مسعود غراب
عندما تضعف الحالة السياسية في مجتمع ما، ابتداء من الخلايا الأساسية في المجتمع، وهي الخلايا البسيطة فيه، هي المؤسسات النواتية الأولى التي تنبع منها حياة المجتمع وتنمو فيه وتتطّور وتتغيّر، هذه الخلايا تتمثل في: الأسرة، المدرسة، وفِرق الرياضة، وأفواج الكشافة، ونوادي الثقافة، ودور الشباب، والمساجد، والجمعيات السياسيّة (الأحزاب)، والثقافيّة، وغيرها..،
هذه المُؤسسات الخلية، يمكن أن تأخذ صورا مُنظمة أو عشوائية، وتزيد وتنقص، تتمايز وتتشابك، تبعًا لدرجة التمدّن وتوسّع العمران والتحضّر، فتصل إلى هذه الخلايا إلى الجامعة ومراكز البحث العلمي ومدارس الفنون، ومنابر الإعلام بكلّ أنواعها مكتوبة ومسموعة ومرئية، إلى الشبكات العنكبوتية، ومُختلف وسائط التواصل الاجتماعي والافتراضي..، وتأخذ هذه الخلايا أشكالا قد تتجمع فيها الفروع في مراكز، والوحدات في تجمعات.. فحالة الضُعف و»الهبوط» التي يتسّم بها الجزء تنعكس على الكل، أو هي التي تُشكّل في النهاية حالة الضُعف الكلي، لسنا هنا بصدّد الخوض في جدلية التأثير والتأثر بين الجزء والكل، فالمشهد بكلّ أبعاده فيه الكثير من التداخل والتركيب والتعقيد.
عندما تضعف الحالة السياسية باعتبارها واجهة المجتمع، تتخلّف الحياة الرّسمية، وتقتدي بها الحياة الشعبية وينعكس ذلك على سلوك الفرد، وتتخذ لها صورا مُتعددّة في المُجتمع تتقارب وتتنافر..، وتختلف مستويات الاقتداء تبعا للقدرات والمهارات الفردية، و وفقا لما يتبقى من العلائق الاجتماعية، وإن كان اقتداء التخلّف والسير وفق المسار الهابط، واقتفاء أثره هو من السهولة بمكان، فهو يفتقد للرؤية وللهدف وللخُطط والوسائل والمناهج التي تُؤدي إليه، فالقدوة السيئة لا تتطلّب جهدا وعملا وصبرا وتربية وأفقا، فهي لا تحتاج لكل ذلك العناء المُمتع، مما هو قرين العمل الجادّ المُتقن والدؤوب. فالاقتداء السيئ لا يتطلّب غير ترك النفس على المنحدر. هذا المنحدر الّذي غالبًا ما يكون مزيّنا بالمغريات الشهيّة والأضواء الخاطفة.
في هذه الأجواء والظروف يلجأ آحاد الناس مِمن يحترمون العقل والجمال والفطرة الإنسانية، مِمن يُطلق عليهم مثقفون مبدعون، مفكرون، ينظرون ويتأمّلون، ويداعبون الحرف والريشة ليرسموا لوحات تمتزج بحبر الرّوح، وأنفاس أقلامهم الحرّة..، يلجأ هذا المبدع، والمثقف الحقيقي إلى السخرية والخيال، ويتستّر خلف الإيحاء والتلميح، ويفرّ للغموض والترميز، ومزيج الألوان، تاركًا ريشته مُطلقة جناحها في الفضاءات البعيدة، فيبدع كتابة خارقة وحارقة حدّ الجنون. فتكون اللّوحات غير اللوحات والكلمات غير الكلمات، وربّما لا ينتبه لذلك فلا يلتفت لتلك الكلمات ولا يُنظر لتلك اللوحات، إلاّ بعد أن تكون تاريخا يُؤسس لحياة جديدة، حياة جديدة بذورها الأولى هي هذه الكلمات التي تبعث الرّوح وتحيي الرميم، وتتجاوز اللّمم..
أمّا ما يظهر على السطح حينها، وعلى الأروقة المُوازية، وتُدفع به آلة سدّ الفراغ الثقافي، والكتابة المُنمّطة، على عديد المنابر والمهرجانات المُعلّبة، قد يكون مُجرّد صورة أخرى لحالة اهتراء الفكر السياسي واختلال الوعي الثقافي، و وجها آخر لعملة التخلّف والهبوط، بالرغم مِما قد يبدو من ضديّة وانتقاد بينهما.