جعلت عودة الإصدارات في فن القصة القصيرة هذا العام المتتبعين للشأن الثقافي والأدبي يتساءلون عن ملامح هذه العودة، وهل هي حقا عودة تنتصر لهذا الفن الّذي اختفى لأعوام طويلة وترك مكانته شاغرة وغير مؤثثة بالإصدارات والكتب، أم هي فقط عودة عارضة وطارئة أرادت أن تتزامن مع معرض الجزائر الدولي للكتاب، ثم تنزوي في خفوتها، وكأنّ لا شمس للقصة القصيرة في سماء الجزائر.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
حول هذا الشأن، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع - 3 - كتاب، لديهم تجارب مختلفة في كتابة القصة، وظلوا على نفس الوفاء والشغف لهذا الفنّ. شهادات تباينت في الفكرة والطرح و وجهات النظر، وانتصرت بشكلٍ أو بآخر لفن القصة القصيرة.
محمد جعفر: قاص وروائي
القصة تعاني من ضعف الاهتمام النقدي والأكاديمي
الحق أنّ القصة والكتابة عامة تشهد في السنوات الأخيرة دفعة كبيرة في الجزائر. ومع ذلك لا يسعنا إلاّ أن نتساءل، هل تكفي الإصدارات والعدد الكبير للمجاميع القصصية المنشورة لنقول أنّنا نشهد عودة للقصّة القصيرة؟ ثمّ هل سيكتب لهذه العودة الاستمرارية أم ستعرف نكوصا؟ ثم ماذا قدمنا لها (هذه العودة) من رعاية واحتضان حتى لا تكون مجرّد طفرة تؤول إلى التراجع متى تغيرت مسبباتها؟ وهل ما يحصل هو نتيجة وعي بهذا الفنّ ووليد الضرورة أم أنّه نتاج الرغبة في النشر وبأقل تكلفة، ما دامت القصة لا تتطلب ذلك الجهد الّذي تتطلبه الرّواية مثلا. هذا بنظر البعض طبعا؟ ثمّ ما مكانة هذا الجنس الكتابي مقارنة بالأجناس الأخرى؟ وهل سيظل كاتب القصة القصيرة محرجا يشعر بالتهميش والدونية؟ ثم هل كلّ ما ينشر يستحق القراءة؟ وما هو حجم الأعمال الجادة والتي نملكها حتى يصح لنا القول بأنّنا نملك أدبا قصصيا؟
الحقيقة أسئلة كثيرة ومتشعبة تراودني. منها سؤال: القصة/التأريخ. فهل يمكننا اليوم الحديث عن فن القصة دون التطرق إلى تاريخه والمسار الّذي قطعه منذ النشأة وإلى يومنا الحالي؟ وهل يستطيع الكاتب الإبداع فيه دون حاجته إلى المعرفة بهذا التاريخ ودون أن يقف على حجم التطوّر الحاصل في هذا الفنّ؟ ثمّ هل الكتابة هنا هي استكمال لمراحل سابقة (عن وعي وإدراك)، أم أنّ هذا غير مهم، ورصد التجارب ورصها كيفما كانت هو المهم؟ لا يمكن النظر إلى أي تجربة ابتداء من راهنها، فهو ليس إلاّ إفرازا لها.
تبقى القصة بين فكي التقليد والتجريب، إذ لا يزال البعض يكتب القصة بشكل اعتباطي غير احترافي، مدفوعا باللحظة الآنية ورغبته في التعبير عما يعتريه دون فحص أو معالجة ودون بحث في المتاح والممكن. وبرأيي أن جدلية الشكل والمضمون تأخذ أبعادها القصوى في فن القصة. ولطالما كان هذا الفن حقل تجارب خاض فيه كِبار الكتاب والمنظرين. وكما يمكنه أن يكون أهمّ رافد للكاتب فإنّه يمكنه أن يكون أكبر عائق في وجه الكتابة. وعلى القاص أن يبحث عن أساليب جديدة للتعبير عن مقاصده، وبالشكل الّذي يضيف إلى خصوصية هذا الفن، وبعيدا عن الاستسهال والنمط الدارج. وبهذه الطريقة وحدها يتطوّر هذا الفن وينفض عنه الهُزال الّذي أصابه، وينتعش بدماء حية جديدة تشكل حلقة إضافية ونقلة نوعية يمكن أن تتكئ عليها الأجيال القادمة. وما السبيل الوحيد لذلك إلاّ بالوقوف ضدّ السائد وبالانفتاح على المختلف وعلى التجريب كلية.
كما هو معروف، يتجه القارئ اليوم نحو الرّواية رغبة منه في عيش المغامرة والمتعة والتي لا تكتمل أجزاؤها إلاّ مع هذا الفن الّذي صار موضة العصر. وإذا كانت الرّواية تنحو باتجاه المباشرة والمكاشفة فإنّ القصة القصيرة تكتفي باستكشاف اللحظة وغالبا يكون ما تقوله مواربا لتأتي المتعة فيها بسيطة وحبيسة الموقف. والحق أنّ القصة وبانهيار الصحافة فقدت أهمّ رافد لها وفقدت التأثير الّذي كانت تمارسه قبل عشرين أو ثلاثين سنة خلت. وهكذا ضعف أثرها وتأثيرها وفقد كتابها السطوة التي كانوا يمتلكونها. ووجب عليهم أن يبحثوا عن قارئ جديد ومختلف لكن صعوبة النشر وتسويق المجاميع جعلت رهانهم ضعيفا هذه المرّة أيضا. ومع الوسائط الاجتماعية اعتقد كثيرون أنّ السُبل انفتحت مجددا وأنّ ألق القصة سيعود خصوصا لطبيعة هذه الوسائط وانفتاحها على العالم كافة وقدرتها على الوصول إلى أكبر شريحة من القراء، لكن الفوضى التي عمت هذه الوسائط هي نفسها التي تجعل إمكاناتها محدودة ورهانات الكتاب فيها تخضع لمزاجية القارئ الّذي لا ثقافة له وهو الشريحة الغالبة وصاحب الحُكم القاطع. لتبقى القصة رهينة فئة قليلة من القلة التي تقرأ اليوم وهم غالبيتهم من أهل الاختصاص.
أيضا، صار النقد اليوم موجها بالكامل نحو الرّواية. ولهذا ليس عجيبا أن نجد الكتاب يحجون باتجاه هذا الفن كتابةً، لأنّه المجال الوحيد الّذي يُسلط عليه الضوء ويُحظى بالمتابعة والاهتمام. وإن كانت الرّواية بجمهورها وترسانة النقد المتحلق حولها تشتكي غياب التفاعل والمتابعة، فماذا عن باقي الفنون الأخرى والتي من بينها القصة؟ من يقاربها اليوم؟ ومن يهتم لشأنها؟ ومن يشجع الكتاب فيها ويأخذ بيدهم؟
كذلك ضاعت القصة بين تحيز المؤسسة الرسمية والنقد المحابي والإعلام المزمر لأسماء بعينها. وكثير من الأسماء المبدعة مغمورة اليوم وتركن إلى الظل مجبرة بعدما عدمت كلّ وسيلة للإعلان عن نفسها وما تكتبه.
ثمّ إنّ هذا النقد متى وجد فإنّه يعاني من اختلالات عديدة لعلّ أبرزها النقد الأكاديمي المنغلق على نفسه، فهو لا يسهم في التأثير على الجمهور العام، ولا يسعى للارتقاء به. ثمّ إنّ غياب المجلات الثقافية والإعلام المتخصص يساعد في طغيان أشباه الكتاب والمتسلقين.
أحيانا نتساءل: هل تسهم الجوائز بالارتقاء بفن القصة وفي تطوير الفنون الإبداعية؟ الإجابة السهلة هي نعم. لكن الجوائز أيضا تسهم في حلحلة الوضع، كما تسهم في تكريس الأنماط الكتابية نفسها ما دامت تتهيب الجديد والتجريب. كما أنّها خلقت نموذجا معينا من الكتاب. أولئك الساعون إلى الأضواء لتصير الكتابة والتي ولدت كغاية مجرّد وسيلة لديهم لأغراض أخرى.
كذلك هل لا تزال القصة اليوم تنهل من التجارب العالمية؟ وهل ما يترجم إلى العربية من القصة هو نفسه ما يترجم من الفنون الأخرى؟ وهل هو بنفس المستوى؟ ولعل ملاحظة صغيرة قد تكشف عن الوضع. فالفائز بجائزة نوبل لهذا العام «كازو ايشوجورو» له إصدارات في فن الرّواية والقصة لنكتشف أنّ العديد من أعماله الروائية مترجم إلى العربية بينما لم تتم ترجمة ولا مجموعة قصصية لهذا الكاتب، وأغلب الظن أنّه وبعد فوزه بالجائزة ستحظى أعماله الروائية المتبقية بالترجمة والنقد بينما لن يلتفت أحد لما أبدعه في فن القصة. وهذا إذ يكشف فإنّه يكشف عن جزء من المعادلة اللا عادلة والتي تعامل بها الفنون عندنا. كما يؤكد بأنّنا غير ملمين بآخر ما يصدر لدى الغرب في القصة، ولا ندرك حجم التطوّر الحقيقي الحاصل في هذا الفن على مستوى العالم.
يبقى أنّ أكبر عائق اليوم والّذي يعترض ازدهار فن القصة أو أكبر طابو تعانيه هو الأساليب الكتابية الدارجة، بما تفرضه من سلطة وسطوة، بحيث صار من الصعب اختراقها. إنّك ومتى حاولت التخلص من التبعية لها، وأصررت على أن يكون لك أسلوبك الخاص والمستقل ورؤيتك المختلفة ركنت على جنب وهذا إذا لم تحارَب. فالقارئ وحتى المُتخصص منه محكوم بالتبعية للدارج والمألوف والسائد والمكرس مهما ادعى غير ذلك. كذلك تعاني القصة من ضعف الاهتمام النقدي والأكاديمي وغياب المراجعات في الصحف والمجلات المتخصصة والإعلام والمؤسسات الرسمية.
يبقى الإشكال، أنّنا لم نملك في الجزائر قاصا مخلصا لهذا الفن، وجل من عرفناهم يتنقلون ما بين القصة والفنون الكتابية الأخرى.
لقد ارتبط ظهور القصة بالصحافة. ومعها شهدت أوج ازدهارها وعظمتها وتسيد كتابها المشهد الأدبي لعقود طويلة، وصاروا محل منافسة شديدة وتستكتبهم أهم وأكبر الجرائد. بغياب هذه الأخيرة ضعف الإقبال على القصة، ولم يسعف النشر ضمن المجاميع الكتاب ونجد أن المكرسين وحدهم والذين يخضع التسويق لأعمالهم على بريق الاسم من يمكنهم النشر اليوم. إذ تظل دور النشر الكبيرة ترفض نشر القصة ومتى فعلت اعتقدت أنّها تغامر بذلك. كذلك زادت الوسائط الاجتماعية من معاناة هذا الفن نتيجة الهزال الذي يعرض عليها وتردي الذائقة، فالنصوص فيها غير خاضعة لسلطة الرقيب المتمكن والضليع والّذي ظلّ يفصل بين الجيّد والرديء. وطبعا يظل هذا الفن يتسم بالجدة ولا يقبل التكرار والاجترار، وهو يدعو دائما للبحث والكشف عن إمكانات جديدة (على مستوى البناء) لمساءلة هذا الواقع الهش ومتى تمكن منها الكاتب تحقق له النجاح والفرادة.
في الأخير، أحب أن أضيف إنّه وانطلاقا من وعيي الكامل بكلّ ما أدرجته هنا، جاءت مجموعتي الأخيرة «ابتكار الألم». وأعتقد أني كنت أكثر حرصا ووفاء لهذا الفن في هذه المجموعة، وقد كانت رغبتي أن أستكمل المشروع من حيث انتهى به الجيل الّذي يسبقني مباشرة. وكان همّي حقا أن أبحث عن إمكانات جديدة للقول.
بشير خلف: قاص
لم تفقد وجودها وتألقها
إنّ القصّة القصيرة بخير، ولا تزال تُــنتج، وتُكتب بكثافة عالية في معظم الثقافات العالمية بِمّا في ذلك العالم العربي، كما أنّها تُقرأ وتـُنشر في صحف، ومجلات، ومواقع إلكترونية وفي شكل مجموعات قصصية. أجل إنّها تنتج وتكتب بكثافة في كلّ الثقافات العالمية، وتنظم لها الجوائز والمسابقات، فالعديد من المسابقات والجوائز العربية والدولية تُــنظم كلّ سنة في العديد من البلدان شرقا وغربا؛ وقد وجهت الأنظار مجددا إلى فنّ القصّة القصيرة بعد ما فازت الأديبة الكندية «أليس مونرو» سنة 2013 بجائزة نوبل للآداب عن إبداعها القصصي، وقد جاء في وصفها بأنّها «سيدة القصّة القصيرة المعاصرة» حيث أعاد فوزُها المجدَ لأدب القصّة القصيرة، ولفت الأنظارَ إلى قوام القصّة القصيرة في العصر الحديث، الّذي شهد تنافسا شديدا بين الرّواية والقصّة القصيرة.
هي فنٌّ جامع يقدم إمتاعا فنيا راقيا يأخذ من الشّعر «الصور الشِّعرية»، ومن الرّواية، «الحدث والشخوص»، ومن المسرح «الحوار»، ومن المقال «منطقية السرد»، ومن السينما «طريقة الاسترجاع». وكما هو معروف لدى كُتابها، والنقّاد أنّها فنٌّ صعب لأنّها تتطلب التركيز، وتكثيف اللّغة. وبلغت من التجديد أن ظهرت القصّة القصيرة جدا التي تعتمد على التكثيف اللغوي الشديد. إنّ القصّة القصيرة فــنٌّ مراوغ وحصانٌ جامحٌ، لا بدّ له من قائد بارع وماهر، يستطيع أن يروض هذا الفنّ المشاكس، والمراوغ معاً، وهكذا لا بدّ من أن يتمكن الكاتب من كبح جماح فرس القصّة القصيرة.
يبقى أنّ القصّة القصيرة تحتاج متلقيا ومثقفا وجادّا مدرّبا، فالنّص القصصي يقدّم نفسه كمحفّز متعدّد الطبقات ومتعدّد الدلالات، ولذلك فهو فنٌّ صعب التلقي، يحتاج إلى قارئ مدرّب ومثقف، يستمتع بسبر أغوار النّص لا تلقيه السلبيّ وحسب. لكن ما هو مُتاح ومُتوّفر في الرّواية غير مُتاح في القصة، وقد وجدَت صناعة النشر في الرّواية إمكانية التسليع، وإمكانية تسويقها على نطاق واسع، الرّواية سهلة التلقي، مُشوّقة، يستطيع قارئها أن يتمثّل أو يجد نفسه في شخوصها، وتشكل عالماً بديلاً عن الواقع، وتنبني علاقة القارئ معها ببطء وبتمهل وبكامل التفاصيل. القصّة صعبة التلقّي، قد لا يستطيع القارئ التوحّد مع شخوصها لأنّهم غالباً ما يكونون من الفئات «المُهمّشة» أو «المغمورة»، بحسب القاص، والناقد الإرلندي فرانك أوكونر(1903/1966)، مع ملاحظة أنّ السرد القصصي بطبيعته «الداخلية» والاختزالية لا يتيح للقارئ العادي أن يجد نفسه فيه، خصوصاً أنّه لا يمثّل أبداً عوالم بديلة، بل غالباً ما يكون حفراً في عالم البشر البشع. لهذا نجحت الرّواية في امتحان «السوق»، بينما فشلت فيه القصّة والشّعر، هذا مع التشديد على أنّ الفنّ والسلعة شيئان مختلفان بل ومتناقضان، وأي فنّ يتحوّل إلى سلعة يفقد مباشرة قيمته الفنيّة. إنّ القصّة القصيرة والرّواية طبعا، رافدان أساسيان من روافد السرد لا يُلغي أحدُهما الآخر. ذلك أنّ من مميزات القصّة سرعة قراءتها، بينما تتميز الرّواية بالإلمام بسعة الموضوع وطول وقت قراءتها.
ليس غريبا أن يظهر جنس أدبي تستدعيه ظروف خاصة، وتسرع في إيجاده، فيقبل عليه كثير من المبدعين، لأنّه يُناسب الوضعية التي يحيونها، ويُقبل عليه المتلقّون من جهة، ويناسب حجم المساحة المتاحة للنشر من جهة أخرى، وهذا واقع الرّواية اليوم، وليس معنى هذا أنّ بتسيُّــد هذا الجنس تختفي القصّة، ويموت النصّ المسرحي، ويتوارى القصيد الشعريّ.
يبقى السؤال: هل انتهى الفنّ السردي القصصي؟. واقع الساحة الأدبية يؤكد وجود عدد لا بأس به من المخلصين لفنّ القصّة القصيرة على امتداد الجغرافيا الجزائرية، لم يهجروا كتابتها يوما، وبعضهم لم يكتب من ألوان الأدب سواها. وهو ما أسهم بشكل أو بآخر في تجديد طرق كتابتها، وتنوع في أساليبها وموضوعاتها ومضامينها، وقد استفاد كُتابها الجدد من الفنون الأدبية المختلفة.
فالصحافة التي شجعت ظهور القصّة القصيرة وازدهارها، ما تزال في حاجة لها لتُشبع نهم القرّاء الذين يستمتعون بها، حتى في الصحافة الإلكترونية. وتشير الدراسات الإحصائية، في أمريكا مثلاً، إلى أنّ ما يُنشَر من القصص القصيرة سنوياً يفوق بكثير ما يُنشر من الروايات، وأنّ ما يُرصَد من جوائز للقصّة القصيرة أكثر بكثير من جوائز الرّواية. مع الاعتراف أنّ القصة القصيرة ملائمة لروح عصر السرعة، الّذي فرض تناسلها فولدت في أحضانها القصّة القصيرة جداً.
وعلى غرار العالم العربي الكثير من كتاب القصة القصيرة في الجزائر قد تحولوا بعد تجربة متباينة زمنيا إلى كتابة الرواية، ومن هنا كانت الكتابة في هذا الجنس الأدبي -القصّة القصيرة- مَعبرا إبداعيا إلى جنس آخر -الرّواية- لسبب أو لآخر، حتى الرواد كالطاهر وطار، عبد الحميد بن هدوقة، زهور ونيسي، انطلقوا من القصّة القصيرة إلى الرّواية؛ وكذلك جيل مجلة «آمال» كأمين الزاوي، واسيني الأعرج، الحبيب السايح، وغيرهم انطلقوا من القصّة. والأمثلة كثيرة على هذا التحوّل من جنس إلى آخر خاصّة إلى الرّواية من بعد كتابة القصّة. واعتقد أنّ الدوافع متباينة من كاتب -متنقل- إلى آخر، فالبعض غامر في انتقاله على أساس التجريب، والبعض على أساس ضيقٍ شَعرَ به في جنس واحد غير قادر على احتواء ذواته، وآفاقه التخييلية، كما لا ننكر أنّ البعض ذهب إلى الرّواية منجذبا بتيار الموضة الإبداعية من منطلق أنّ الرّواية ديوان هذا العصر وذلك ما صرح به كثير من كُتاب القصة وحتى الشعراء.
ولكن برغم هذا الرحيل الجماعي إلى عوالم الرّواية فإنّه يبقى للقصة سموها، جمالياتها وأسئلتها التي تطرحها ومراميها التي تتناولها بخصوصياتها، وقد وعى هذا كثير من القصاصين الجزائريين المعاصرين وأبدعوا أيّما إبداع شكلا ومضمونا في هذا الفضاء القصصي، وشهدت القصة القصيرة بهم تطورا محسوسا خاصة بعد أكتوبر 1988 حيث انفتح هذا الجنس الأدبي على كثير من الآفاق والرؤى بوعي، مثلما ظهر جيل جديد اكتسح فضاء الرّواية ولا يزال. وإذا ما دققنا النظر في مشهدنا الأدبي نجد أنّ الجزائر تستعيد نشاطها القصصي عبر عودة كُتاب كبار تركوها بعد أن كانت فاتحة مشوارهم. وقد عادوا إليها أخيرا. غير أنّ التسويق الإعلامي للرّواية طمس هذه العودة. إنّ القصة القصيرة بكل تأكيد مازال لها جمهورها العريض من القراء، كذلك لا تزال القصص القصيرة تحتل صدارة الدوريات الأدبية، مِما يدل على أنّ جمهور القصة القصيرة لا يزال بخير، وأنّ القصة القصيرة بخير.
عبد الوهاب عيساوي: قاص وروائي
لم تختف القصة القصيرة كنتاج و هناك دائما كتّابٌ أوفياء لها
لا أدري إن كانت هناك جدوى من الكلام عن القصة في بلد لا يتوفّر على مجلّات ثقافية، وحتى الصفحات التي تُعنى بالثقافة تتضاءل كلّ يوم وتختفي من الجرائد. والناشرون صار أغلبهم يعزفُ عن نشر المجموعات القصصية، ولا أدري أيضا هل يمكن الحديث عن القصة القصيرة وهناك عجز في التوزيع عند أغلب الدور أمّا التي توزع فلا تكاد تجد للكتاب قارئًا. لقد صار الكُتاب لا يقرأون إلاّ لأنفسهم.
قد أكون متشائمًا غير أنّ جزءًا لا يُستهان به من هذه الأشياء المؤسفة أراها بشكل يومي، ولولا الوهج الّذي يرسله بعض الكتاب حين يعيدون به بعث هذه الرّوح لانسحب من تبقّى في المشهد، فلِمن يكتب الكاتب إن كان ليس في مقدوره أن يُحصِّل قارئًا يُحدِث تفاعلا ولو ضئيلًا مع ما يكتبه.
هل عادت القصة القصيرة؟ لم تختف القصة القصيرة كنتاج، بل كان هناك دائما كتّابٌ أوفياء لها على غرار الأستاذ القدير بشير خلف، مثلما كان هناك دائما نقاد يشتغلون عليها كالدكتور عامر مخلوف. أمّا ما حدث مؤخرًا فأراه التفاتة إعلامية لظاهرة طالما كانت موجودة ولكنّه لم يُعنَ بها كما ينبغي فقط.
كوجهة نظر أرى أنّ النقد الحقيقي هو ذلك الّذي يشتغل على مستويين في اللحظة نفسها. المستوى المعرفي والبنائي للنصوص، ومن جهة أخرى أن يُدني النّص الإبداعي من القارئ ويجعله يبحث عن النصوص الجميلة، ويتم ذلك بمراجعات دورية لكلّ إصدار جديد. غير أنّ القليل فقط من انتبه إلى هذا المأزق الّذي نعيشه في علاقة الفرد بالكتاب وأصبح النقد -ليس كلّه- يميل إلى المكننة في تفاعله مع النصوص، وبالتالي يُطرح السؤال هنا: ما الجدوى من هذا النوع من النقد، وإلى من هو موجه؟
والمُلاحظ أنّه في السنوات الأخيرة قد تراجع النقد الّذي يهتم بالقصة، وانزاح لصالح الرّواية ولا أظن أنّ هذا منوط بالنقاد وحدهم بل أيضا بالكتاب، فالكثير منهم انسحب تجاه الرّواية بعد انتشارها أكثر في العالم العربي إثر استحداث الكثير من الجوائز.
لا أعتقد بموت جنس تعبيري معين إلاّ إن كان هذا الجنس مُنغلقًا على نفسه داخل منظومة لغوية أو أيديولوجية معينة، وبالتالي يختفي هذا الجنس ما إن تختفي ضرورات وجوده.
وبالنسبة للقصة لم تنقطع هذه الضرورات بل ما زالت تستوعب ممكنات الحياة المتنوعة ولو بقدر أقل منه في الرّواية، ولكنّها في كثافتها أقدر على استيعاب لحظات التشظّي الهويّاتي والاجتماعي الّذي يعيشه الفرد الجزائري، وربّما الفكرة الأخيرة هي التي ستجعل لمستقبل القصة معالم واضحة