لا يزال مركز التعذيب ببلدية الرواشد بولاية ميلة، يخفي الكثير من الأسرار و الحقائق المؤثرة التي تشهد على بشاعة الاستعمار الفرنسي وسياسة التعذيب الممنهجة التي مارسها ضد الجزائريين.
يسمونه «لاصاص»
يلاحظ الزائر لمركز التعذيب «برج البناية الحصينة»، الذي يقع وسط بلدية الرواشد، على بعد 30 كيلومترا غرب مقر الولاية أن المعلم لم يفقد رهبته رغم مرور السنين، إذ يكفي أن تلج ردهة أو ممرا، أو تدخل زنزانة التعذيب المتواجدة تحت الأرض، أو نقاط الاستنطاق، لتتخيل الظروف القاسية التي عاشها المساجين في الفترة الاستعمارية تحت وطأة التعذيب والقهر النفسي .
زارت النصر، هذا المعلم التاريخي المشهور محليا باسم «لاصاص»، والذي تحكي جدران زنزاناته قصصا وروايات عمن مروا بها وأذاقهم الجيش الاستعماري الفرنسي ويلات العذاب، بل وتفنن في تعذيبهم، تحت قيادة الضابط توماس ميزوناف، والخبير في فن التعذيب خريج المدرسة العسكرية الفرنسية بسكيكدة آنذاك «جان دراك».
يقول أمين منظمة المجاهدين الولاية ميلة حسين هادف، إن سيئ الحظ فقط من سكان المنطقة وما جاورها هو من كان يقع حينها في أيدي هذا المجرم وزبانيته من جنود المستعمر، الذين أدخلوا الرعب في نفوس الأهالي ببشاعة طقوس التعذيب التي كانت تمارس على المعتقلين وتتسرب إليهم، حتى ذاع الصيت السيئ لمعتقل التعذيب والاستنطاق بالرواشد.
يتربع البناء على مساحة إجمالية تقدر بـ 1656 مترا مربعا، و لا تزال بعض حجراته الرهيبة وأسواره القديمة شاهدة على مدى فظاعة الانتهاكات التي كانت تمارس هناك ضد الجزائريين، كما لا تزال بعض معالم هذا المبني كبرج المراقبة و الحجرات الإسمنتية المغلقة تنطق لغة الخوف والألم الذي يسكن أبسط التفاصيل، ويذكر بوحشية ممارسات الجيش الفرنسي الغاشم.
«البناية الحصينة» مأساة تمتد إلى مجاز 8 ماي 1945
أوضح مرافقنا المجاهد حسين هادف، خلال الجولة في مركز التعذيب، أنه كان نائب مسؤول الاقتصاد بالقسمة الثانية التابعة للمنطقة الأولى بالولاية الثانية ولا تزال ذاكرته تختزن الكثير، وأضاف صاحب 92 سنة، أن البناية الحصينة التي أنشأتها القوات الفرنسية كانت بداعي ضرب الثورة التحريرية في مقتل، وليس الغرض منها هو تعليم أبناء المستوطنين كما كان يقال أنداك. مشيرا، إلى أن صيت المركز ذاع خلال انتفاضة 8 ماي 1945، أين شهدت المنطقة الشمالية بالولاية على غرار دوار المنار ودوار تسدان (بلدية تسدان حدادة حاليا)، ومنطقة الروسية ( بلدية العياضي برباس )، بالإضافة إلى منطقة فرجيوة، هجومات كبيرة من طرف الثوار على الثكنات العسكرية الفرنسية والمستوطنين، انتقاما لضحايا المجازر الاستعمارية، التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب بكل من مناطق خراطة و سطيف وقالمة.
وقد دفع الأمر بالكولون المتواجدين شمال الإقليم بالتوجه نحو البرج الموجود بالرواشد للاختباء فيه، أين مكثوا مدة من الزمن إلى غاية اندلاع الثورة التحريرية، ليتحول بعدها مقر البناية يضيف محدثنا، إلى مقر للجيش الفرنسي ومركز للتعذيب والاستنطاق.
ويذكر ابن منطقة الرواشد، الذي التحق بصفوف الثورة وسنه لا يتجاوز 21 ربيعا، أن برج «البناية الحصينة»، كان عنوانا للتعذيب النفسي الذي سلطته القوة الاستعمارية على الجزائريين، وهو ما يتضح من خلال الزنزانة الضيقة المبنية تحت الأرض، والتي توصل إليها بضعة سلالم حجرية تم نحتها في الصخر، والمكان بعمومه عبارة عن قبو تحت الأرض لا تتعدي مساحته 3 أمتار على مترين، أين كان يتلذذ جنود وضباط بتعذيب أبناء المنطقة بأبشع الطرق المحرمة دوليا، على غرار استعمال الماء والكهرباء والضرب بالعصي. وقال محدثنا، إن من يلقى عليهم القبض كانوا يساقون إلى مركز «لاصاص»، ويتم وضعهم داخل دهليز لا يتجاوز عرضه 50 سنتمترا، قبل تحويلهم إلى زنزانة الموت المبنية تحت الأرض، ليتلقوا أبشع أنواع التعذيب، ومنهم من يتم تحويله إلى السجن الأحمر بفرجيوة.
ممارسات دموية
واشتهر معتقل التعذيب بالرواشد، بأبشع وسائل التعذيب خلال الثورة التحريرية المجيدة، وفق ما أفاد به محدثنا، وكان كل ذلك يتم تحت قيادة الضابط توماس ميزوناف، الذي سعى إلى ترهيب السكان ومنعهم من الانخراط في الثورة ومساندتها ومن ثم إفشالها، لاسيما المنطقة الشمالية بميلة، على غرار مشتة بوداود ببلدية تسالة لمطاعي، التي سمتها فرنسا بالمنطقة المحرمة.
ومن أكثر أشكال التعذيب التي كانت تمارس بالمركز، ونقلتها شهادات متفرقة لمجاهدين عاشوا بين جدران المركز، وتحدث عن ذلك للمجاهد حسين هادف بعد الاستقلال، ربط الموقوفين وهم عراة في الجدار مع وضع أرجلهم في وعاء من الماء من أجل مضاعفة شدة التيار الكهربائي، أو صعق الأدنين وباقي أعضاء الجسم الحساسة، بالإضافة إلى تثبيت المعتقل فوق كرسي معدني يسري فيه تيار كهربائي، زيادة على أنواع أخرى من التعذيب يعجز اللسان عن ذكرها كما عبر.
وذكر عمي حسين، أن هذا المركز الذي كان يطلق عليه « لاصاص»، سجل مرور العديد من المجاهدين منهم أحمد بن عبد الله، وعبد القادر رجيمي، ومحمد بوطانة، إضافة إلى أعمر وكعواش،و المجاهد عزالدين بلور الذي استشهد تحت تأثير التعذيب في هذا المركز.
كما يوجد منهم من نجا واستطاع الهروب من المعتقل، يضيف المتحدث، ويتعلق الأمر بالمجاهد عمار المدعو أحمد، الذي تمكن من الهرب من مركز التعذيب خلال فترة تغيير الحراس الذين كانوا يحمون المعتقل في منتصف النهار، واستشهد في معاركة بمنطقة الرواشد سنة 1960.
ذكريات الألم والصمود
من جهته، يتذكر المجاهد كروشي مسعود، وهو في سن 87 الأساليب الوحشية التي كان يتعرض لها المعتقلون في مركز التعذيب بالوراشد، قائلا في حديث للنصر، إن «لاصاص» يعد من بين المعتقلات التي تبقى شاهدة على ممارسة الاستعمار الفرنسي البشعة جدا، فقد مورست فيه شتى أنواع وأساليب التعذيب ضد المجاهدين والثوار، وكل من كان يشتبه في دعمه للثورة التحريرية.وذكر المتحدث، الذي التحق بصفوف الثورة سنة 1957، أن القائمين على شؤون المركز أنداك كانوا يتلذذون بوضع المساندين للثورة داخل مستودعات ودهاليز المركز، أين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب الشنيعة والقاسية، قائلا بأن القليل فقط نجوا من العذاب خرجوا أحياء من «لاصاص».
الحفاظ على مراكز التعذيب يفضح الوجه البشع للاستعمار
يوضح الدكتور عبد القادر دحدوح، من المركز الجامعي تيبازة، للنصر، أن مراكز التعذيب من أهم المعالم التاريخية التي لا تزال تشهد على مدى فظاعة جرائم الاحتلال الفرنسي، وهي بمثابة الشواهد المادية التي تبقى خالدة في الذاكرة الجزائرية، ولن يمحوها الزمن. وأشار، إلى أن قيمتها وأهميتها ستزداد أكثر مع فهم الأجيال القادمة لتأثير التاريخ على الحاضر والمستقبل، فإذا كانت أجيالنا الحالية قريبة زمنيا من أحداث الثورة التحريرية المجيدة، بفضل ما يقي على قيد الحياة من مجاهدين، وأبناء شهداء، فإنه من المهم أن تنقل الشهادات إلى جيل آخر أبعد عنها زمنيا، ليتغذى بشكل دائم بروح الثورة.
مضيفا، بأن الأجيال اللاحقة لن تحظى بفرصة مشاركة ذاكرة من عاشوا الحرب وسمعوا عنها، وذلك سوف يستعينون بما دون حول الشواهد المادية لفهم التاريخ، ومنه تكتسب مراكز التعذيب والمتاحف وغيرها من الأماكن والمعالم والنصب التاريخية أهمية بالنسبة لهذه الأجيال، التي ستكون أكثر تعطشا لمعرفة ماحدث.
كما أكد الباحث في التاريخ، أن حماية هذه المعالم هي حماية للشواهد والأدلة المادية التي لا تقبل الطعن والشك في مصداقيتها أمام أية جهة قضائية أو هيئة مؤهلة بمتابعة جرائم الاحتلال لانتزاع الاعتراف والتعويض عن الأضرار بقوة القانون الدولي، وعليه، فإن الحفاظ على التراث الثقافي التاريخي خاصة مراكز التعذيب له أهمية بالغة، لأنها رمز الذاكرة الوطنية، وشواهد مادية ثابتة تعبر عن وحدة الأمة الجزائرية وترابها الوطني، وهويتها الثابتة الأصيلة المتجذرة في أعماق أبنائها، المستمرة جيلا بعد جيل.
وأضاف ذات المصدر، أن مراكز التعذيب المنتشرة عبر التراب الوطني كثيرة، وقد أجرى حولها بحثا جديدا سيصدر قريبا، يحصي أزيد من 30 مركز تعذيب ومعتقلا وسجنا لا تزال بقاياه ومعالمه ماثلة إلى يومنا هذا، على غرار المركز المتواجد بولاية ميلة، أو مركز التعذيب برج البناية الحصينة ببلدية الرواشد، إضافة إلى مراكز بولايات شلف و البويرة و تلمسان وقسنطينة وغيرها.
مدير المجاهدين بميلة مفتاح سربوح
المركز كان مدرسة لفنون التعذيب
وصف مدير المجاهدين المحلي سربوح مفتاح، مركز التعذيب أو برج البناية الحصينة بالرواشد، بأنه مدرسة لفنون التعذيب، وقال إن المعلم من الشواهد المؤكدة على بشاعة الاستعمار الفرنسي، كما يعتبر واحدا من بين المعالم التي تلعب دورا هاما في التعريف بالجرائم التي اقترفتها فرنسا ضد الجزائريين.
وأضاف المسؤول، أن هذا المركز الذي يعد من بين أكبر معاقل التعذيب بالمنطقة خلال الفترة الاستعمارية، هو اليوم بمثابة متحف مفتوح لجمهور الزوار لاسيما طلبة الجامعات وتلاميذ المدارس لمعرفة التاريخ والاطلاع على أساليب التعذيب المروعة التي مارسها الاستعمار الفرنسي إبان الثورة التحريرية الكبرى.
وقد شيد مركز التعذيب بالرواشد حسبه، قبل اندلاع الثورة خلال الفترة الممتدة ما بين 1884و 1890، لغرض تحقيق أهداف عسكرية دفاعية هجومية، وبالرغم من صغر حجمه إلا أنه حسب ذات المصدر، أدى دورا هاما في المنطقة، كما خصص بداخله قسم تربوي لتعليم أبناء المستوطنين، وكان مسكنا للمعلم بالإضافة إلى إقامة مكتب بريد.
وفي بداية الثورة التحريرية يضيف مدير المجاهدين، أقيمت فيه ثكنة عسكرية للعدو لحماية مصالح الأوربيين وقمع الثورة، واشتهر هذا المركز على نطاق واسع بالأعمال الإجرامية وكان يضرب به المثل في فن التعذيب بمختلف الوسائل الجهنمية، بالإضافة إلى التقتيل الجماعي والتنكيل بالجثث إلى غاية تحقيق الاستقلال حسب ذات المسؤول.
إعادة الاعتبار للمعلم
وأشار مدير المجاهدين بميلة، إلى أن مركز التعذيب بالرواشد استفاد من مشروع إعادة تأهيل في السنوات المنصرمة، وذلك ضمن مخطط ضبطته الوزارة الوصية لترميم أربعة مراكز تعذيب بالمنطقة.
ويتعلق الأمر حسبه، بمركز التعذيب ببلدية زغاية، والمعروف باسم «برج زغاية»، وأخر بوادي النجاء، ومركز ببلدية أحمد راشدي، فضلا عن مركز التعذيب «لاصاص».
وقد تم ترميم الجدار الخارجي وممرات المراقبة والزنزانات، بالإضافة الى وضع الإنارة وكذا المجسمات التي تحاكي ما كان يمارس داخل المركز ويؤرخ لفظاعة الاستعمار، كما رصد للعملية مبلغ مالي يقدر بـ 4 ملايير سنتيم، خلال سنوات 2013/ 2016. وتعمل مديرية المجاهدين المحلية، بالتنسيق مع الوزارة الوصية من أجل تسجيل عمليات أخرى لإعادة الاعتبار لمراكز التعذيب والمعالم التاريخية بالولاية منها مركز «لاصاص»، وفق ما ذكره سربوح مفتاح، وذلك للعناية بالموروث التاريخي وجعله في متناول السياح لمعرفة تاريخ الثوار والوطنيين والظروف غير الإنسانية التي كان يقضي فيها المساجين أيامهم أثناء فترة الاستعمار
مكي بوغابة