تفقد قسنطينة القديمة كل عام، مزيدا من قاطنيها الذين رُحلوا إلى الأقطاب السكنية الجديدة أو اختاروا الانتقال إليها، فقد تحولت اليوم إلى مجموعة من الأحياء والأزقة الشاغرة ومناطق شبه مهجورة، تكاد الحركة التجارية تنعدم بها مساء، أما السلطات المحلية فتحاول إحياء المدينة القديمة المصنفة كموروث ثقافي، والأحياء المجاورة لها، عبر إقامة بعض المشاريع، كما تعمل على القيام بترميمات تسمح بتحويل المكان مستقبلا إلى منطقة جذب سياحي.
روبورتاج: حاتم بن كحول
تضم المدينة القديمة عدة أحياء جعلت منها في السابق قلب ولاية قسنطينة من حيث الحركية والتجارة المنتعشة، على غرار «طريق جديدة»، القصبة، السويقة، شارعي ديدوش مراد و19 جوان، سيدي الجليس، الرصيف، طاطاش بلقاسم، باب القنطرة، وساحة أول نوفمبر وصولا إلى شارع بلوزداد والكدية وغيرها، لكن الوضع تغير اليوم.
لا تجارة بعد السابعة مساء
وقد جابت النصر بعض أحياء المدينة القديمة بعد الساعة السابعة مساء، أين وقفنا على خلو العديد من الشوارع، على عكس الفترة الصباحية أين تعج بالمواطنين سواء من أجل التسوق أو التجارة أو العمل، حيث سرعان ما تقل الحركة بعد غلق الإدارات والمؤسسات العمومية أبوابها في الساعة الرابعة والنصف عصرا، كما يعزف التجار عن ممارسة نشاطهم عقب السابعة.
ويزيد الإقبال على وسائل النقل المختلفة سواء سيارات الأجرة أو الترامواي أو الحافلات، عند انتهاء الدوام الرسمي، حيث يسارع المواطنون إليها للتوجه نحو سكناتهم الواقعة في الأحياء والبلديات البعيدة، تاركين خلفهم مدينة شبه شاغرة، ستمتلئ شوارعها بالقطط والكلاب الضالة. ولاحظنا خلال جولتنا مساء، في السويقة وطريق جديدة والرصيف وسيدي الجليس وصولا إلى شارع طاطاش بلقاسم «الروتيار»، أن الأزقة تكاد تكون خالية، كما تعرف ظلاما حالكا حد من حركية الراجلين، فيما يتجمع شباب في بعض الزوايا ويتبادلون أطراف الحديث، الذي ينقطع مباشرة بمجرد أن يلمحوا شخصا يسير بالقرب منهم وكأنهم لم يتعودوا على مرور الغرباء بأحيائهم في الفترة الليلية.
وتتزامن هذه الأيام مع فصل الصيف، وهي الفترة التي من المفترض أن تعرف حركية كبيرة، إلا أن كل المحلات التجارية كانت مغلقة، أما في ساحة أول نوفمبر «لابريش»، فيتواجد عدد من الشباب الذين «يحتلون» الأسوار والمقاعد الحديدية الواقعة في حديقة بن ناصر، وتنتعش الحركة أكثر عند الوصول إلى شارع بلوزداد مرورا على «لابيراميد» ثم شارع عبّان رمضان، ولكن الملفت هو أن معظم المحلات هنا مغلق أيضا.
طرقات موحشة ومسالك تغرق في الظلام
وتسنى لنا المرور على شوارع المدينة القديمة مساء، في مدة لا تتجاوز 10 دقائق، بسبب نقص الحركية، وقد بدت الطرقات موحشة خاصة في غياب الإنارة ببعض المسالك، وكأن الأمر يتعلق بمنطقة مهجورة غادرها سكانها قبل فترة طويلة.
وقد تحول وسط المدينة إلى فضاء مفتوح لتجول الكلاب الضالة والقطط، بعدما هجر مئات السكان هذا المكان، إلى الأقطاب الحضرية الجديدة في علي منجلي وماسينيسا وعين نحاس، بينما فضلت عائلات قضاء سهراتها بعلي منجلي التي لا تتوقف فيها الحياة وتتوفر على فضاءات تسوق وترفيه عديدة يستمر نشاطها حتى ساعات متأخرة من الليل.
ويمتد جمود المدينة القديمة التي كانت تنبض بالحياة في ما سبق، إلى أحياء مجاورة، على غرار الأمير عبد القادر «الفوبور» وساقية سيدي يوسف «لابوم» وكذلك الزيادية وحتى سيدي مبروك ودقسي عبد السلام وصولا إلى القماص والكيلومتر الرابع ولوناما وبومرزوق، ومن الجهة المقابلة يتكرر المشهد في عوينة الفول وسيدي مسيد وصولا إلى الزاوش، وهي أحياء انتقل العديد من قاطنيها إلى العيش في الأقطاب الجديدة.
هجرة جماعية للتجار نحو علي منجلي
وأكد تجار بالمدينة القديمة، أنهم يضطرون لغلق محلاتهم بسبب ضعف النشاط وخلو الأزقة والشوارع مساء، موضحين أنهم يكتفون بما يجنونه خلال ساعات النهار. وقد لفت انتباهنا أن بعض الشباب يستغلون الفترة الليلية من أجل ممارسة التجارة غير الشرعية بوضع طاولات بيع السجائر، فيما يفتح محل فقط لبيع المثلجات بشارع بلوزداد، وآخر للإطعام السريع بعبّان رمضان، وحتى الأكشاك متعددة الخدمات كانت مغلقة على عكس الصيدليات التي تنشط بشكل عادي.
وعلمنا أن جل التجار المعروفين في المدينة القديمة قد تحولوا إلى المقاطعة الإدارية علي منجلي، من أجل ممارسة نشاطهم بمراكز وفضاءات تجارية، خاصة أن عدد السكان بهذا القطب الجديد، في نمو مستمر في حين أصبح عدد قاطني قسنطينة القديمة قليلا جدا.
ويقول إبراهيم وهو أحد المواطنين الذين مازالوا يقطنون في نهج بوعيل السعيد «كازانوفا» بالمدينة القديمة، أنه لم يتأثر بسلسلة الترحيلات التي مست جيرانه، ويرى أن شغور الأزقة والأحياء أفضل من أن تكون ممتلئة، لعدة اعتبارات، أبرزها، مثلما أضاف، الاستمتاع بالهدوء والسكينة، سواء أثناء النوم أو عند القيام بجولة خفيفة وسط المدينة.
عائلات تخشى التجول ليلا
أما عبد الرحيم القاطن في شارع بلوزداد، فقد كان رأيه مغايرا، حيث ذكر بأن تحوّل المدينة القديمة إلى مناطق مهجورة، ساعد على انتشار المنحرفين ليلا، إذ يزعجون السكان حتى ساعات متأخرة بالأصوات المرتفعة والكلام الفاحش، إضافة إلى استغلال بعض الزوايا وأقبية البنايات من أجل تعاطي المخدرات، حتى أن العائلات تخشى التجول في المدينة خلال الفترة المسائية.
التقينا بشاب أخبرنا أنه أحد السكان السابقين لنهج أبناء العم بوفنارة «فاردان»، حيث انتقلت عائلته إلى علي منجلي قبل أزيد من 10 سنوات، وقد صار يشعر اليوم أنه غريب بالحي الذي نشأ فيه، بعد أن رحل كل الجيران إلى مناطق أخرى وخاصة علي منجلي، وانتقال غرباء إلى النهج، وفق تعبيره، وأضاف الشاب أنه أصبح يقضي طيلة أوقاته في المدينة الجديدة التي تعود عليها كثيرا، إضافة إلى أن جل أصدقاء الطفولة يقطنون هناك أيضا.
كما قال شيخ إنه انتقل قبل 12 سنة إلى علي منجلي، بعد أن وُلد وعاش جل فترات حياته في الكدية، إلا أن تأقلمه مع المدينة الجديدة جعله يبتعد شيئا فشيئا عن مكان نشأته الذي أصبح لا يعرف قاطنيه بعد رحيل جل العائلات التي عاشت في الكدية منذ خمسينيات القرن الماضي.
برمجة ترحيلات جديدة
ومن المتوقع التحاق بعض القاطنين حاليا في قسنطينة القديمة، بسكناتهم الجديدة في موقع 4 آلاف سكن ببلدية عين عبيد، حيث تدرس مصالح الدائرة ملفات المعنيين من أجل توزيع الشقق، والتي تخص سكان المدينة القديمة وكذا عوينة الفول وقيطوني عبد المالك «رود بيانفي» وحي الثوار «رود براهم»، وغيرها، وهو ما سيزيد من دون شك من شغور المدينة القديمة. من جهة أخرى، يؤكد مدير التعمير والهندسة المعمارية والبناء لولاية قسنطينة، حكيم غمري، في تصريح للنصر، أن مصالحه انتهت من تزويد أزيد من 10 أحياء في مدينة قسنطينة بالإنارة العمومية، منها الزاوش وكوحيل لخضر، ما ساهم في خروج العائلات مجددا للسهر ليلا، بعد أن امتنعت عن ذلك طيلة السنوات الماضية بسبب الظلام الحالك، ويبقى الهدف هو إعادة الروح والحركية لمدينة قسنطينة، وهو ما يتحقق شيئا فشيئا، حسب المسؤول.كما ذكر رئيس بلدية قسنطينة، شراف بن ساري، للنصر، أن الملف الخاص بمشروع تحويل المدينة القديمة إلى منطقة سياحية، مطروح منذ العهدة السابقة، موضحا أن الأمر يتعلق بموقع محمي من طرف منظمة «اليونيسكو»، وبأن القيام بعمليات الترميم وإعادة التهيئة على مستواه يخضع لقوانين.
وتابع بن ساري أن البلدية يجب أن تتحصل أولا على رخصة من «اليونيسكو»، مؤكدا أن مصالحه ستشرع في القريب العاجل في تجسيد المشروع، كما ذكّر بأن بعض العائلات لا تزال تقطن في الأحياء القديمة، وعند ترحيلها سيُشرع في أخذ اقتراحات المهندسين المعماريين بخصوص هذا الملف بعد دراسة المنطقة، وذلك قبل الانطلاق في التدخلات.
ح.ب