان قبل هجرته إلى مصر عرضَ "إلكترا" الذي أشاد به النقاد بقوّة كما قدمها في مصر أحمد عبد السميع برؤية إخراجية مختلفة كثيرا عما قدمت به في الجزائر. وعموما فإن مثل هذه النصوص تلقى رواجا كبيرا في معاهد التمثيل والإخراج في الوطن العربي ويلجأ إليها الطلبة غالبا بحكم وجود تجارب إخراجية سابقة يمكن الاعتماد عليها تسهيلا لعملهم. علينا ألا ننساق وراء هذه المقارنات بدلا عن تقديم رؤية فنية تحاول الوصول إلى جوهر العمل لكن يكفي التنبيه إلى أنّ أحمد خوذي نفسه قد قام بإخراج "إلكترا" قبل أكثر من عشر سنوات مع طلبة المعهد العالي للفنون الدرامية ببرج الكيفان. لذلك كان السؤال: هل يكتفي المخرج بتقديم عمل كلاسيكي برؤية كلاسيكية تتوقف عند مقولات النص ومحدداته بتفاصيله كما كتبها سوفوكل؟ نحن أمام عرض مسرحي لمسرحية من الوزن الثقيل، تعتبر من أشدّ الأعمال الكلاسيكية أهمية، كما لا يمكن إغفال أن إلكترا قد تمت كتابة دراسات عنها بالحجم الذي يفوق ما كتبه سوفوكل بأكمله عشرات المرات. ولا غروَ أن تكون هذه المسرحية واحدة من العلامات الفارقة في تاريخ المسرح العالمي. كما أنّ استلهام فرويد نظريته الشهيرة من إلكترا بعد أوديب، أعطاها بعدا سيكولوجيا جديدا لم يكن يتم الانتباه له. إنها ليست مسرحية بسيطة تتحدث عن انتقام بنت لمقتل أبيها، بل هي عمل ضخم يناقش فجيعة إنسان يخاطر بحياته من أجل إقرار العدل دون أن يستسلم لأي أهواء أو لأي ضغوط. "إنسان يعطي بسخاء حياته مقابل قيمة عليا واحدة: الحب" أو القيم الإنسانية في تناقضاتها الصارخة. لعلّ مفتاحها أو مغزاها في آخر جملة ينطق بها أورست: "كل من يخالف القانون عقابه الموت فورا وحتما سيصبح عدد المجرمين أقلّ"إنّ المسرحية تذكّرنا أنّ الملوك ليسوا بتيجانهم الذهبية، ولا بقصورهم الضخمة، ولكن بالأدوار الكبيرة التي يقومون بها. كانت إلكترا ملكة في دفاعها عن القيمة الكبرى وهي تطبيق العدالة. وكانت كليتمنسترا أمَة، جارية، تحكمها شهوة الخيانة والدفاع عن الخيانة. على العكس تماما من رأي بعض أهل المسرح الذين وجدوا في تقديم أعمال كلاسيكية من جديد على الخشبة الجزائرية هروبا من الأعمال الجديدة التي يكتبها الجزائريون، وتأكيدا على النظرية الخرافية التي تقول بوجود أزمة نص. فإننا نرى بأن استعادة إلكترا أو غيرها من الأعمال أمام المتلقي الجزائري ضرورة ملحّة. ومحاولة حقيقية لربطه بروائع المسرح في العالم وردم للفجوة التي ظلّت لسنوات تزداد حدة بين الجزائريين والمسرح. ولقد كان رأينا دوما أن يتم تقديم مثل هذه الأعمال جنبا إلى جنب مع أعمال الكتاب المعاصرين والشباب وغيرهم ويكون المقياس هنا جودة العمل في حد ذاته بعيدا عن أي مقياس آخر لا يقدم للمسرح شيئا. هنا نؤكد أن تقديم عمل مثل هذا جاء بعد سلسلة إخفاقات سقطت فيها الجهة المنتجة بدرجة بائسة حيث شاهدنا بعض العروض لا ترقى إلى ما يقدمه مبتدئون في المسرح ( يمكن العودة إلى مقالنا: الخطاب المسرحي وتعدد الرهانات.صحيفة النصر وكتابنا: خطوط غير مستقيمة) قام المخرج بتقديم العمل في إطار تنفيذي كما يوجد في النص. حافظ كما يفعل التلميذ في حفظ درس وصبّه (وليس سهلا أن تكون تلميذا لسوفوكل في واحد من أبرع نصوصه)، فوجدناه يحمل النص بأمانة كآنية فخارية من التحف الثمينة وإيصالها للمتفرج، كأي ناقل أمين، فقدم عملا لا يحمل أخطاء، عدا ما يجب الإشارة إليه في السينوغرافيا وأداء الممثلين.
إلكترا كما قدمها المخرج عمل معقول لكنه ليس مبهرا، لم يقم باختيار مدرسة إخراجية مختلفة يمكن أن يظهر فيها جهده وفلسفة الإخراج عنده، كما فعل الكثيرون، مع النصوص اليونانية في حد ذاتها، كان يمكن أن يقدم عملا يضاهي ما قدمه "أوليفيي برودا" مثلا في عرض "أنتيغون" قبل سنوات قليلة في فرنسا، بحيث رأينا عرضا أخلص للنص الأصلي فلم يغيّر فيه ولعب على الإخراج فقدم عملا يحمل ترسانة علاماتية ضخمة يمكن معها للناقد التأويل والاشتغال على هذا الفيض من العلامات والحوافز . ربما ما فعله المخرج أيضا هو إسقاط بعض الجمل الحوارية التي لم تؤثر كثيرا، ويظهر الاتجاه للتسهيل على الممثلين خاصة مع ترجمة مُحكمة في بنيتها كالتي استخدمها طه حسين، لكن فعليا لم نكن أمام عرض يقوم فيه المخرج بالإضافة للعمل، على العكس، فإنّ العملَ قد أضاف بلا شك لمخرجه المحافظ.
العرض أثار في العديد من أجزائه الشفقة، التي تسعى إلى تمتينها التراجيديات الكبرى ولا شكّ أن المتلقي في هذه العرض قد بلغ به التضامن مع مأساة إلكترا إلى الحد الذي لو استطاع لتقمص دور المساعد الذي تنتقل إليه رغبة الانتقام من القاتليْن، وإحلال العدالة كما يقول العمل. تفاعل الجمهور مع فاجعة إلكترا، في فاجعتها الأولى بمقتل أبيها على يد أمها، وفاجعتها الثانية القاصمة عندما أُنبئت بأنّ أخاها لم يبق منه إلا الرماد بعد مقتله في السباق قبل أن تعرف في الأخير أنّ أخاها لا يزال حيا وسيساعدها في تحقيق العدالة. وهذا هو الدور التقليدي للفن كما يراه الكثير من فلاسفته، فالفن حسب هيغل مثلا "يعظ الإنسان وهذا الغرض من الفن إنما يتحقق بأن ينفذ المضمون الروحي الجوهري في الوعي عن طريق الأثر الفني، وفي الواقع فإنّ الفن أوّل معلم للشعوب" (راجع كتابنا: العين والمدى: مقاربات سياقية لأسئلة الوعي في الفكر الهيوماني ص 150)
ولاشكّ أنّ مشهد إلكترا مع أختها وهي تحاول إقناعها بأن تساعدها في قضيتها من أبرز المشاهد حقا، كما مشهد المربّي (قام بالدور باقتدار عنتر زايدي( وهو ينبئ كليتمنسترا بمقتل أورست بينما تستمع إلكترا إلى الخبر المفزع. إضافة إلى مشهد أورست وهو يعترف لأخته بأنّ الصندوق الذي تحمله على أنه يحوي رماد أخيها ليس إلا كذبة وأنه هو أخوها فعلا وتلقي إلكترا للخبر مندهشة.
الممثلون نجحوا في حمل الأدوار على صعوبتها
أحبّ أن أشير إلى جهود الممثلين الذين استطاع بعضهم أن يحمل الأدوار على صعوبتها بشكل يحمل على السعادة، خاصة وأننا أمام مسرحية كبيرة مثل إلكترا تتطلب حضورا مسرحيا حقيقيا كجميع الأدوار التي كتبها سوفوكل.
مثّلت دور إلكترا "ياسمينة فرياك" وقد شاهدناها في أكثر من عمل وهذه المرة هي ممثلة ناضجة حقا، لها أدواتها التي تمكنت من تحسينها إلى المستوى الإجادة. بقي انتباهها وتركيزها على ملامح وجهها، على النص الذي تمثّله، الحركات، السكنات، مقاطع الغناء المنفرد الذي أدته بطريقة محترفة، للحظة ذكرتنا ببطلة المسرح الرحباني في السنوات الأخيرة، أعني: "هبة طوجي" التي تمثل وتغني وترقص، وفي كل هذه الحالات هي مبدعة. ياسمينة، أو إلكترا، لم ترقص، ولكنها عزفت باقتدار على حواسنا جميعا. إنها مبهرة. ونادرا ما تبهرنا ممثلة في العروض المسرحية التي تقام في الجزائر.
تفاوتت مستويات الأداء والإلقاء والحركة. فإذا كان دور إلكترا بارعا في تقديمه من قبل ياسمينة فرياك، فإنّ دور كليتمنسترا قد ظهر باهتا، كما تمكنت "أمينة فرياك" من أداء دور أخت إلكترا بشكل مقبول ولكن الدور يحتاج لحضور أكثر وقدرات إلقائية وصوتية بشكل خاص.
سأذكر أيضا "نور الدين كحيل" في دور أورست، الذي أثار انتباه الجمهور وتصفيقه مع ختام العمل ربما لشكله الوسيم أكثر من الدور في حد ذاته، فالدور في مساحته لا يحتاج قدرات تمثيلية خاصة، وإن كنت أرى أن دور أورست لم يتم التعامل معه بجدية من قبل المخرج. أؤكد أنّ المخرج في ٍرأيي قد انتبه لإلكترا في اختياره لممثلة مقتدرة، بينما كان اختياره للبقية تجميعا لا اختيارا دقيقا. بينما في المسرح، الجميع يصبح بطلا. وإذا كنا نتفق مع آن أوبرسفيلد في رؤيتها بأنّ الشخصية هي "عنصر حاسم في عمودية النص فهي ما يؤدي إلى توحيد ما تفرّق من العلامات المتزامنة" فإنّ المخرج قام بوضع كل المسؤولية على الممثلة بينما جعل من الأدوار الأخرى مجرد أدوار تكميلية مساعدة. وهذا في ظني ظلم للممثلة وللشخصيات وللعمل. فأمينة بوزيان لم تكن كليتمنسترا.. لم تكن ملكة..إنها ممثلة تمثل دور ملكة وأبقت عند المتلقي الإحساس بالفاصل الشعوري والأدائي بينها وبين دورها، لكن ياسمينة كانت إلكترا نفسها. لم تكن تمثل. ومسقط الممثل في المسرح الكلاسيكي في إحساس المتلقي بأنه يقوم بتمثيل الدور وليس معايشته.
يبدو اختيار دور إيجيست قد جاء متسرعا بعيدا عن أي دراسة، لم يفلح الممثل )قام بالدور رمزي عاشور( في تقديم الدور وظهرت الحركات الزائدة التي تبتعد عن جوهر النص، لقد قرأَ المخرج دورَ إيجيست بأنه دور سطحي، لذلك ظهر مستفزا ، مستعجلا، يظهر تسلطه في ملامح وجهه وسلوكاته بفجاجة، ميلان الرأس، القفز، كلها حركات تذكر بأدوار الشر لكن في الأعمال الكرتونية التي لا تقنع إلاّ الأطفال، بينما في الواقع فإن إيجيست شخصية مركّبة، تحمل الظلم والقتل والتسلط لكن الهدوء والروية وبعض الحكمة أو الدهاء لذلك وجدنا أنّ العرض ظلمَ شخصية إيجيست.
بالطبع لا يمكن أن نقوم بعمل المخرج، فرؤيته تحترم بلا شك، ولكن كان يمكنه إسناد الدور إلى ممثل آخر هو "يونس جواني" الذي قام بدور صغير في العرض، هو دور مرافق أورست في عودته إلى القصر، إنّ تغييرا بسيطا في الأدوار كان ينقذ شخصية إيجسيت بأن تظهر بذلك الحمق والتعاسة )الفنية( خاصة أنّ يونس قد مثل دورا أساسيا قبل فترة وجيزة مع المسرح نفسه في عمل بالأمازيغية بعنوان "النصف الثاني" وكان موفّقا. بينما كلّ ما قدمه الممثل الآخر )للأسف كل الأعمال وصاحب هذه السطور متابع جيد لما يقدمه هذا المسرح( مجموعة أدوار باهتة يحتاج صاحبها إلى اشتغال حقيقي على نفسه لإثبات جدارته بتلك الأدوار قد يكون مكبّلا بحواجز نفسية أو اجتماعية تجعله يرغب بإظهار عمل جيد أكثر من الاشتغال على تطوير أدائه حقا.
استند العمل على سينوغرافيا بسيطة ليست فيها أي جاذبية، إنها عادية حاولت أن تحاكي منظر مدخل القصر كالذي تعوّدت المسرحيات اليونانية أن تدور فيه قدمها "موسى نون" لكن علينا أن ننبه أنها كانت متجاوبة مع البناء الدرامي للعمل ومساوقة لأحداثه، ننبّه أيضا إلى عدم استغلال الإضاءة بقدر كاف، ربما يظهر هذا أكثر في لحظات وقوف إلكترا وحيدة مع فجيعتها ترتّل صلوات الحزن، أقرّ أنّ تلك اللحظات كانت مميّزة لكنها كانت يمكن أن تصبح أكثر تميزا لو تمّت الاستعانة بإضاءة منصبّة على الممثلة لوحدها مع موسيقى مرافقة. وبالوصول إلى بعض الإكسسورات البديعة، كالفستان الذي لبسته إلكترا، أو كليتمنسترا، أو ثياب الرجال، المربي، أورست، وغيرهما، نجد هنة واحدة تتضح عند بعض الممثلين، وهي انتعالهم لأحذية تبتعد تماما عن أجواء الفترة الزمنية التي يحاكيها العرض، فقد كانت حديثة جدا لا يمكن أن تكون متطابقة مع المرحلة اليونانية. ذكّرتنا بأحد الأفلام التي كانت تستهزئ بإخراج الأعمال التاريخية حيث تمّ تصوير مشهد تاريخي يعود إلى فترة حكم العباسيين بينما أحد حراس القصر يلبس ساعة آخر موديل !! لا يزال مسرحنا يسقط في هذه الهنات التي لا تحتاج من أجل تخطيها إلا بعضا من الانتباه.
قد يكون مهما أن نقول بأنّ الدعوة اليوم موجهة لهذه النخبة من الممثلين ألاّ يركنوا للكسل، وأن يختاروا أدوارهم بعناية فائقة، فالحقّ أنّ مقتل الممثل الجيد في المسرح يظهر في اتكاله على الفرص التي يمكن أن تأتيه ، وخاصة عندما يكون موظفا تابعا للمسرح، بحيث تنحصر لديه الاختيارات وتتوقف عند ما يقدمه المسرح نفسه وما يتم الموافقة عليه إنتاجيا. لدينا ممثلين متميزين وعلى القائمين على المسرح أن يتحملوا مسؤولياتهم الفنية في توسيع الاختيارات الكبيرة المثمرة، التي تضيف للمشهد المسرحي نوعيا لا كميا. لا أزال أقول بصراحة قد تكون معهودة: على القائمين على المسرح أن يتوقفوا عن سياسة الترقيع والاستسهال، إنّ الأعمال الجيدة تجذب جمهورها إجبارا . ولقد كان جمهور إلكترا كبيرا وسعيدا بالعمل على الرغم من بعض المأخذ التي رأيناها فيه.