الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

هل باتــت المــيديا تشكــل خطـــرًا على المُثقــــف؟

ترى، كيف تعامل/ ويتعامل المثقف الجزائري اليوم، مع الميديا، وإلى أيّ حدّ يتفاعل معها، وهل يمكن وصفه بالمثقف الميدياوي؟، وهل الثقافة الميدياوية لها تأثيرها وسطوتها على/ وفي الحياة الثقافية عموما، أم دورها محدود ومربك؟، أيضا، ما موقع المثقف التقليدي والكلاسيكي في خارطة ثقافة الميديا، وفي أجواء وفضاء المثقف الميدياوي؟، وإلى أي حد المثقف الجزائري انخرط في ثقافة الميديا؟.
هذه أسئلة «كراس الثقافة» في ملف عدد اليوم، وفيه نقرأ إجابات بعض الكُتاب والأدباء، من خلال مقاربات وآراء مختلفة ومتفاوتة في التصورات ووجهات النظر. 

إستطلاع/ نوّارة لحـرش

 

أحمد دلباني/ كاتب ومفكر


الميديا الجزائريَّة لا تملكها النخب والمُثقف «النجم» غائب عنها وعن الإعلام الثقيل

ارتبط ظهورُ المُثقف الحديث بالمنابر الإعلامية التي مكنته من التدخل في الشأن العام عبر الصحافة المكتوبة تحديدًا، وهذا قبل تطور وسائل الإعلام المرئية التي تشهدُ انفجارًا غيرَ مسبوق اليوم. ونحنُ نعرفُ أنَّ الأدبيات الغربية، في عمومها، تؤرخُ لميلاد هذا الوجه النضالي بمقال الكاتب الفرنسيِّ إميل زولا المشهور «إني أتهم» والمُوجَّه إلى رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك -في أواخر القرن التاسع عشر- بخصوص قضية الضابط درايفوس المُتَّهم ظلما بخيانة بلده. هذا يعني أنَّ المُثقفَ ظل دائما وجها يتميز بحضوره الإعلامي في تمثيل «صوت من لا صوتَ لهم» كما يُقال، مُنتصرًا للقيم الإنسانية والأخلاقية ومُنحازا إلى الحقيقة الغائبة في ثنايا الصِّراع الأبديِّ على الهيمنة والسلطة. وبما أنَّ الفضاء العام هو المجال الحيويّ للمُثقف المُستقل وتأثيره في الرأي العام فقد ظل حضوره إشكاليا وخصوصا في ظل السلطات الشمولية أو القائمة على إيديولوجية الحزب الواحد حيث كان يتمّ احتكار الإعلام والدعاية ومُراقبة الفكر المُختلف. هذا ما جعل من المُثقف النقديِّ –وبخاصة في العالم العربيِّ– صعلوكا يعيشُ خارج القلعة وبعيدًا عن مأدبة المثقفين/ المُوظفين الذين ظل عملهم لا يخرجُ عن وظيفة توفير المساحيق لتلميع واجهة الأنظمة وإضفاء الشرعيَّة الرمزية على كل ما هو آيل للانهيار. ولكنَّ العولمة غيَّرت الكثير من الأوضاع بعد أن سقطت الجدران الإيديولوجية التقليديَّة وتطورت تكنولوجيا الإعلام والاتصال إلى الدرجة التي نشهدُ اليوم وخصوصا مع مواقع التواصل التي لا تخضعُ للرقابة. لقد قدَّمت العولمة، بهذا المعنى، هديتها إلى الدول الوطنيَّة في صورة «حصان طروادة» أتاح اختراقَ القلاع الحصينة إيديولوجيا وأمنيا، وحرَّر مساحة القول من القيود السياسيَّة التقليدية نسبيا. هنا وجد المُثقف نفسه بعيدًا عن الأنظمة المعرفية المغلقة وعن رقابة السلطة التي كانت، في الماضي القريب، رمالا مُتحركة تفيضُ بأشكال الإغراء كما ترمي بشرر الإدانة والقمع. إلا أنَّ هذا الأمرَ، أيضا، لم يكن ليُوفرَ الفضاءَ الضروريَّ للمثقف النقديِّ باعتباره ناقدًا لأنظمة الهيمنة وشرعية الواقع الشامل. فـ «الفيديولوجيا» خاضعة كليا لجماعات الضغط والمصالح ومراكز القرار وسلطة المال ولا يُمكنها، بالتالي، أن تكونَ منبرًا إلا للمثقف «النجم» الذي أصبح يُؤدِّي دورًا واضحا ويحتل مساحاتٍ كبيرة في الإعلام الثقيل باعتباره خبيرًا ومُحللا ومنافحا عن مشروعية المُؤسَّسة السياسية/ الاقتصادية التي تستنجدُ به عند الضرورة. ولنا في برنار هنري ليفي أو آلان فنكيلكروت –على سبيل التمثيل لا الحصر– نماذج للمُثقف «النجم» في فرنسا. من هنا أستطيعُ أن أصفَ هذا الوجهَ بالمُثقف الدَّاجن الذي يخلعُ على الأحداث والتوجهات السياسية بردة الشرعيَّة والمعنى الذي تقتضيه الحال. إنه مُوظفٌ يُنتجُ الشرعية الرمزية ويطلقُ فقاعات المعنى الظرفي ويعرفُ، جيِّدًا، كيف يستدرجُ قوة المعنى إلى سراي معنى القوة. وربما وجدناه، أيضا، يهجرُ الكونية والشمولية التي كان يدَّعيها في الماضي باسم نزعة إنسانية عابرة للحدود كي يُعيدَ النظر في خطايا الماضي باسم «مديح الحدود» كما يُشيرُ إلى ذلك عنوانٌ لرجيس دوبريه الذي نشأ ثوريا مأخوذا بتشي غيفارا ويوتوبيا الثورة الشاملة. لقد أصبحت الحدودُ فجأة علامة على هوية أوروبا المُنهكة -بعد أن ملأت الدنيا وشغلت الناسَ بخطاب الكونية والإنسانيَّة منذ عصر الأنوار- في ظل متاعبها من اكتساح الأمركة وتعثر التثاقف الإيجابيِّ مع  الحضور المُتزايد للمُهاجرين. هذا يعني أنَّ لكل مرحلة أساليبها الخاصة في استدراج المُثقف وتحويل خطابه إلى واجهةٍ لسلطة الأمر الواقع وقد أصبح قوة تتلفعُ بالشرعية الأدبية والتاريخية والأخلاقية. إنَّ خطابات «نهاية التاريخ» و»صدام الحضارات» مثلا هي خطاباتُ مُثقفين ارتبطوا بالمُؤسَّسة الأمبريالية الرَّسمية التي أرادت الاستحواذ على أحقية تمثيل الغائية التاريخية وتبرير الحروب القادمة. هذا ما يجعلني أميل، شخصيا، إلى اعتبار مُثقف الميديا داعية الانكماش الذي يُبرِّرُ الانسحابَ من الهموم الكونيَّة والوظائف التقليديَّة النبيلة الموروثة عن فولتير وزولا وسارتر وإدوارد سعيد وتشومسكي. إنَّ همَّ المُثقف الأول، بالطبع، هو الحضور الذي يُؤمِّنُ لخطابه تأثيرًا في الفضاء العام يقفُ حائلا دون انحرافات التاريخ مُجسَّدًا في السلطة ويضمنُ له تحرير المعنى من قمقم إرادة القوة. إنه صوتُ الهامش الذي يفضحُ مزاعمَ المركز في ادِّعاء الكونية والشمولية وتمثيل اتجاه التاريخ. من هنا كونه مُزعجا ويجبُ ترويضه. ونحنُ نعرفُ، اليوم، أنَّ أساليبَ استبعاد المُثقف واحتجاجاته النقدية من دائرة الضوء تجاوزت القمعَ المُباشر إلى الاحتواء والتوظيف بأشكال مُختلفة من بينها الميديا. لقد أصبح بالإمكان تحويل طيور أفكاره المهاجرة إلى تماثيل من الملح. هذا، بالطبع، لا يقدحُ في الميديا بذاتها باعتبارها تطورًا مُذهلا وغيرَ مسبوق في مضمار الاتصال ولكنه يحاول فضحَ طرائقها في الهيمنة على فضاء التواصل والنقاش الحر المفتوح والبحث عن الحقيقة بما يخدمُ سلطة النفوذ ومراكز القرار والتجاذبات السياسية. فالميديا اليوم –في زمن العولمة الليبرالية- ليست حكرًا على سلطة الدولة المركزية فحسب وإنما هي تابعة أيضا لسلطة المال وجماعات الضغط ودوائر المصالح المُختلفة. إنها تصنعُ واقعا افتراضيا وفراديسَ استهلاكية تحجبُ رؤية جحيم الواقع الاجتماعي والسياسي. هذا ما يجعل منها خطرًا على المُثقف الذي يريدُ الحفاظ على استقلاليته النقدية وعذرية كلمته.
ولكن ماذا عن الجزائر؟ إنَّ بلدنا حديثُ العهد بالانفتاح الإعلاميِّ المرئي على الخصوص بعد تجربة عقدين من الصحافة الحرة المكتوبة في المرحلة التي أعقبت انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1988. وما ينبغي مُلاحظتُه بكل تأكيد هو غياب المُثقف «النجم» في الجزائر. لدينا كتابٌ ومثقفون يجهرُون، أحيانا، بمواقفَ حول الشأن السياسيِّ والثقافي ومسائل الهوية والحقوق الفرديَّة والجماعية، ولكنَّ حضورَهم يبقى مُحتشما قياسا إلى نظرائهم في البلاد العربية الأخرى. المُهيمنُ على الساحة ليس المُثقف وإنما هو رجل السياسة أو رجل المال الباحث عن النفوذ السياسيِّ عبر وسائل الإعلام. لقد نجحَ النظامُ الجزائريّ –إلى حد بعيدٍ– في احتواء الأصوات النقدية وفي جعلها تنكفئ على نفسها داخل الأسوار المهنيَّة والجامعية بعيدًا عن التحولات الاجتماعيَّة وعن همِّ المعرفة المحرِّرة والنضال على جبهة الجهر بالحقيقة العارية من ضغوط الواقع غير المُضاء بشكل جيِّد. من هنا أستطيعُ أن أقرِّرَ أنَّ المُثقفَ الجزائريَّ لم يستطع –منذ عقودٍ خلت– أن يُحققَ نوعا من الحضور اللافت أو السلطة الأخلاقية المُتمتِّعة بهيبة المرجعيَّة المعرفية والنضالية في الفضاء العام، وأعني هنا تحديدًا المُثقف النقدي الحديث الحامل لمشروع مُجتمع مُنفتح على قيم الحداثة والعصرنة والتقدم السياسيِّ والاجتماعي. ولكننا نلاحظ أنَّ الميديا الجزائريَّة التي تسايرُ الأوضاعَ لا تملكها نخبٌ تتبنى هذا المشروع للمُجتمع الجزائريِّ. فكل ما يهمها هو النجاحُ المادي حتى لو تمَّ هذا الأمرُ على حساب مُستقبل مُشتركٍ منشودٍ سيبقى رهينة إلى أجل غير مُسمَّى. هذا ما يجعلُ من غياب المُثقف أمرًا مفهوما في ظل ظروفٍ مُماثلة تتميَّز بالفقر الثقافيِّ وانهيار القيم القاعديَّة لمُجتمع لم ينتقل بصورةٍ متوازنة إلى التحديث الإيجابيِّ منذ لحظة بناء الدولة الوطنيَّة التي أعقبت حربَ التحرير. ولكن يبقى علينا أن نُسجِّل، فعلا، غيابَ المُثقف «النجم» عن الميديا والإعلام الثقيل في بلادنا.

 

عبد القادر رابحي/ شاعر وناقد

لم يعد من الممكن على المثقف المعاصر أن يرفض التعامل مع الميديا ومع ما تنتجه

ربما كان من اللازم بدءًا، التطرق إلى إشكالية بهذه الدرجة من العمق والتعقد من زاوية السؤال الذي يبحث عن إجابة تحتوي مكوّنات واقع ما تطرحه علاقة المثقف بوسائل الإعلام من إشكالات كثيرة. ولا يمكن أن ينسى السؤال تحديد معنى المثقف الميديوي أولا ثم تحديد معنى (الميديا) ثانيا حتى نستطيع أن نضع مكوّنات الإجابة في الطريق الصحيحة الكفيلة بالبحث عمّا ينتجانه من علاقة، وعمّا يمكن أن يبني كل منهما من مركزية تخدم مصلحته بالنظر إلى تحديات الآخر.
لقد حوّل العصر الذي نعيشه، بتسارع وتيرة ما ينتجه من قيم فكرية، طبيعةَ العلاقة العضوية التي كانت تربط المثقف في أزمان سابقة بمجتمعه وبواقعه. وتحولت بذلك المركزيات التي كان يبنيها المثقف التقليدي مع الوسائط الإعلامية التي كانت سائدة في عصره إلى واقع جديد كان لابد على المثقف المعاصر أن يجدّد علاقته معه، إي بما يحمله هذا العصر من إمكانيات اختصار واختزال هائلة توفرها الوسائط الجديدة تعود بالفائدة على الوقت بوصفه وجوداً من جهة، وعلى الفكرة بوصفها منتج معرفيّ من جهة ثانية. إنها إمكانيات عصرنا الذي نعيشه، والتي لم تكن متوفرة في عصر مضى. لقد أصبح من الضروري أن يحسب المثقف ألف حساب للوقت الذي يقضي فيه وقته للدفاع عن فكرة، أو لتحرير كتاب، أو لإنجاز لوحة. وذلك ليس من باب استعمال وسائط العصر التكنولوجية كأداة لتسويق ما ينتجه، بل كمحرّك أساسيّ لكل فعل ثقافيّ حرَكيّ يتوخّى الدقّة والفاعلية في إنجاز العمل الثقافي وفي تسويقه وفي استهلاكه. فلم يعد من الممكن الآن على المثقف المعاصر أن يرفض التعامل مع ما تنتجه الميديا بجوانبها المتعددة من فهم جديد للوقت ولآليات استعماله في إنتاج المعرفة. كما لم يعد من الممكن أن يتعامل معه تعاملا تقليديا وفق ما يحمله المثقف التقليدي من مركزيات متأدلجة تفضح الوسائلُ المعاصرة صاحبها أكثر ممّا تساعده على تسويق فكرته. ولعله لذلك يبدو ضروريا على المثقف المعاصر أن يتأقلم مع ما تتيحه هذه الوسائط من إمكانية إيصال الفكرة التي يريد إيصالها إلى جماهير القراء الكونيين في وقت أقصر بكثير ممّا كان يجب أن يوفره طيلة حياته من وقت وجهد لإيصالها إلى سكان بلده سابقا. لقد خلق العصر الحالي لغة جديدة مصدرها ما يزخر به عالم الميديا المتعددة من مفاهيم ومصطلحات ليس للذي ليس له باع فيه أن يجد مكانته أو يجد روحه كما يقال. فبمقدار ما يدلّ عليه مصطلح (التدفّق) من قلّة أو كثرة في نفاذ الفعل الثقافي المرتبط بوسائل الاتصال المتعددة، فإن ذلك سيرتبط مباشرة بالكيفية وبالطريقة التي يتعامل بهما المثقف المعاصر مع المواضيع التي هو متخصص في معالجتها. ومثلما أن هناك شبكات التدفق العالي في عالم (النتّ)، وهو الوسيلة الأساسية والثورية في عالم (الميديا) المتعدد، فإن هناك مثقفا ذا تدفّق عالٍ في إنتاجه للمعرفة وهي تتحقّق في راهنية إبداعه لها، وفي آنية استهلاك الجماهير لما تحمله من قيم متجدّدة أُنتِجت في لحظتها.
ولعل التوصيف الدقيق الذي أعطاه المفكرون لعصر الميديا الذي نعيشه هو تسميته بـ(الثورة التكنولوجية) التي غيرت مجرى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد تماما مثلما غيرت (الثورة الصناعية) مجرى العالم في القرنين السابع عشر والثامن عشر. إنه عصر مرتبط بثلاثة عناصر على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة وهي أن عصرنا هذا هو: عصر آنية المعرفة، عصر البرهنة بالصورة، وعصر الاستهلاك اللامتناهي.
لقد كان لابد للمثقف المعاصر أن يتأقلم مجبرا مع هذه العناصر الثلاثة من أجل أن يؤصّل للفعل الثقافي كما تبلوره الآليات التي تؤطرها معرفيا وتكنولوجيا، والتي مكّنت من تحقّق العناصر الثلاثة في حياتنا اليومية. إنه فعل أبعد ما يكون عن المفهوم التقليدي المعروف الذي قطع به المثقف التقليدي مسارات القرن الماضي. فعلى غرار المثقف ذي التدفق العالي، يصفُ بعضُهم المثقف الميديوي الفاعل بالصفات نفسها التي تتميز بها محركات البحث المشهورة، كما أن هناك تداخلا دلاليا يأخذ معناه في الواقع أنتجه واقع التعامل مع الميديا بين معنى (Le Fournisseur d’accès) ومعنى ( Le Fournisseur d’idée).
لقد غيّر المعطى التكنولوجي بثورته المستديمة أصول المفاهيم المتعلقة بالمثقف كما حدّدتها الفلسفات القديمة أو الفلسفات التي أنتجت المعرفة الحداثية الغربية منذ القرون الوسطى. فلم تعد أطروحات مفاهيم المثقف التقليدي أو المثقف العضوي تعني شيئا بالنظر إلى أطروحة المثقف الفاعل، الذي لا يمكن أن يكون كاتبا أو شاعرا أو سياسيا أو فنانا بالضرورة، ورغم ذلك فإنه يؤثر بدرجة بالغة في المسارات الثقافية من خلال المشاركة الفاعلة في إنتاجها بوسائل اتصال غير تقليدية تذهب مباشرة إلى الهدف المراد تحقيقه من دون أن تمضي عمرها في دهاليز الحجز أو الرقابة أو المنع كما كان سابقا مع ما كان يتعرض له الكِتاب أو المسرح أو السينما.
لقد خلق عصر الصورة في تعالُقِهَا المباشر والآني مع المستهلك أطرا ثقافية كان لابد للمثقف في عصرنا الحالي أن يعي طرائق استعمالها ومدى خطورتها في إيصال ما ينتجه من قيم فكرية وثقافية وجمالية، وذلك من أجل أن يبني مركزيته التي كانت تستأثر بها الوسائل التقليدية كالكِتاب والصحافة والتلفزيون، ويجد فيها المثقف التقليدي حماية لذاته ولانتمائه يأوي إليها وقت الحاجة.
ربما كان الخطر كل الخطر في ما يمكن أن ينتجه التعامل مع الوسائل المعاصرة من قيم لا تتلاءم بالضرورة مع قيم مجتمعاتنا العربية التي لا يزال فيها المثقف التقليدي يعتقد أنها ليست خطيرة على وجوده وهو يستسلم كعادته لعدم فهمها وعدم التحكم في مساراتها. لقد حوّلت المركزيات المعاصرة، كما يقترحها ما تنتجه بدايات القرن الواحد والعشرين من أفكار ثورية، المحمياتِ الدينية والثقافية والإيديولوجية التي كانت تتمتع بالحصانة والتقديس نظرا لما تختزنه من أرث فكري ثقيل وتراث معرفي أثقل داخل أبراج الثقافة التقليدية، إلى محميات هشّة وقابلة للاندثار والذوبان أمام موجة التغيير العارمة التي يسبح فيها ملايير من البشر يوميا سباحة افتراضية ولكنها مؤثرة أيّما تأثير في هذه المحميات التي يختبئ داخلها مثقفو القيم والمدافعون عن الثوابت والمتشبثون بتلابيب التاريخ في رواياته الرسمية المتهالكة اختباءً لم يعد من الصعب على عصر الميديا أن يُسقط عن جسد الثقافة العربية العجوز ورقة التوت الساترة لعيوب تخلفه الرهيب أمام زحف الثورة التكنولوجية المعاصرة.

 

عبد الحفيظ بن جلولي/ كاتب وناقد

الميديا مجرد وعاء، ولن تكون فاعلة إلا إذا حقق المثقف تواجده داخل أنظمتها

المثقّف بصفته يتعامل مع الأفكار ويتوجّه بخطابه نحو الآخر، فهو بهذا المخطط يرسم وجوده داخل فضاء التواصل الذي يحقق له الفعالية كما يراها في أهمية الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين، ومن هنا كانت فكرة البحث عن وسائل الإعلام ضرورة ملحة ليتسع نطاق الأفكار فتحقق شموليتها في الزمن والمكان، ولقد تحقق مجتمع الإعلام لأول مرة في 1956، عندما تجاوز عدد المشتغلين في قطاع الخدمات المهتم بالإعلام عدد المستخدمين في قطاعات الإنتاج الأخرى حسب ما ورد في كتاب المهدي المنجرة «الحرب الحضارية الأولى». إنّ التعامل مع الأشياء والأفكار لا يمكن تقييمه إلا عن طريق الأثر المنتج، ومنه لا بد من طرح عدّة أسئلة، ومنها، هل المثقف فاعل ميدياويا إلى الدّرجة التي تجعله رقما مهمّا في معادلة الحركة المجتمعية؟ هل المثقف يتفاعل مع الميديا بالطريقة التي يكون فيها منحازا لأفكاره والقضايا الحيوية في مجتمعه؟ أم هل الميديا تمثل بالنّسبة له ذلك الحلم الطوباوي الذي عن طريقه يرى ذاته في مرآة الآخر؟ ما من شك من أنّ الميديا تحقق للمثقف الانتشار المأمول، لكن يبدو أن المثقف يرى أن ذلك هو المنتهى، بدليل أنّ حركة المجتمع لا تسير وفق الرؤى الميدياوية التي تخلق الرأي العام وتوجهه في الدول الغربية، والتوجيه يكون في أكثر الحالات لصالح تلك المجتمعات أي إيجابيا، عكس ما يحدث في المجتمعات المتخلفة التي تكون فيها الميديا موجّهة وفي خدمة «الواقف»، ولابد من الاعتراف أنّ المثقف ما زال في مجتمعاتنا تكبله أغلال السياسي، لذلك تصعب قضية الإحاطة بتعامله مع الميديا وإلى أي درجة يتفاعل معها، لأن السياسي يملك السلطة والأدوات التي تغطي على حركة المثقف داخل الميديا.
إن الوصف بالمثقف الميدياوي ليس مهما في ذاته، لأن تراكم المنجز في العالم هو الذي يفجر تسمياته ومصطلحاته، التي تكون حينها منطبقة على الفعل الميدياوي، لأنه يحقق الأثر في الواقع، وهذا ما نستطيع به قياس مدى التجاوب بين الميديا والمثقف، لأن الميديا في الأخير ما هي سوى وعاء، ولن تكون فاعلة إلا إذا حقق المثقف تواجده داخل أنظمتها، وهذا اللقاء أو التفاعل ينتج مفاهيمه الدالة والمنطبقة على حالة مجتمعية واقعية تكونت من خلال نشاط المثقف في تعامله مع الميديا لصالح واقع ما ومجتمع ما في حركته نحو أهدافه ونحو العالم، وهذا ما يعتبر مهما بالنسبة للمثقف داخل فضاء الميديا، لأنّ الإعلام حسب غريغوري باتسن هو «التباين الذي يصنع التباين»، وهو ما تبحث عنه الفعاليات المختلفة في المجتمع ومنها المثقف. عندما نبحث في العلاقة بين «المثقف الميدياوي» والحياة الثقافية، هنا لابد من تحديد مفهومنا للمثقف الميدياوي، أي ماذا نقصد بذلك، فإذا كان القصد هو انغماس المثقف في شبكة الميديا، فهذا لا يعود على الحياة الثقافية سوى بجرّها إلى فضاءات التواصل الاجتماعي مثلا، كما في شبكة الإنترنت للمحادثة و»التشات»، وحتى على المستوى المعرفي فلقد أصبحت هذه الميديا باعتبارها اليوم هي المهيمنة، وسيلة من وسائل الكسب السريع للتكديس المعرفي، وليس للابتكار المعرفي، لأن القطع واللصق هو ما تستفيده الثقافة من الميديا، لكن يبقى هناك استثناء، ولكنّه ليس الذي يخلق المبادرة، لأنّ تأثيره ضعيف جدا، أي ذلك الذي يعطي صورة مأمولة ومبتغاة للمثقف الميدياوي، الذي يحاول أن يكون فاعلا ضمن منظومة الفعل الثقافي الكوني.
تبدو لي صورة المثقف التقليدي أو الكلاسيكي كما أتخيّلها، وكما أنتجتها المفارقة في حدوث الطفرات في واقعنا الثقافي، إنه الحامل للكتاب الورقي والكاتب بالقلم، وهو ما نتصوره. حسب اعتقادي، في مقابل «المثقف الميدياوي»، الحامل للكومبيوتر، وبالضرورة يمكن للتصور الذي يتعامل مع الميديا على أساس أنها جهاز لا بد أن يحضر لتتحقق صورة النقلة من الكلاسيكية أو التقليدية إلى الميدياوية، أن يضع تصنيفا للمثقف التقليدي والميدياوي، لكن هذا التصوّر يتهاوى على جدار ما نلمحه ونتثبت من متابعته في المجتمعات التي أنتجت ثقافة الميديا نفسها وحرّكت مفاعيلها وطوّرت مفاهيمها ومصطلحاتها، فلا نجد لمثل هذه التصوّرات من أثر، لأنّ مفهوم المثقف التاريخي يلغي مفهوم المثقف الكلاسيكي على أساس التراكم الذي ينتج الحركة، وليس القطيعة التي تنتج المسخ، فتاريخية المثقف هي تراكم التصورات التي تغذي وترفد حركته ليكون في الأخير ميدياويا لأنه ناضل حتى ينجز صورته في الواقع وفي التاريخ.
أخيرا لا يمكن أن نفصل صورة المثقف الجزائري عن سياق المثقف في العالم الباحث عن النمو، لأنّ التصورات التي تنتج الأفكار حوله هي ذاتها ما دامت تخضع لميكانيزم مجتمعي لا ينتج تصوراته بقدر ما يتماهى مع صورها الوافدة.

 

محمد بن زيان/ باحث وناقد

الفضاء المحوري الذي يجذب ويحتضن المثقف

المثقف الجزائري، لا يشذ غالبا عن بقية مثقفي العالم في التعامل مع الميديا بوسائطها التقليدية والجديدة، لكن الظروف الخاصة بنا جعلت الميديا تقريبا الفضاء المحوري الذي يجذب ويحتضن المثقفين، فنحن نعيش رغم كل المهرجانات والمواسم بؤسا ثقافيا وغيابا لفضاءات الفعالية والتواصل. وفي سياق التعاطي هناك من يندرج ضمن من يحتويهم توصيف المثقف الميدياوي، وفي مختلف أنحاء العالم أسماء يرتبط حضورها بالحضور في الميديا، حضورا مماثلا لحضور نجوم الفن والرياضة، ولقد انتبه خبراء ومفكرون لتحدي الميديا ونشروا التحذيرات، ومنهم عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو والمفكر بودريار، ونذكر عربيا مثلا ما كتبه الغذامي في «الفقيه الفضائي»، و»الثقافة التلفزيونية سقوط النخبة وبروز الشعبي». لمنتوج الميديا تأثيره الذي لا يمكن الغفلة عنه، تأثير متعدد، ومن تأثيراته الإغراق في تفاصيل ينفلت بكثافتها المعنى، وبسبب اعتباراته يعم التسرع للتكيف مع المستجدات فتكثر الزلل وتتكرس السطحية، وبقدر طغيان الضوء يتفشى العمى، وبقدر الضجيج يغيب صوت اللغة التي تحمل الدال .
وبدون الدخول في التفاصيل نشير لما عرفته المنطقة العربية طيلة سنين ما سميّ بالربيع العربي، ما عرفته من تقولب أسماء فكرية وثقافية ودينية بقوالب صناعة وتسويق الميديا، وذلك لا يعني الغفلة عن أهمية الميديا، أهمية تثمر بفعالية ثقافية حقيقية تستثمر منجز الميديا بدون تبديد المعنى، ومن جهة أخرى تستثمر وسائط الميديا المنجز الثقافي لتضمين ما تقدمه آليات تحمي من متاهات التفاصيل. ووسائط الميديا تستقطب الكل، عولميين ومحليين، حداثيين وتقليديين، علمانيين وتيارات دينية، وبالتالي فالمثقف التقليدي أيضا حاضر، ولعل ذلك يدفع إلى وقفة عند مفارقات جديرة بالاعتبار في تداخل وتشابك بين ما سبق لبن نبي عرضه عن المعادلة المركبة للحضارة، فكثير من الأشياء تستعمل بعزلها عن الأفكار التي أنتجتها أو توظف في ما يتناقض مع المنطلق الفلسفي للمنجز التقني. المثقف الجزائري حاضر، والفيسبوك صار حاضنة لنقاشات غابت بغياب فضاءات ومنابر.

 

لونيس بن علي/ ناقد أدبي

زحف مخيف يشكل خطرا  على الوعي الفردي والميديا أصبحت تستخدم المثقف

ليس هناك ما أخاف منه أكثر من سطوة الميديا على وعينا الفردي، فهي مضادة –في طبعتها اليوم- لمفهوم الوعي الفردي الذي يمكن أن يميّز الأفراد عن بعضهم البعض. خطر الميديا هو في قدرتها على تعطيل إحساسنا بالفرادة، لنغدو مجرد كائنات أورويلية (نسبة إلى جورج أورويل الذي تخيّل شخصيات تخضع لسلطة الميديا في صناعة وعيها في روايته 1984)، تفتقد إلى تلك الخصوصيات التي تجعل الواحد منا قادرا على أن يكون هو وليس نسخة لنموذج ما. هكذا أتأمّل بحذر علاقة الميديا بنا، كفواعل اجتماعية وثقافية وإلى حد ما سياسية. أرى بكثير من الارتباك كيف أنّ استراتيجيات الميديا اليوم تلعب هذا الدور الخطير ليس في توجيه الوعي نحو مشترك محدّد، بل في صناعة ذلك الوعي، ليكون مجرد أداة طيّعة لتصديق أيّ شيء.
لقد حذّرنا بوديريار من هذا الزحف المخيف للميديا وثقافتها، لأن خطرها يكمن هنا في إعادة تشكيل الحقيقة، وتحويل الزيف إلى بديل مقنع عن حقيقة لن تكون بعد اليوم تاريخية بل ميدياتيكية. قال ذات مرة أن حرب الخليج الأولى جرت وقائعها في قناة السي إن إن، وكان محقا في ذلك، لأنّه يكشف لنا كيف أن الميديا بكل وسائطها لم تعد مهتمة تماما بنقل الخبر أو الحدث، بمقدار اهتمامها بصناعته.  الميديا مؤسسة لصناعة التاريخ، لصناعة الأفكار، لصناعة الأفراد، أقصد لصناعة وعي أحادي يجمعنا جميعا تحت سقفها الذي يدنو من رؤوسنا كثيرا.
أتصوّر أن الميديا صنعت كمال دواد، كما صنعت حمداش، كما صنعت ميشال أونفري، كما صنعت كذلك برنارد هنري ليفي. الميديا صنعت الحروب والأزمات، وصنعت الخوف الدائم بأننا على وشك أن نضع حدا لوجودنا البشري على أرض يبدو أنها لا تتسع لنا جميعا. الميديا صنعت أحداث 11 سبتمبر، وصنعت كل ذلك الرعب أو ذلك الإحساس بالضعف أمام آلة الموت، صنعت داعش، وداعش اليوم تصنع من خلال الميديا البديل الأسطوري لمملكة الخلافة واستعادة فردوس المسلمين المنسية، ولو على طريق محفوفة بالجثث. ماذا عن المثقف؟ أصبحنا نراه ضيفا على بلاطوهات التلفزيون، يناقش، يحاور، يندد، يصمت، يزيف، يقول شيئا ما، صرنا نراه أكثر من أي وقت مضى، لكن لا أدري إن كانت الصورة قد خدمته وأخرجته من مكتبه أو مقهاه أو حانته أو جامعته؟ ما أشاهده من نقاشات كثيرا ما تصف نفسها بأنها نخبوية، لا تقنع تماما، لماذا؟ لأننا انتقلنا من مرحلة يكون فيها المثقف هو من يستغل الميديا لكي ينشر أفكاره إلى مرحلة أصبحت الميديا هي من يستغل أفكاره لأغراض تخدم إيديولوجيا ما.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com