أصبح الجمهور مثل الأديب صناعة توجّه بوعي أو بدون وعي نحو أهداف وشروط لا تختلف عن شروط العولمة التي أجبرت الإنسان على التخلّي عن تاريخه لتُدخله تاريخًا وهميًا. غير أنّ الأدب الّذي يخلق قُرّاء يمتلكون ذائقة جمالية تُحدّد طبيعة تصوّره، يجعل الأديب يرفض أن يكون جزءاً في معركة صناعة الثقافة والنجومية، أو أن يكون وسيلة ضغط تُمارسها الحشود، وتسعى إلى إشباع فضول أو رغبات أو توجّهات معينة تفرضها إملاءات مختلفة.

آمنة بلعلى/ باحثة وناقدة

كان للأدب في كلّ عصر قُراؤه، وكان هؤلاء القُرّاء يصنعون الذائقة الأدبية ويُوجّهون النقد أيضاً نحو أهدافه الكُبرى في التوصيف والتقويم والإبداع. وعلى الرغم من أنّ هؤلاء القُرّاء كثيراً ما كانوا مرتبطين بالمؤسسة التي تحرص على إشاعة الثقافة والحفاظ على القيم التي تُمكّن للأدب من أن يظل مُؤثراً. فتُعلي شأن بعضهم على حساب البعض الآخر، فإنّه لا أحد، مثلاً يُشكِكُ في قيمة النماذج الأدبية التي ظهرت في إطارها؛ لأنّها، عادةً ما كانت تنتقي الأجود منها. قِيلَ إنّ المُتنبي قد غطى على خمسمائة شاعر في عصره، وملأ الدنيا وشغل النّاس، ولكن القُرّاء لم يُشككوا في أصالته الإبداعية، ولا سألوا هل كان سنيًّا أم شيعيًا. على الرغم من أنّ الجمهور تخلقه سياقات اِجتماعية وسياسية، لتصبح المسألة أحيانًا مسألة اِجتماعية أو سياسية أو دينية لا علاقة لها بالأدب ولا بقيمته، وخاصةً في وقتنا الحالي، حيثُ يُعاب على مصطلح الجمهور المضمون العددي الّذي لا يُعبّر فعلاً عن واقع قرائي يخصّ إنتاج هذا الأديب أو ذاك، لأنّه نتاج تأثيرات معيّنة غالبًا ما تكون دعائية أو نتيجة ردود أفعال تقع خارج مجال الأدب، كأن ترتبط بموقف سياسي أو إيديولوجي أو مصلحة مادية، أو تكون دون هدف كالّذي يُشكله مفهوم الحشد الّذي لا يكاد يختلف عن حشود كرة القدم، أو الحملات الاِنتخابية.
بالنسبةِ للجزائر، نحنُ لا نملك التقاليد التي تجعل قراءة الأدب ثقافة يومية مشتركة، يتقاسم من خلاله القرّاء الاِهتمامات الأدبية دون حساسية تذكر، وقد ساعد على ذلك أنّنا ورثنا تعدداً لغويًا مغلوطاً اِرتبط باِختلاف إيديولوجي قسّم القُرّاء إلى معرّبين ومفرنسين، لم يتمكّنوا لحد الآن من تجاوز عواطفهم وانفعالاتهم، جعلت الجزائريين يكتبون من منظور مجتمع هجين، يعتبر طرح الأسئلة غير الإشكالية، التي لا أجوبة لها مثل جزائرية الأدب المكتوب باللّغة الفرنسية، أهم من قراءة رواية، أو كِتاب فكري حول تاريخ الجزائر. ساهمت وسائل التواصل الاِجتماعي في الكشف عن نوعية الجمهور الّذي يتأثر بتصريح مثير عابر من أديب، فيُصبح هذا التصريح بمثابة الحدث الثقافي الّذي تُعقد من أجله ندوات. ولذلك لا تُشكّل مثل هذه الشطحات الثقافية رأيًا عامًا قادراً على خلق صورة من صور التأييد والمعارضة التي نجدها في البلدان المتطورة التي يُشكل صدور كِتابٍ ما حدثًا ثقافيًا.
جمهور الأدب في الجزائر أفراد، قد يكونون من المثقفين كأساتذة الجامعة مثلاً، لكنهم يهتمون بالمُثير والبسيط وتستهويهم الإشاعة، ويقعون صرعى جُمل شبقية، تجعلهم يُحوّلون بعض الكُتّاب والكاتبات إلى نجوم، في وسائل التواصل الاِجتماعي. تستهوي بعضهم صورة اِمرأة يتم التركيز على أحمر شفاهها لتنهال التعليقات، بالمئات، لكنّهم يمرّون على مقال فكري وكأنّه لا أثر. وهذا يُؤكد أنّ بعض الأدباء والأديبات الذين يحصلون على مئات التعليقات يصنعون جمهوراً وليس قُرّاء، ومثل ذلك ما تفعله الجوائز التي تسهم في خلق جمهور يُصفّق لهذا الأديب أو ذاك لاِعتبارات خارج أدبية، دون أن يسأل عمّا حقّق له القيمة الأدبية.
ولذلك فالجمهور في ظل ثقافة الاِستهلاك اليوم وفي عصر السيولة، مثله مثل جمهور الفن والرياضة الّذي تستغل وسائل الإعلام والسياسات إدراكاته المحدودة لتشكيل الصور الذهنية التي تُعزّز مواقف إيديولوجية واقتصادية وسياسية معيّنة.
فنحنُ نعيش في عصر تتحكم قوانين السوق في تحويل القُرّاء إلى جمهور والأديب إلى نجم بمفهوم ثقافة الاِستهلاك، نستطيع أن نجزم، -مثلاً-، أنّ الغالبية من جمهور ياسمينة خضرا -على سبيل الذكر- دخلت الحشد في لقاءاته التي تُقام هنا وهناك دون أن تقرأ له رواية واحدة، كما نستطيع أن نجزم أيضاً أنّه ما كان لنجم نزار قباني أن يسطع لولا اِحتماؤه بالمرأة، وأنّ إغواء عناوين «ذاكرة الجسد» و»عابر سرير» هو ما أشعل النار في هشيم القُرّاء، حتّى وإن لم يطّلعوا على النصوص. ولذلك فالمراهنة على فكرة الجمهور وعدّد المحبّين والمُتابعين، هو ضربٌ من الدخول في ثقافة الاِستهلاك ودليلٌ على دخول الكاتب في معركة فرض الوجود المُفترض نتيجة فراغ داخلي وسعي لإشباع فوري وصراع يومي من أجل كسب أكبر عدد مُمكن من تعليقات الجمهور وهذا النوع من الاِستسلام لمنطق الحشد يجعل الأدب ذاته في خطر.إنّ الأديب الحقيقي يستمدُ قُرّاءه من أدبه دون أن يخضع هذا الأدب إلى سوق الجمهور الّذي يكسبه الشرعية من القيمة الاِستهلاكية الآنية التي لا تُفرق بين الأدب الجيد والأدب الرّديء ولا بينه وبين كُتب الطبخ التي تُقدم وصفات شهية للزبائن، ولذلك حريٌّ به أن يسعى إلى كسب رأي عام مثقف يسهم به ومعه في نقاش الإشكالات الحقيقية والتفكير في الحلول، والاِلتفاف من أجل تفعيل الثقافة الوطنية في المشهد العالمي.وذلك بالنظر إلى العدد الهائل لما يُنتجه الأدباء الجزائريون من روايات وأشعار، والمستوى الّذي أثبتوا به جدارتهم الإبداعية، على الرغم من غياب الاِهتمام، ونقص المنابر الثقافية واللقاءات بين المثقفين والأدباء، والاِنبهار بالثقافة الوافدة، وضُعف الوعي بالثقافة الوطنية، وهي شروط لو توفّرت لأمكننا الحديث عن الجمهور الّذي نحلمُ به، الّذي لا يكتفي بخاصية أو أيقونة «أعجبني».

الرجوع إلى الأعلى