كيف حضر تاريخ الجزائر في المنظومة والمناهج التربوية والكُتب المدرسية، وكيف هو واقع تدريس مادة التاريخ في المؤسسات التعليمية الجزائرية، وما مدى دور ومكانة وقيمة كُتب التاريخ في تعزيز وتكريس الثقافة التاريخية ونشر الوعي التاريخي لدى الأجيال الجديدة؟ وهل البرامج والمناهج المرتبطة بمادة التاريخ راعت الجانب التاريخي للجزائر بطريقة خدمت حقا هذا التاريخ وأنصفته؟ ومن جهةٍ أخرى لماذا يجمع أغلب المختصين في هذا الشأن على أنّ طريقة التعليم تجعل التلاميذ وحتّى الطلاب ينفرون من تخصص التاريخ لاِعتقادهم أنّه حفظٌ فقط. وإذا كانت البرامج التعليمية مَنحت –حسب المختصين- فضاءً واسعًا ومساحةً كبيرة لتاريخ الجزائر، فهل حقا معضلة المناهج التعليمية تكمن في طُرق التدريس وليس في محتواها، وأنّها لم تقدمه بالطريقة الصائبة؟ ما جعل التاريخ يظل مجرّد مادة ثانوية وهامشية لا تلقى اِهتمام المتمدرسين من مختلف الأجيال.
إستطلاع/ نـوّارة لحـرش
حول هذا الشأن، كان ملف هذا العدد من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الباحثين الأكاديميين والدكاترة المختصين في التاريخ، من مختلف جامعات الوطن.
* محمّد بن ساعو/أستاذ وباحث في التاريخ – جامعة سطيف2
التاريخ ظل مجرّد مادة ثانوية و هامشية
ليس من باب المُبالغة إذا اِعتبرنا مادة التاريخ واحدة من المواد ذات الأهمية في الكثير من المنظومات التربوية، ذلك أنّها تعكسُ جانبًا مهمًّا من مشروع المدرسة الّذي يرتبطُ أساسًا بالدولة والمجتمع، وكثيرا ما يطرح حضور التاريخ في المناهج التربوية الكثير من الإشكاليات المُتعلقة بآليات التعامل مع الحدث التاريخي وتوظيفاته، وربّما يبدو الأمر في الجزائر أكثر تعقيدا، فقد ظلّ التاريخ وسيلة إقناعٍ سياسي وراية إيديولوجية تعكسُ ذلك المنحى الّذي يتجه نحوه السياسي، الّذي حاول أن يكتسب شرعيته من خلال التاريخ، أو بالأحرى من خلال تاريخ الثورة التحريرية 1954-1962، وبالتالي نحن أمام تاريخٍ رسمي غير منزّهٍ عن الخلفيات السياسية والاِعتبارات الإيديولوجية، لكون المدرسة الجزائرية ظلّت لعقود طويلة تحت تأثير هذه الثنائية.
إنّ التوجه المدرسي في مُلامسة المواضيع التاريخية –سواء في مناهج مادة التاريخ أو المضامين التاريخية التي اِحتوتها واشتغلت عليها المواد الأخرى خاصة مقررات اللّغة العربية والفرنسية- يرتكز عادةً على إبراز التاريخ المُشرق الّذي يعكس وجهًا مُشرّفا من صفحات النضال والإبداع والتفاعل مع الأمم والشعوب وبناء الحضارة، في حين تغفل عن الوجه الآخر. هذا التمييز والفصل في نظر بعض الأكاديميين لا يختلف عن تزوير التاريخ المُمنهج، غير أنّ واضعي البرامج التربوية لديهم رؤية مغايرة، لأنّهم يخضعون عند صياغة المُقررات وإقرار الكُتب إلى القوانين التوجيهية للتربية التي تُحاول رسم الأُطر والمعايير الكُبرى التي تندرج ضمنها المناهج والمضامين التربوية، والتي تهدفُ إلى تكوين مُتعلم مُنسجم مع ماضيه، بعيداً عن إثارة المواضيع المُتعلقة بما يمكن تسميته بالتاريخ الأسود أو بُؤر الخِلاف.
لا نُنكر أنّ مناهج التاريخ حاولت تقديم التاريخ الجزائري بصورة بسيطة ومُتسلسلة كرنولوجيًا خاصة في قالب الميادين مع الجيل الثاني من برامج المقاربة بالكفاءات، لكن الواقع يُشير إلى أنّ التاريخ في المدرسة الجزائرية مسّهُ الكثير من الضيم، ذلك أنّه ظلّ مجرّد مادة ثانوية لا تلقى اِهتمام التلميذ ولا الجماعة التربوية بصفةٍ عامة، فقد اُعتبِر مادة هامشية، وما يعكس ذلك هو المُعامل المُتدني لهذه المادة، وما عمّق الصور النمطية السلبية حولها أكثر هو طُرق التدريس الكلاسيكية التي ظلّت لصيقة بالتاريخ، رغم ما تسوّق له الجهات الوصية من محاولة إحداث ثورة في إطار تحديث المنظومة التربوية وطرائق التدريس.
هذا الوضع اِنعكس على هشاشة التكوين لدى المُتعلمين في مادة التاريخ، بل وعلى الثقافة التاريخية لدى الأجيال الحالية والقادمة، وأصبح الأمر يستحق دراسات أكاديمية لمعرفة أسباب التراجع الخطير في اِرتباط الجيل الجديد بالتاريخ، والّذي يبدو في جزءٍ منه مُرتبطاً بالاِرتياب من التاريخ الوطني الّذي يُوصف عادة بالمزور والمغشوش. والحقيقة أنّني أصبتُ بالدهشة وأنا أُتابع فيديو على شبكة الإنترنت –قبل أسابيع- حيث يطرح الصحفي على بعض التلاميذ والشباب أسئلةً عن تواريخ وأحداث معلمية بارزة في تاريخ الجزائر، إلاّ أنّ جُلهم يعجز عن تقديم إجابةٍ صحيحة، وهو ما يعكس الفشل الذريع للمدرسة الجزائرية في تقديم معرفة تاريخية مُتكاملة تُراعي الجوانب التربوية والقيمية للمُتمدرسين.
نحنُ اليوم بحاجة أكثر من أي وقتٍ مضى إلى إعادة حقيقية للتاريخ في مناهجنا التربوية بما يتجه نحو تعميق روح التساؤل والاِستشكال، لا التلقين والتقديس والتنزيه. ولن يتأتّى ذلك دون إعادة النظر في مناهجنا التربوية التي تعتريها الكثير من النواقص والمطبات، وذلك بإسناد مسؤولية صياغة البرامج التربوية وإعداد الكُتب المدرسية للكفاءات التابعة للقطاع أساسًا وبمرافقة باحثين وجامعيين يشتغلون في ذات الرواق.
* صبرينة الواعر/أستاذة بالمدرسة العُليا للأساتذة آسيا جبار – قسنطينة
مساحة كبيرة لتاريخ الجزائر في المناهج لكنّها لا تقدم بالطريقة الصائبة
إنّ حضور تاريخ الجزائر في الكُتب المدرسية بمختلف مراحلها أمرٌ ضروري وحتمي، ذلك أنّه مرتبطٌ أساسًا بالاِنتماء الوطني وهو أيضا صورة من صور السيادة، ويحضرني في اللحظة ما كان يتلقاه التلاميذ الجزائريون خلال الحقبة الاِستعمارية من معارف تهدف أساسًا لمحو وطمس الهوية الجزائرية، وحرمان الجزائري من أبسط حقوقه المدنية -فعلى سبيل المثال لا الحصر- قرأتُ جملة في كِتاب خاص بتلاميذ الاِبتدائي في تلك المرحلة جاء فيه ما يلي: "بيار يأكل الخبز وعلي يأكل الطباشير"! هل يعقلُ هذا؟ زد على ذلك المعلومات التاريخية وحتّى الجغرافية المُزيفة، كربط حضارة ما قبل التاريخ في الشمال الإفريقي بالحضارة الموستيرية في أوروبا، وجعل البحر الأبيض المتوسط كحاجز مائي يفصل بين فرنسا والجزائر، كما يفصل نهر السين باريس. جميع هذه الأمور اِقتضت أن يكون لتاريخ الجزائر حضوره القوي في الكُتب المدرسية، وأنا أراه حاضرا بقوّة في كُتب الجيل الجديد على خلاف كُتب جيل السبعينيات والثمانينيات.
في الظاهر، أنّ ما تحتويه الكُتب المدرسية باِختلاف مراحلها كافٍ لتلقين التلاميذ بمختلف أطوارهم معارف مرتبطة بتاريخ الجزائر، لكن قضية العُمق فيها نظر، لأنّ ما أقرته المناهج التعليمية الجديدة يعتمد على تقديم معلومات غزيرة للتلاميذ وبخاصة تلك المُتعلقة بالحركة الوطنية الجزائرية والثورة الجزائرية خلال مرحلة التعليم المتوسط، وشِبه إقصاء للمراحل التاريخية الأخرى من تاريخ الجزائر، وهذا الأخير ليس الحركة الوطنية والثورة التحريرية فقط، بل فتراتٌ تاريخية عديدة كفترة ما قبل التاريخ، والتاريخ القديم، والتاريخ الإسلامي. قد يقول أحدهم أنّ الفترات القديمة موجودة في منهاج الاِبتدائي، فأجيبه بالقول هل تلاميذ الاِبتدائي وفي سنهم تلك لديهم القدرة على اِستيعاب التاريخ القديم؟ وهذا السؤال يجرنا إلى سؤالٍ آخر، هل تلاميذ المرحلة المتوسطة بمتوسط أعمار 12 إلى 15 سنة، لم ينضجوا فيها بعد، وأجسامهم تعرف متغيرات المراهقة، على مقدرةٍ لهضم واِستيعاب ما يُقدم لهم من معارف مُتعلقة بالحركة الوطنية والثورة التحريرية؟ هل صار لديهم حقًا وفي تلك المرحلة شعورٌ بالاِنتماء الوطني؟
أعتقد أنّ المنظومة التربوية منحت مساحة كبيرة لتاريخ الجزائر في مناهجها، وهذا أساسي ولا بدّ منه، لكنّها لم تُقدمه بالطريقة الصائبة التي يمكن من خلالها الوصول إلى نشر الوعي التاريخي لدى الجيل الجديد. فلحد الساعة لا زال التاريخ تلقينًا وسرداً للأحداث، على الرغم من أنّ الكُتب المدرسية تحوي وضعيات وسندات، لكن طريقة التعليم تجعل التلاميذ وحتّى الطلاب في التعليم العالي ينفرون من تخصص التاريخ لاِعتقادهم أنّه حفظٌ فقط، لذلك يتوجب على الهيئات المعنية وعلى الباحثين في التاريخ أن يتقنوا تعليمية التاريخ "Didactique de l’histoire" قبل أن يعرضوا معارفها.
لقد منحت البرامج التعليمية فضاءً واسعًا لتاريخ الجزائر، لكن العبرة هنا ليست بالكم وإنّما بالكيف، فالمعضلة في المناهج التعليمية هي طُرق التدريس وليس محتواها في الأساس، يجب تشجيع التلاميذ والطلاب على حب مادة التاريخ، ولن يكون هذا إلاّ بإتقان تعليمية المادة لجميع المدرسين في مختلف الأطوار الدراسية، وكذا إعادة ترتيب المناهج والبرامج بما يتوافق والمراحل العمرية المناسبة للمتمدرسين، حينها فقط يمكننا أن نُؤكد أنّ البرامج خدمت حقًا تاريخ الجزائر وأنصفته.
* عمر جبري/ أستاذ محاضر -جامعة سطيف 02
العاطفة والذاتية غالبتان
التاريخ هو عِلم التغيرات والاِختلافات والتطورات التي شهدتها المجتمعات البشرية سابقًا، وهو يُعتبر كذلك تربية على الإشكاليات التي تعيشها مُختلف المجتمعات البشرية اليوم، به نُنمي تعلِماتنا على معطيات واقعية وأحداث وتساؤلات، تنبعُ من قواعد معرفية وتصورات فكرية وأنماط تاريخية. وإذا كان الحاضر لا يوجد إلاّ لكونه قد خُلِقَ من الماضي فذلك لا يكفي لإبعاد الشكوك والتسليم بِمَا جاءت به مُختلف المصادر والسندات المدرسية والروايات الشفوية من خلال تفعيل حس نقدي للتاريخ البنّاء والهادف، الّذي لا يُمجد الشخصيات الثورية والوطنية أو يعبدها ويقدسها أيضا بِمَا قد يُثقل كاهل الماضي بأوزان مُميتة تقضي عليه بدون رجعة، هو ما يعني المُزايدة والتحامل على من صنعوا تاريخنا وماضينا في الوقتِ نفسه.
ويُعتبر التاريخ المدرسي مادة أساسية في التكوين الفكري والمعرفي للمُتعلِم خلال الأطوار التعليمية الثلاثة، وذلك بتطوير وتنمية فِكر المُتعلِم الاِجتماعي وتفعيل حسه التاريخي وتزويده بالأدوات المعرفية والمنهجية لإدراك أهمية الماضي في فهم الحاضر والتطلع إلى المستقبل، وتأهيله كذلك كفرد جزائري غيور على تاريخ وطنه لحل المشكلات التي ستواجههُ مستقبلاً.
وقد عرف تاريخ الجزائر عامة حضورا متنوعًا في فصول الكِتاب المدرسي للأطوار التعليمية الثلاثة بتلقينه للذاكرة الجماعية وتغذيتها وصيانتها من كلّ تحريف وتأويل أو تزييف اِنطلاقا من القاعدة إلى القمة، أو من الفرد إلى المجتمع، لننتج بذلك فكراً تاريخيًّا يكون لنا صمام أمان في ظل التربصات المُعادية للجزائر داخليًا وخارجيًا، خاصّة ما تعلق بتوظيف التاريخ لأغراض سياسيّة تخدمُ جهات ومصالح مختلفة، بعيدة كلّ البُعد عن محاولة قراءة التاريخ وتطويره، ذلك أنّ الذاكرة الجماعية هي من بين المرتكزات الأساسيّة للحفاظ على ثوابت الأمة.كما ورد تاريخ الجزائر في دروس الأطوار الثلاثة بأصناف وثائق ونصوص وخرائط وصور مختلفة ومنوعة فكان منها التاريخي السياسيّ والتاريخي الاِجتماعيّ والتاريخي الاِقتصاديّ والتاريخي الثقافيّ والتاريخ العسكريّ...، فتنوعت بذلك المفاهيم والمصطلحات والشخصيات وفقَ منهاج تربوي سنوي يُبنَى على أهداف خاصة وعامة من خلال تعليمات مرحلية، لكن هذا لا ينفي وجود فجوات تاريخية عديدة لم يغطها تاريخ الجزائر عبر عصوره المختلفة زمانيًّا ومكانيًّا لأنّه يُراعى في ذلك ما يُسمى بالتاريخ "الرسمي" والّذي تختار فيه مواضيع تجمع بين الجزائريين وتبثُ فيهم تلك اللحمة الوطنية بين مكونات المجتمع، إضافة إلى أنّه تاريخٌ مُبسط ومُلخص والهدف منه كذلك هو تعزيز الرّوح الوطنية والحس الثوري وتقريب البُعد الجغرافي الجزائري شرقًا وغربًا شمالاً وجنوبًا، وفْقَ المبادئ الإسلامية السمحة والّذي سطرته وزارة التربية الوطنية ومفتشيها في مقررات مادتي التاريخ والجغرافيا للأطوار التعليمية الثلاثة. ورغم ما يطرحه بعض الدارسين للتاريخ على أساتذتهم خاصّة في الأطوار النهائية للتعليم الثانوي من تساؤلات معرفية وتاريخية تنحصر خصوصًا في تاريخ الثورة التحريرية، قد تدفع بالعديد من الأساتذة اليوم إلى أن يجدوا لأنفسهم مخرجًا لتجاوز النقاش وعدم الخوض في بعض التفاصيل، مُراعين في ذلك سن الطالب وقدراته الذهنية، فهو أشبه بذلك الطفل الرضيع الّذي ينمو تدريجيًا والّذي لا يستطيع الأستاذ أن يعطيه معلومات تاريخية دسمة جداً قد تضرُ بصحته الفكرية، لكن الغالب على هذا التاريخ الرسمي وللأسف هو تلك العاطفة والذاتية التي نلمسها كثيرا في مقررات المنهاج المدرسي، وهنا يحضرني قول شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله: "الثورة ليست ثورة ملائكة ولا ثورة شياطين هي ثورة بشر قد يُخطئ من يخطئ وقد يُصيب من يصيب... فاكتبوا تاريخكم بأنفسكم".
* الصالح بن سالم/باحث في التاريخ الحديث -جامعة الأمير عبد القادر- قسنطينة
البرامج الدراسية الحالية لا يمكن التعويل عليها لتلميع صورة التاريخ
يَعتبر البعض بأنّ الحجم الساعي المُخصص لمادة التاريخ بالجزائر عبر الأطوار التعليمية الثلاثة غير كاف -يتراوح بين ساعة وساعتين في الأسبوع-، كما يَعتبر البعض الآخر بأنّ المُعامل المُخصص للمادة ضعيف جدا -يتراوح بين01 و04- مُقارنة ببعض الدول المُتطورة كألمانيا مثلا، لكن هل تمديد الحجم الساعي والرفع من مُعامل مادة التاريخ كفيل باِلتفات التلاميذ لهذه المادة وجعلها من أولوياتهم؟ شخصيًا أعتقد بأنّ عدم ميل أغلب التلاميذ لمادة التاريخ عبر الأطوار الثلاثة غير مرتبط لا بالحجم الساعي ولا بالمُعامل، بل بطريقة تدريس هذه المادة. فإذا أخذنا على سبيل المثال البرنامج الدراسي لتلاميذ التعليم المُتوسط في مادة التاريخ فإنّ المُتعلِم يستفيد من كمٍ معرفيٍّ كبير في التاريخ الوطني عبر أربع سنوات تُشكل مراحل هذا الطور بدايةً بتاريخ الجزائر القديم في السنة الأولى مرورا بتاريخ الجزائر الإسلامي خلال السنة الثانية وتاريخ الجزائر الحديث خلال السنة الثالثة وصولاً لتاريخ الحركة الوطنية والثورة التحريرية في السنة الرابعة، فالمُتمعن في هذه المحطات التاريخية يستنتج بأنّ المُتعلم الجزائري اِطلع ولو جزئيًا على مُختلف المراحل التاريخية التي عرفتها الجزائر. لكن السؤال المطروح هل يستوعب المُتعلِم كلّ هذه المعارف؟ وكيف تنعكس على حياته اليوميّة؟ وهل هذه المعارف سطحية وبسيطة أم عميقة ورصينة؟ وهل يستعمل المُتعلِم أسلوب الحِفظ والمُراجعة في عملية اِستيعابها أم أسلوب الاِستنتاج والاِستنباط والتحليل؟. أعتقد بأنّ تدريس مادة التاريخ بالجزائر بعيدٌ كلّ البُعد عن الطُرق الحديثة التي تعتمد على التطبيق بدل التنظير، ولهذا وجب علينا المُوازنة والمزاوجة بين التاريخ النظري والتاريخ التطبيقي، وذلك بإخراج المُتعلِم من الحجرات والأقسام إلى زيارة المتاحف والمواقع التاريخية. ففي السنة الأولى متوسط يدرس المُتعلِم تاريخ نوميديا الشرقية والغربية ومُختلف المظاهر الحضارية التي عرفتها الجزائر خلال العصر القديم، وبدل أخذ هذه المعارف بطريقة جافة وجامدة يُمكن تخصيص فترات كافية لزيارة المتاحف الوطنية التي تضم مختلف التُحف التاريخية التي ترتبط بنوميديا الشرقية والغربية، كما يمكن تخصيص زيارات لكلّ من ضريح المدراسن وقبر الرومية وصومعة الخروب ومُدن جميلة وتيمقاد وشرشال وتيبازة وروسيكادا... فهناك فقط يستطيع المُتعلِم أن يربط بين ما أخذه من نظري داخل القسم وبين ما شاهده في الواقع، فالصورة كما يُقال خيرٌ من ألف تعبير، ونفس الشيء بالنسبة للسنة الثانية متوسط حيث يُعرج المُتعلِم على الفتح العربي الإسلامي وتاريخ كلّ من الدولة الرستمية والحمادية والزيانية، فالشواهد الأثرية لهذه الدول مُتوفرة بكثرة في مختلف المتاحف والمواقع الأثرية بكلّ من قلعة بني حماد وتيارت وتلمسان وبجاية وبسكرة سواء كتُحفٍ أثرية أو شواهد معمارية.
وفي السنة الثالثة من التعليم المتوسط يتطرق المُتعلم لتاريخ الجزائر العثمانية والثورات الشعبية، فيمكن للمتعلم أيضا أن يزور مُدن قسنطينة والعاصمة والمدية ومازونة ومعسكر ووهران والتي تُمثل مناطق تمركز الأتراك سياسيًا وإداريًا، وبهذه المُدن يُعرج التلميذ على قِلاع وقصور ومتاحف ومعالم دينية وثقافية أين يطلع على التاريخ الحقيقي الواقعي وليس التاريخ النظري الجاف والمُمل، ويمكن للمُتعلم من خلال زيارة واحدة لمتحف المجاهد ومتحف الجيش بالجزائر العاصمة أن تغنيه عن ساعات طويلة لدراسة الثورات والمقاومات الشعبية داخل الحجرة، ولتغطية برنامج السنة الرابعة متوسط يمكن للمؤسسات التعليمية أن تستنجد بالذاكرة الحية من خلال التنقل لمنازل الشهداء والمجاهدين وإجراء حوارات بينهم وبين التلاميذ. لتحقيق هذا العمل الميداني على أرض الواقع حاليًا تجد المؤسسات التعليمية العديد من العقبات بداية بالمشكل المادي لتغطية تكاليف النقل والإطعام والإيواء مرورا بمشكل التأطير فأغلب أساتذة مادة التاريخ بالجزائر مكونون نظريًا فقط سواء في المدرسة أو الجامعة وصولا للوضعية المزرية التي تُعاني منها أغلب المؤسسات المتحفية والأثرية الجزائرية، وعليه لا يمكن التعويل على البرامج الدراسية في صورتها الحالية لتلميع صورة التاريخ لدى المُتعلمين.
* سلامة دربال/ أستاذ وباحث في التاريخ – جامعة باتنة 1
مادة جافة رغم أهميتها لخلل في طرائق التوصيل
الجزائر من الدول التي أولت الاِهتمام بمادة التاريخ لِمَا لها من مكانة بارزة في المناهج التعليمية لربط النشء بتراثه ووطنه وتُراث الإنسانية ولتحقيق تنمية شاملة تخصُ شخصية المُتعلِم ليعي بذاته ودوره نحو أمته، ويعدّ الكِتاب المدرسي واحدا من آليات التعليم التي لها أهمية وميزة يختصُ بها عن مختلف الوسائل التكنولوجية الحديثة.
لذا يتعلق حضور مضامين كُتب التاريخ المدرسية في بلدنا بمدى توظيفها خلال الحصص التعليمية من طرف الأستاذ، ومدى اِرتباط مُختلف السندات بمواضيع المناهج المحدّدة من طرف الجهات الوصية المُمثلة في وزارة التعليم، إضافة إلى ميولات التلاميذ المتنوعة ومدى اِستعدادهم لتلقي المادة التاريخية بالشكل والأسلوب الّذي يُواكب التحولات الجذرية في كلّ مجالات التعليم والمواد الأخرى، فمثلاً هناك دروس تتطلب الوسائط التكنولوجية لجعل التلميذ يغوص في حيثيات الأحداث التاريخية مُتأثرا بمجرياتها ولفت اِنتباهه بالخرائط المتحركة عبر الشاشات المُختلفة، خِلافًا لتلك الخرائط الجامدة من الكِتاب، فبعضها لم يتم تحيينها وأخرى لم تُحقق الهدف المُراد منها. وهناك مواضيع من التاريخ تتطلب زيارات ميدانية، إذ ورغم تعدّد الأصول التاريخية التي يُتيحها الكِتاب، إلاّ أنّها لا تفي بالغرض، فهناك متاحف وقصور ومعالم تاريخية تحوي الكثير من المعلومات لازالت قائمة تُمثل مختلف الحِقب التاريخية التي تخص تاريخ الجزائر تَصِلُ التلميذ بماضيه مُباشرة دون وسيطٍ ورقي أو تكنولوجي، عبر شرحٍ دقيق من قِبل أستاذ المادة أو دليل مختص على غِرار قصر أحمد باي بقسنطينة الّذي يروي مثلا -بوثائقه وصوره وتحفه- أوضاع الجزائر الاِجتماعية والثقافية والاِقتصادية في الفترة العثمانية.
رغم توفر كُتب التاريخ المدرسية على كمٍ هائلٍ من المعلومات تبقى المادة تُشكل لدى التلاميذ مادة جافة لعدم إدراكهم أهمية التاريخ الحقيقية وكيف يتم توظيف ما يدرسونه من فترات تاريخية خاصة تلك التي تخص تاريخ الجزائر، ومن خلال تجربتنا يبدو لنا أنّ الذكور أكثر اِستيعابًا للتاريخ واِهتماما به وهذا يرتبطُ بميولهم للتاريخ السياسي أكثر من الإناث، لكن على العموم نجد جيل اليوم لديه قناعة راسخة بأنّ التعليم هو تسوية وضعية والاِنتقال من مرحلة إلى أخرى، من عالم التعليم إلى عالم العمل والشغل، وتبقى نسبة ضئيلة لها حبٌ ثابت وتطلعٌ واسع بتاريخ بلدها، وأهميته في تكريس الوطنية. فثراء البرامج والمناهج في مادة التاريخ -خاصة في الطور الثانوي- لا يحقق تطلعات الدولة ما لم يقم الأستاذ بدوره في جذب التلاميذ نحو حب المادة وحب تاريخ الجزائر بالدرجة الأولى وكيف يُفيدنا ماضينا في حاضرنا لنخطط لمستقبلنا، من خلال تنمية مختلف المهارات لدى التلاميذ وجعلهم ينفتحون على كلّ القضايا التاريخية والمعرفية.
ثمّ إنّ مختلف الأنشطة والفعاليات الثقافية والتاريخية للمؤسسات التعليمية ترتبط أساسًا بأستاذ مادة التاريخ وهذا دليل على أهمية المادة ومدى عظم مسؤولية أستاذها في نشر الوعي التاريخي لدى التلاميذ من جيل اليوم، لكن تبقى أفكارنا مجرّد آراء ما لم تعضدها دراسات أكاديمية ميدانية تحسم الفرضيات المتعلقة بأهمية المادة في الواقع التعليمي ودور الكِتاب المدرسي في تفعيل البرامج والمناهج البيداغوجية المختلفة لتعزيز الثقافة التاريخية للجيل الجديد.
* سليم أوفة/ أستاذ وباحث في التاريخ الحديث والمعاصر-جامعة خميس مليانة
كُتب التاريخ تستند على المنهج السردي التلقيني بعيدا عن المنهج التحليلي والنقدي
رغم المجهودات التي تقومُ بها الدولة الجزائرية للاِهتمام بالتاريخ الوطني من خلال تخليد الأحداث التاريخية، والحِفاظ على ذاكرة الأجيال، ورغم توصيات القائمين على شؤون التربية والتعليم بتدريس التاريخ الجزائري لجيل اليوم، إلاّ أنّ التلاميذ والطلبة لا يحتفظون منه سِوى ببعض المحطات الكبيرة، بل الأكثر من ذلك، فقد تحوّلت مادة التاريخ إلى أكثر المواد غير المرغوبة بين تلاميذ المُتوسط والثانوي، إلى درجة التغيب والهروب عن حصصها، والنوم والضجر أو التنكيت خلالها، ووصل الأمر إلى حد المُطالبة بإلغائها من الاِمتحانات الرسميّة، فمن يتحمل المسؤولية؟ هل هو التلميذ المغلوب على أمره؟ أم المُعلم الغارق في دوامة تراكمات حالته الاِجتماعية والمهنية؟ أم يرتبط ذلك بمضمون الكِتاب المدرسي والمناهج المتغيرة من حينٍ إلى حين؟ أم هؤلاء جميعا؟ كما لنا حق التساؤل من زاوية أخرى: لماذا ينظر جيل اليوم إلى التاريخ الوطني رغم ثرائه نظرة شكّ وازدراء؟ وإلى متى يبقى تاريخ الجزائر الحافل رهين التجاذبات السياسيّة والأيديولوجيّة؟ وحبيس المذكرات والأقسام المدرسية؟ ولماذا عجزت منظومتنا التربوية عن ترسيخ بطولات وقيم جيل الأمس لجيل اليوم؟ وهل لمحتوى المناهج والبرامج التربوية في الكِتاب المدرسي دور في ذلك؟
تعرضت الجزائر خلال تسعينيات القرن العشرين لأزمة خانقة متعدّدة الأبعاد فرضت على القائمين إعادة النظر في المنظومة التربوية، فأقرت إصلاحًا شاملاً سنة2001م، تضّمنَ رؤية جديدة لتاريخ الجزائر بشكلٍ خاص في المناهج والكُتب المدرسية، يهدف إلى تعزيز الاِنتماء لدى المُتعلِمين بأركان الهوية الوطنية بمختلف أبعادها، فبالعودة للقانون التوجيهي للتربية الوطنية والمرجعية العامة للمناهج يُؤكدان على "تخصيص مكانة مرموقة للتاريخ الوطني لأنّه الوعاء الّذي نشأتْ فيه الهوية الجزائرية، والإطار الّذي ما فتئت الأمة الجزائرية تتطور فيه". وبِمَا أنّ الكِتاب المدرسي أداة وظيفية بالغة الأهمية في العملية التربوية، ووثيقة مُرافِقة تُقدِم معارف علمية تخضع للشروط العلمية التي تتلاءم مع مستوى التلاميذ لتنمية القُدرات والكفاءات، وتَبعًا لذلك عُدنا لنُفتش عن حضور تاريخ الجزائر في الكُتب المدرسية بالطور الثانوي لنتبيّن مدى عُمَّقَ معرفة التاريخ لدى التلاميذ والطلاب والمتمدرسين؟ وتحري مدى ترسيخ الثقافة التاريخية لديهم، وهل تلك البرامج والمناهج التاريخية خدمت حقًا تاريخ الجزائر وأنصفته؟ الظاهر أنَّ الكِتاب المدرسي في مادة التاريخ للسنة أولى ثانوي المتكون من128 صفحة، خصص منها 43 صفحة لتاريخ الجزائر (الفترة العثمانية)، بنسبة 33.60 %، أمّا كِتاب السنة ثانية ثانوي144 صفحة، منها 56 صفحة (فترة الاِستعمار الفرنسي للجزائر من 1830-1954م "المقاومات الشعبية والحركة الوطنية")، بنسبة 38.88 %، وفي كِتاب السنة الثالثة ثانوي (البكالوريا) عدد صفحات الكِتاب 236 منها 89 صفحة مخصصة لتاريخ الجزائر (الثورة التحريرية)، بنسبة 38.87 %، ومنه نُحصي نسبة معتبرة كما لمجموع حصة التاريخ الجزائري في الطور الثانوي بـ188 صفحة من أصل 508 صفحة في الكِتاب المدرسي، أي بنسبة 37.5 %، وللتذكير أنّ باقي المواضيع تنوعت بين تاريخ العالم الإسلامي والأوروبي، والحركات الاِستعمارية والتحررية، والحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة.وإذا ما دققنا في مكانة تاريخ الجزائر في الكُتب المدرسية، وتحرينا مدى تجاوبها مع الغايات والأهداف الجديدة التي نص عليها مشروع إصلاح المنظومة التربوية، نجد عِدة معوقات معرفية ومنهجية فيها، فلا نجده وحدةً مُتكاملة بل في شكل أشلاء مبعثرة ومرتبطة بفضاءات تاريخية مختلفة، مِمَا يخلق لدى المُتعلِم عدم الوعي بالتكوين التاريخي العميق للأمة الجزائرية، كما أنَّ المناهج المُتبعة في تأليف الكُتب المدرسية تستند على المنهج السردي التلقيني، بعيدا عن المنهج التحليلي والنقدي من جهة. ومن جهة أخرى نستخلص أنَّ محتوى منهاج تدريس التاريخ في الطور الثانوي غير مُطابقة للحجم الساعي، مِمَا يجعله كمًا هائلا من المعارف في منأى عن اِستيعاب المتلقي. ورغم ذلك وجب التذكير بأنّ التحليل الكمي لا يكفي وإن كان يعطي نظرةً واضحة عن الموضوعات التاريخية وحجمها، لذلك وجبَ تحليل مضمون الاِنتقال إلى تحليل بنية الخِطاب التاريخي المدرسي ودلالاته المعرفية والإيديولوجية. من زاويةٍ أخرى وجب الإشارة إلى أنّ الخِطاب التاريخي المدرسي في الكِتاب المدرسي يتميز بمعارف ونشاطات تربوية لا تُهيئ المتعلِم إلى اِكتساب القدرة على التحليل والاِستنتاج، لأنّ السندات المقدمة في غالبها ذات مضمون وصفي تقريري لا تشجع على النقد ولا تكرس لديه الرّوح الموضوعية والعقلانية التاريخية، وفيه التكرار لمعارف مُكتسبة سابقًا، وهذه كلها وكثيرٌ سواها جعلت مكانة التاريخ الجزائري مغيبة في المنظومة التربوية، ومادة التاريخ منبوذة للتلاميذ، ورموز وأبطال تاريخنا المجيد مجهولة، ومن أجل تعزيزها وجب: تخصيص حجم ساعي مُناسب لها في كلّ التخصصات، مع اِعتماد المادة في كلّ الاِمتحانات الرسمية، وتعزيز مضامين المناهج بِمَا يسهم في تكوين مواطن متمسك بوطنه ورموزه، وإسناد تدريس المادة لأساتذة أكفاء، ورفع المُعامل مع فتح المجال لإعادة النظر في الكِتاب المدرسي عبر الأطوار التعليمية بترتيب كرونولوجي أصيل ينطلق من عهد الإنسان الأوّل الجزائري في "تِيغَنِيف" قبل عشرة آلاف سنة إلى يومنا مرورا بالوجود الفينيقي، والاِستعمار الروماني، وثراء تاريخ الجزائر في الفترة الإسلامية، والعثمانية، وصولا لتعميق تاريخ الجزائر المُعاصر بعرض تحليلي نقدي لمحطات الاِستعمار الفرنسي في الجزائر، كلّ ذلك لتعزيز الاِنتماء الإفريقي والعربي والإسلامي للجزائر بطُرق علمية، وبمعارف منهجية دقيقة ترد على التحاريف والتشويه الّذي مس تاريخنا.