ما تمّ اِنجازه في مشهد الإعلام الثقافي مشاريع أفراد
يعتقد الكاتب والإعلامي محمّد بغداد، أنّ الإعلام الثقافي يتجاوز المستوى الأدبي، ليشمل كلّ معاني ونشاطات الإنسان في الحياة، بدايةً من الأسماء التي نطلقها على أبنائنا، مروراً بقاموس التعبير الّذي نستعمله، وصولاً إلى طبيعة الأحلام التي نتطلع إليها والأساطير التي نعيش بها. ومن هنا -حسب رأيه- فإنّ الأسماء والشخصيات الأدبيّة بإمكانها أن تُساهم في إثراء العملية الإعلامية، وتُؤثر في طريقة تسويق المنتوجات الثّقافيّة. ولكن تجربتنا -كما يضيف- في هذا المجال ضعيفة جداً ونتائجها سلبية، لأنّنا مازلنا كمجتمع لم نتخلص من سيطرة النّخب المغشوشة زيادةً على أنّ قطاع الإعلام أصبح مطمح كلّ من يرغب في الشهرة والنجومية. كما تأسف في ذات الوقت لأنّ مؤسساتنا الثّقافيّة، لا تريد من الإعلام سوى الإشهار والترويج لمشاريعها.

حوار: نـوّارة لـحـرش

ومن جانب آخر، يرى أنّ هناك تجارب ناجحة في مشهد الإعلامي الثقافي، ولكنها شخصية، قامت على جهود فردية وتمكنت من حجز مكان لها في الساحة الإعلامية، ومن تحقيق الإعجاب، وهي اِنجازات تُحسب لأصحابها وليست اِنجازات مجتمع ومشاريع نخب.
للتذكير، محمّد بغداد كاتب وإعلامي جزائري صدرت له مجموعة كُتُب منها: «صناعة القرار في الخلافة الراشدة»، «حوارية النص والفقيه»، «من الفتنة إلى المصالحة»، «الدولة والمجتمع في المغرب الإسلامي»، «إنتاج النُّخب الدينية في الجزائر»، «تماسين جوهرة الصحراء». «المؤسّسة. الأزمة. السّلوك».
كما أصدر كتابين في الإعلام الديني والثقافي. الأوّل بعنوان: «الإعلام الديني في الجزائر/ الخطاب والهوية» عن دار الحكمة للنشر والترجمة، تناول فيه إشكالية الإعلام الديني وتمظهراته في مختلف وسائل الإعلام الجزائرية، وتأثيرات هذا النوع من الإعلام على السلوكات والمنتوجات الثّقافية للتيارات الجزائرية. وهو أوّل دراسة في الجزائر تخوض في هذا الموضوع. والكِتاب الثاني بعنوان «حركة الإعلام الثقافي في الجزائر.. تقدير مشهد» الصادر عن دار الحكمة أيضا. وفيه تناول العديد من الإشكاليات المتعلقة بالمشهد الإعلامي الثقافي الجزائري.
المؤسسة الثقافية لا تريد من الإعلام سوى الإشهار والترويج
لك اِهتمامات بشؤون الإعلام الثقافي، حتّى أنك أصدرت بعض الكُتُب التي تتناول هذا الشأن. كإعلامي كيف تقرأ مشهد الإعلام الثقافي في الجزائر وماذا عن أداء هذا المشهد في مختلف الوسائل الإعلامية مقارنةً مع سنوات مضت هل ترى أنّ الممارسة الإعلامية اِرتقت إلى مستوى الاِحترافية؟
محمّد بغداد: من حسنات الظروف الحالية أنّ ضغوط الأجيال الجديدة بأسئلتها الحادة، بدأت تفرض نفسها في الحياة وتُزعج عرابي المشهد الثقافي الإعلامي، ولا يمكن الحديث في هذه الظروف عن شيء اِسمه الاِحترافية، فالاِحترافية اِنجاز ونتيجة لمسيرة من العمل الجاد، يقوم على رؤية واضحة وينتقل إلى مستوى المشروع، ويقترب نحو المراجعة ويتزود من العقلانية، فنحن المجتمع الوحيد الّذي لم توضع تجربته الإعلامية على مكاتب البحث الجامعي والمخابر الأكاديمية، فالطلبة يأتون من الجامعات ليصدموا بواقع مناقض تمامًا لما تعلموه من قبل، وبمرور الأيّام يكتشفون أنّهم ضيعوا سنوات من أعمارهم بدون فائدة، ولأوّل مرّة في تاريخ الإعلام نجد الجامعة تُطارد الممارسة العصامية الميدانية، وإذا أردنا الحقيقة يجب أن نقول لا نملك مؤسسة إعلامية بالمعنى المتعارف عليه في عالم النّاس اليوم. إنّنا نضيع الوقت، عندما نترك المجال لمن هم ليسوا في مستوى التحديات الراهنة ولا علاقة لهم بالإعلام، لنقولها بصراحة أنّ مؤسساتنا الإعلامية في أغلبها لا تعبر عنا، ولا تمارس العملية الإعلامية الحقيقية، فالبعض بقى مجرّد إدارة بيروقراطية والبعض محل تجاري والبعض بوق من أبواق السذاجة وترويج الخرافات، ويذهب المجتمع والصحفي ضحية هذا الدولاب الغريب، الّذي لم يحن وقت إزاحته من الحياة، مازلنا نتصوّر أنّ العصامية هي البديل عن العِلم والمعرفة، وكأنّنا في زمن الخرافات والأساطير، المؤسسات الإعلامية يقودها العلماء والمحترفون والمتدربون على أرقى فنون الإعلام والاِتصال، ونحن مازلنا ندرس في الجامعات ونمارس في المؤسسات مفاهيم نسيتها الإنسانية، ولا يتذكرها إلاّ المؤرخون، ونحن نقتل كلّ روح مبادرة ونقف في وجه كلّ طاقة جديدة، ولا سبيل لنا سوى الاِنتقال وبسرعة لا إلى المستقبل ولكن فقط إلى الحاضر.
الإعلام الثقافي يتجاوز المستوى الأدبي ليشمل كلّ معاني ونشاطات الإنسان في الحياة
هل الإعلام الثقافي تخدمه الأسماء الأدبية التي تمتلك حسا أدبيا وصحفيا في ذات الوقت ومرجعية ثقافية، أكثـر من الأسماء التي لا تملك هذه المرجعية ولا الحس الأدبي والثقافي الضروري الّذي يرتقي أكثـر بالإعلام الثقافي؟
محمّد بغداد: الإعلام الثقافي يتجاوز المستوى الأدبي، ليشمل كلّ معاني ونشاطات الإنسان في الحياة، بدايةً من الأسماء التي نطلقها على أبنائنا، مروراً بقاموس التعبير الّذي نستعمله، وصولاً إلى طبيعة الأحلام التي نتطلع إليها والأساطير التي نعيش بها، من هنا فإنّ الأسماء والشخصيات الأدبيّة بإمكانها أن تُساهم في إثراء العملية الإعلامية، وتُؤثر في طريقة تسويق المنتوجات الثّقافيّة، ولكن تجربتنا في هذا المجال ضعيفة جداً ونتائجها سلبية، لأنّنا مازلنا كمجتمع لم نتخلص من سيطرة النّخب المغشوشة زيادةً على أنّ قطاع الإعلام أصبح مطمح كلّ من يرغب في الشهرة والنجومية. وفي الأخير نجد أنفسنا نفتقد إلى معايير الجمالية الحقيقية والعقلانية المتحكمة، وما زلنا نعيش في دهاليز الماضي ونجتر إشكاليات التاريخ وحتّى الأجيال الجديدة عندنا لم تعد تسمع بِمَّا يعشش في أذهان بعضنا، لأنّ العملية الإعلامية تقوم في الأساس على الذكاء والتجدّد وتتزود بالعقلانية الناجحة، ويمكن لكِ أن تلاحظي ذلك في المواد السينمائية والأدبية والفنية، التي تتزاحم على اِستهلاكها أجيالنا الجديدة. للأسف إنّ مؤسساتنا الثّقافيّة عمومية أو أهلية، لا تريد من الإعلام سوى الإشهار والترويج لمشاريعها.
أهم المنابر في الصحافة الثّقافية شغلها كُتّاب وأدباء، جاؤوا من الأدب والثقافة إلى حقل الإعلام الثقافي وخدموا المشهد وأضافوا له أكثـر. ما رأيك؟
محمّد بغداد: أعتقد أنّه قد حان الوقت لنتحدث بصراحة وموضوعية، هناك تجارب ناجحة ولكنها شخصية، قامت على جهود فردية وتمكنت من حجز مكان لها في الساحة، وتمكنت من تحقيق الإعجاب، وهي اِنجازات تُحسب لأصحابها وليست اِنجازات مجتمع ومشاريع نخب، لأنّ المبدعون والأدباء يُهيمن عليهم الخيال والمتعة، وهو أعلى وأقدس ما في الإنسان، وأمّا الإعلام فهو عملية تقنية بالدرجة الأولى تنطلق من قواعد ثابتة وتسير بمنطق الترويج والإثارة والإقناع والجذب والإبهار، وهي تتعامل مع متغيرات الحياة وتلبي الحاجات الطبيعية والمتجدّدة يوميًا، ولهذا يتطلب الإعلام السرعة والذكاء والاِنتباه الشديد، أقول هذا لأنّنا نعيش في عالم تتحكم فيه ثلاث مؤسسات، الأولى هوليود المنتجة للصورة وقيمها الثّقافيّة، وبورصة ولستريت المتحكمة في إدارة حركة المال، والبنتاغون المسيطر على توازنات القوّة، ومن هنا نجد أنفسنا بعيدين عن مفهوم الصورة وحجم القوّة وتأثير المال. إنّنا نعيش في أجواء مهمة وفريدة من نوعها في تاريخ الجزائر، من خلال توّفر كلّ الإمكانيات المادية والبشرية من أجل إحداث تغيير حقيقي واستئناف جاد في مسيرة التجربة الإعلامية الجزائرية، فقط لو تمكنا من التوبة من التخلف والتخلص من الذهنيات المريضة.
حتّى الإعلام الثقافي وقع في فخ الفضائحية والتلميع السمج
ألا يوجد أنموذج في هذا المشهد، أو تجارب ومشاريع لافتة؟
محمّد بغداد: أُعيد وأكرر، ما تمّ اِنجازه مشاريع أفراد وأشخاص بعينها، وأنا هنا لا أريد أن أقع في ظلم البعض، ولكن هي فرصة نؤكد فيها، أنّنا لا نملك هيئات ثقافية عامة أو أهلية محترمة، ولا مؤسسة إعلامية حقيقية، فنحن مازلنا نبحث عن الإعجاب وننسى الاِحترام، نفكر في الحاضر وننسى المستقبل، نعيش في الماضي ونتجاوز التاريخ، فكم هي المهرجانات عندنا، فهل لا تخرج عن إطار عبارات مثل «انطلق واختتم ويتواصل»، نتقاتل كصحفيين ونتسابق من أجل حوار مع مثقف أو فنان متواضع في بلده، وحتّى الإعلام الثقافي وقع في فخ الفضائحية والتلميع السمج، كم هي الملتقيات والندوات وبقية النشاطات التي فتحت أمامنا نوافذ للنقاش الحقيقي والحوار البناء، لأنّنا لا نملك قضية ولا موضوع يمكن أن يكون محوراً للحديث.
إنّ نخبنا الجزائرية تعيش فترة التحوّل، ولكنّه عميق وخطير في نفس الوقت، يتعلق بأعماق الملفات الكُبرى، ويظهر أنّنا لا نتعامل مع هذا التحوّل بمسؤولية، ولا حتى بدرجة وعي كافية تجعلنا نفهم الرهانات بذكاء وبراعة ممكنة وبأقل التكاليف.
وماذا عن الإعلام الديني في الجزائر الّذي تناولتَ سياقاته وتمظهراته في كتابك «الإعلام الديني/الخطاب والهوية»، وهل يتقاطع هذا الإعلام مع الخطاب دون اِلتباس. خاصةً وأنّ الإعلام الديني يكادُ يكون مغلوطا ومتعثـراً من حيث مضموناته وخطاباته.
محمّد بغداد: المسألة الدينية عندنا ما تزال تعيش في خنادق الصراعات على الرأس مال الاِجتماعي، وكيفية اِستثماره في مختلف المساحات الهامشية المتوفرة، ونتعامل معه من هذا المنطلق، ففي سنوات التسعينات عندما عشنا الأزمة الكُبرى، اِنزعجنا كثيراً من مسألة الفتاوى ومن صُنّاعها، وفي نهاية الأزمة عدنا إلى نفس الأشخاص والأسماء، وطلبنا منها فتاوى النجاة، وفجأةً اِنطلق سباق المؤسسات الإعلامية عندنا نحو الاِستثمار في المسألة الدينية، بهدف الحصول على الأرباح من وراء التعامل مع الخطاب الديني، فكلّ جريدة تحرص على الصفحة الدينية، وكلّ قناة بصرية تقحم المواد الدينية، وكلّ إذاعة تُبرمج الفقرات الدينية، وكأنّنا شعب يحتاج إلى اِستهلاك المواد الدينية، فانتقلت المؤسسة الإعلامية إلى مُزاحمة المؤسسة الدينية المسجد والزاوية والمجلس الإسلامي وغيرها، والمشكلة في المشهد الإعلامي الديني أنّ كلّ مواده مستمدة من خارج المرجعية الثّقافيّة والفقهية الوطنية، وفي كثير من الأحيان تتصادم مع الموروث والمعتمد من المفاهيم الفقهية الجزائرية القائمة منذ قرون، وهي الحالة التي تكشف عن حالة اِغتراب غريبة تعيشها النّخب الإعلامية.
من جهة ثانية نحن نتجه إلى مرحلة التخصص في التجربة الإعلامية، ونحن بحاجة إلى وعي بما نحتاج إليه وبحاجة أكثر إلى كيفية بناء الرسالة الإعلامية الدينية، ولا تقع في منطق الربحية السريعة، لأنّ المواد الإعلامية الدينية أكثر اِستهلاكًا، وأنّ المؤسسات الإعلامية الدينية الأكثر ربحًا من مداخيل الإشهار، والاِستقطاب والتعبئة الشعبية.     
ن/ل

الرجوع إلى الأعلى