في روايته الجديدة: «الغجر يحبّون أيضا» (2019) يبني “واسيني الأعرج” عالما روائيّا نسيجه المحاكاة والانتساخ، يعيد به ومن خلاله إحياءَ واحدةٍ من أشهر قصص الفرنسيّ “بروسبير ميرميه”(p. Mérimée): «كارمن»(Carmen) التي صدرت طبعتها الأولى سنة 1845، وكان لاقتباس الموسيقار الفرنسيّ «بيزيه»(G. Bizet) لها في أوبرا بالعنوان نفسه سنة 1875 أثرٌ كبيرٌ في انتشارها وعالميّتها.
بهاء بن نوار
تبدو هذه المحاكاة على مستوياتٍ كثيرةٍ، أوّلها: تخيّر فسحة مكانيّةٍ مطابقةٍ في شقٍّ كبيرٍ من تفاصيلها لفسحة المكان في النص المرجعي: «الكوريدا» بكلِّ ما يعتمل فيها من قهرٍ ومغالبةٍ، يختصران ما تضطرم به الحياة نفسُها من صراعٍ واحترابٍ، ينسحب شررُهما على أوجهها كلِّها وتقاسيمها.
وثانيها، اِلتقاط ملامح الشخوص المرجعيّة، والنسج على منوالها؛ فتأتي الشخصيّة المفصليّة في هذه الرواية: «خوسيه أورانو» لتعكس في شقٍّ منها واحدا من ظلال شخصيّة المصارٍع في القصة: «لوكا»، وتعكس في الشقِّ الثاني بعضا من ظلال شخصيّىة: «دون خوسيه ليزابينغوا» حبيب كارمن وموضوع فتنتها وغوايتها. فيما تبدو «أنجلينا» في جزءٍ كبيرٍ من تجلّيها «كارمن» نفسها، من حيث ثقتها المفرطة في نفسها، وتقلّب مزاجها، واندفاعها المحموم في الحب، والرفض، والتمرّد؛ فهي الأنثى المراوغة لموضوع عشقها؛ خوسيه، المخلِفة لوعودها ومواعيدها، والمصرّة على أن يظلّ «انتظارها قسوة، لأنّها وحدها تحدّد مواقيتَ اللقاء»(ص136) وهي ابنة الشارع المولعة بالرقص والفرح واقتطاف مسرّات الحياة ومباهجها، وهي الزوجة الثائرة على ذاك الرباط القدَريّ الذي يجمعها بزوجها: «غارسيا بيكينيو» – أي الصغير – الذي يحمل – وياللمصادفة!- الاسمَ الأول نفسه الذي يحمله زوجُ «كارمن»: «غارسيا الأعور»(Garcia le Borgne)
وقد برع الكاتبُ كثيرا في دمج ملامحها الحميمة بملامح نظيرتها، فاستحضر بمشهد شجارها الكرنفاليّ مع الفرنسيّة «مادلين» مشهدَ شجار «كارمن» مع إحدى زميلاتها في العمل، وأعاد تأكيده بالإشارة إلى شجارٍ آخر لها مع «إيمانويلا»؛ إحدى غريماتها، وإقدامها على تشويه وجهها بوشمٍ أبديّ(ص132) تماما كما فعلت «كارمن» بتشويه وجه عدوّتها، ووشم صليب القدّيس «أندراوس» على خدِّها.
ولم ينِ يشير إلى انتصارها المطلق للحريّة والكرامة الإنسانيّة؛ فهي مع الثور المغدور دائما، وهي عاشقةٌ ثائرةٌ، ومتطرّفةٌ، ولا تساوم أبدا فيما يمكن أن يمسّ حريّتها أو مبادئها، بل هي مستعدّةٌ للتخلّي عن حبيبها، و الدوس على قلبها، بعد أن تبيّن لها قصرُ نظره، وعجزه عن فهم قضيّة الثوّار الجزائريّين، وسعيهم نحو تحرير أرضهم من الغزاة. وكم كان مشهد شجارها معه وشتمها إيّاه قريبا من مشهد شجار «كارمن» مع «خوسيه» وشتمها له حين خذلها بتردّده، وخوفه من عصيان الأوامر، والتأخّر عن نوبة حراسته! وكذلك كان مشهد سهرتهما الحميمة، وقد صدحت موسيقى «بيزيه» وعلا مقطع «الهابانييرا» الشهير: الحبّ طائرٌ متمرّد...» المحاكي تفاصيلَ حالة العشق هذه، وحميميّاتها.
إنّها باختصارٍ شديدٍ وجهٌ مرآتيٌّ منشطرٌ عن وجه «كارمن» ومتماهٍ معه، وإن كان الكاتبُ قد اجتهد كثيرا في سبيل ألا تكون مجرد نسخةٍ كربونيّةٍ عنها، فحاول الحدَّ قليلا من جموحها، وترويضها قليلا، بأنْ جعل لها أبا تحبّه كثيرا، وتتعلّق به، ولا تقوى على خذلانه، وإغضابه؛ فلا تجد غضاضةً من السماح له باختيار الرجل الذي سيقاسمها حياتها، ومصيرَها، رغم أنّها لا تطيقه! وحرصا على إرضائه وعدم إقلاق راحته تسمح له بأن يعزرها، ويعيدها صاغرةً إلى هذا الزوج بعد كلِّ شجارٍ يحصل بينهما، بل إنّها لشدّة رأفتها بأمِّها – التي بكت كثيرا في حياتها – تسمح لأهل زوجها بامتهان جسدها، وتخضع لطقوسهم المعقدة وهم يجسّونه، ويفحصونه، للتأكد من عفّته، ونقائه.
وكذلك أمعن في تصوير غيرتها، وتهديدها الصاخب بقتل أيّة امرأة أخرى تحاول الاقتراب من حبيبها، في حين أنّ كارمن ميريميه لم تكن أبدا امرأةً غيورا، لأنّها ببساطةٍ معصومةٌ عن تجرؤ أيّة أنثى سواها على منازعتها فنونَ العشق والغرام.
وهي كذلك – كما يذكر عرَضا – تختلف عن كارمن السمراء بأنّ بشرتها شقراء، وإن كانت تصرّ على تذكيرنا بها بإصرارها على التشبّث باللونيْن: الأحمر والأسود؛ لونيْ السحر والغواية الملازميْن لنظيرتها.
وهكذا يمعن واسيني في محاولة الخروج عن حدود الشخصيّة المرجعيّة، وكم كان بارعا حين أوحى بهذا لدى وصفه ثيابَها في منازلة «خوسيه» الأخيرة: «نزعت المرأة رداءَها الأبيض، وبان لباسُها الأحمرُ والأسودُ، ووردتُها البيضاءُ على جنبات شعرها»(ص227) ففي مثل هذا المقطع يلتحم في تكوينها الروحيّ الوجهان؛ الملائكيّ والشيطانيّ، تماما مثلما أراد لها الكاتبُ أن تكون، غير أنّ لي رأيا في مثل هذا التماهي والخروج عن خصوصيّات المرجع وتفاصيله: هل من مصلحة الرواية الجمعُ بين هاتيْن الحاليْن ومحاولة ترويضهما في الفسحة النصيّة الواحدة؟
هنا أعود إلى وصيّة الناقد اللاتينيّ القديم «هوراتيوس» في سياق حديثه عن بناء الشخصيّة المسرحيّة: «اِقتفِ أثرَ السلف، أو فلتبتكرْ شيئا متماسكَ الأجزاء...» وأجدها ضروريّةً جدّا في هذا السياق، فإصرار الكاتب على التناوس بين الوفاء للمرجع والتمرّد عليه، ورّطه في نوعٍ من الهشاشة الفنيّة، بدت من خلالها الشخصيّة المفصليّة: «أنجلينا» على غايةٍ من التشوّش وعدم التماسك؛ فلا هي استمرّت في وصل ذهننا بنظيرتها «كارمن» ولا هي استقلّت ببناءٍ نفسيٍّ خاصٍّ بها، بل إنّ اسمها ذا المعنى الملائكيّ يقف على النقيض من اسم سابقتها الشيطانيّ، ويحيل الذهنَ إلى اسم شخصيّةٍ أخرى تراءت في النسخة الأوبراليّة من هذا العمل، وهي شخصيّة «ميكائيلا» الفتاة الجبليّة البريئة، وخطيبة «دون جوزيه» المخذولة، ممّا يرجّح – حسبما أرى – أحدَ أمريْن: إمّا أن يحتفظ الكاتبُ باسم «أنجلينا» ويركز على الوجه الملائكيّ لديها، أو يختار لها اسما آخر إغوائيّا، ويطلق العنانَ لطاقاتها الشيطانيّة.
هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ، وبتأمّل شخصيّة الزوج؛ «غارسيا» ألاحظ أيضا هشاشتها، وعدم تماسكها، فهو واحدٌ من مناصري الثوّار، يؤمن بقضيّتهم، ويخاطر بحياته مع والد «أنجلينا» في سبيل مساعدتهم، وتهريب الأسلحة لهم، ولكنّ الكاتب لا يتردّد في نسف هذه الصورة الإيجابيّة عنه، ومسخه إلى مجرد مخبرٍ، وجاسوسٍ، لا يتورّع عن الوشاية بحماه، وتسليمه للأمن، وهو لا يفعل هذا إلا كي يبرّر هجرَ الزوجة ونفورها منه، ليقع بهذا من نوعٍ من «الشيطنة»(Diabolisation) تنال الزوج دون غيره، فهو السيّئ والشرير، والقاسي، واللئيم، والحقود، والقبيح، ولذا لا مانع من خيانته، وهجره إلى حبيبٍ بارعٍ ووسيمٍ وخيِّرٍ، واستثنائيّ؛ هو «خوسيه» المصارع، وهو واسيني نفسه في «طوق الياسمين» الرواية السير-ذاتيّة، التي نسخت هذه الرواية أجواءها؛ فلدينا العاشق المغوار/ واسيني، ولدينا العاشقة الجميلة/ مريم، والزوج الكريه/ جعفر، أو جيف.
وهي الحديّة، التي لم تخل منها أغلب أعماله، حيث التصنيفُ الصارمُ، والقولبة المكرورة للشخصيّات؛ فالمتديّن بغيضٌ جدّا، وعنيفٌ، وعدوانيٌّ، أو في الأقلّ ساذجٌ، وبليدٌ، أمّا المثقّف/ المتحرِّر دينيّا وجنسيّا، فهو المبدعُ، والمتمرّدُ، والرائعُ، وهو الثوريّ دائما، وسارقُ النّار، والمثقلُ بنبل القلق، وعنفوان السؤال.
وعلى مستوى آخر هو الفسحة الزمانيّة، فإنّ ما يلفت الانتباهَ براعة الكاتب وحسن اختياره، الذي أتاح له اقتناص فترةٍ مفصليّةٍ في تاريخ النضال الوطنيّ؛ فترة بداية الثورة منتصف الخمسينيّات، حيث أمكنه اِلتقاط ملامح شخصيّة «زابانا» وملء بعض ثغراتها بفيضٍ من مخيّلته الأدبيّة، وروحه الفنّيّة الخصبة، وأتاح له أيضا اِلتقاط واحدةٍ من أهمّ التحف الأدبيّة العالميّة: كارمن ميريميه، وإلباسَ شخصيّاته بعضا من أقنعتها وأوجهها، كما اِلتقط أيضا وبحذقٍ يُحسَد عليه أجواءَ الكوريدا، ولوّن حياة الشخصيّة المحوريّة: «خوسيه» بكثيرٍ من تراجيديّة حياة المصارع، وقلقها، وكانت الفسحة النصيّة مناسبةً جدا لاستحضار كثيرٍ من معلوماته الثريّة حول أسرار مهنة المصارعة وطقوسها، ولاستحضار أشعار «لوركا» في رثائه صديقَه المصارع «مخياس» أو في غزليّاته الرقيقة، بكامل السلاسة والإتقان.
ولكنْ، هل يكفي هذا الاختيار البارع لبناء روايةٍ بارعةٍ؟ مع الأسف الشديد: كلا، لم يكن هذا الاختيارُ لمصلحة النص، بل لقد أضرّ بعمقه وجماليّته كثيرا، فإصرار الكاتب على الجمع بين البعديْن؛ المحليّ والعالميّ، يحتّم عليه نفَسا طويلا لإيفاء كلِّ واحدٍ منهما حقّه من الاستغوار والتحليل، وهو ما لم يتمكّن من تحقيقه، فكان تركيزه الشديد على طقوس الكوريدا فائضا جدّا، ومُصادِرا بقيّة العناصر، فيما لم يزد البعد الوطنيّ على أن يأتي باهتا، وسطحيّا، ومقحَما أيضا؛ فلم أجدْ أيّة ذريعةٍ فنّيّةٍ للربط بين منيّة «خوسيه» ومنيّة «زابانا»، ولم يكن تداعي مشهد إعدامه في ذهن المصارِع لحظة احتضاره سوى محاولةٍ غير ناجحةٍ من الكاتب لتعميق المعنى التراجيديّ وتأكيده؛ فلم يكن الجزائريّ الثائرُ هنا ليزيد على أن يكون واحدا من أصدقاء الأندلسيّ/ الفرنسيّ الكثيرين، وكان في حياته من هم أشدّ قربا منه ولصوقا: حبيبته «أنجلينا» مثلا، أو ابنته المنتَظرة «إزميرالدا»، أو حتّى الثور القتيل/ القاتل: «مويرتي».
وهو المطبّ نفسه الذي شاب روايته السابقة: «مملكة الفراشة» التي أصرّ فيها على الجمع بين فترتيْن زمنيّتيْن لا يمكن أبدا أن تجتمعا، ويحتاج كلُّ واحدٍ منهما إلى روايةٍ مستقلةٍ: فترة العشريّة السوداء زمن التسعينيّات، وفترة ثورة الانترنيت، وتورّم مواقع التواصل الاجتماعيّ منتصف القرن الحادي والعشرين وما بعده!
وتبقى لي في الأخير ملاحظتان، أولاهما عن تبعثر كلماتٍ عاميّةٍ كثيرةٍ باللهجة المشرقيّة، مثل: «راح أسقط»(ص77) «ما راح تخلص منّي»(ص90) «خلص، الآن، يا أنا يا أنت»(ص99) «كنت حابب أسألك عن الموضوع»(ص114) ولا أرى في هذا سوى إمعانٍ في إضعاف ملامح الشخصيّة، وتمويهها.
أمّا الملاحظة الثانية فعن تفاصيل مصرع الثور و»خوسيه» كليْهما، وكان تصويرا بارعا حقّا، باذخ الوصف، ومضمّخا بروح المأساة الصافية. ولكنْ، أكان لزاما على الكاتب أن يقع في مثل هذا الافتعال: أن يختار للثور طعنة الإستوكادا القاضية، التي «هي الضربة الأخيرة، وهي أيضا رصاصة الرحمة التي توقع الثورَ أرضا مرّةً واحدةً، ولا يتعذّب»(ص66) وأن ينفّذها «خوسيه» بإتقانٍ محكمٍ قلّما نجح فيه، وإذا بالثور فجأةً، وبقدرة قادرٍ يغادر جراحَه، وينقضّ على خصمه، ليهويا معا في موتٍ تراجيديٍّ مُدوٍّ!
أعتقد أنّ هذه الصورة غير مقنعةٍ، وكان الأجدى اختيارُ واحدٍ من ثلاثة احتمالاتٍ: إمّا الاحتفاظ بلحظة الإستوكادا، فيُقضى على الثور وحده، ويُبتكر للمصارع – ما دامت منازلته الأخيرة – موتٌ آخر، على يد الزوج الغيور «غارسيا» مثلا، أو أن ينتصر الثورُ، ويعرِّق خصمَه ظلفا وقرنا، فتُستدعى نهاية المصارع في كارمن ميريميه الدامية، أو ألا تكون ضربة «خوسيه» قاضيةً حقّا على مويرتي، بل تكون ضربةً عنيفةً، ولكن غير قاتلة، يمكننا من خلالها أن نصدّق قيامَه فجأةً، وانتقامه من غريمه، دون أن نشعر بشيءٍ من الإقحام والغلوّ.