كَثر الحديث في السنوات القليلة الأخيرة عن الذّكاء الاِصطناعي وعن دوره في الفن والأدب، وما مدى تأثيره عليهما؟ وعن طُرق توظيفه، وهو أمر لا يزال يطرح نقاشات وإشكالات والكثير من الجدل. ومن بين أهم الأسئلة المطروحة: هل يُؤثر الذّكاء الاِصطناعي في/ وعلى الأدب وكيف؟ وهل يُساهم في اِنتشاره على أوسع نطاق؟، أيضاً هل يمكن للذّكاء الاِصطناعي أن يفتح آفاقًا جديدة للأدب والإبداع، أم هو مجرّد أداة، وسيبقى مجرّد أداة؟ وما هي آليات أو سياقات اِستخدام الذّكاء الاِصطناعي في الأدب وكيف؟ وما هو الدور الّذي يمكن أن يُقدمه للأدب أو لعالم الأدب؟ وهل من شأنه -حقًا- أن يُعيد تشكيل معالم الأدب، أو أن يمنح الأدباء والقُرّاء أدوات جديدة تُمكنهم من التفاعل مع الأدب بطُرق مختلفة.
أعدت الملف: نـوّارة لحـرش
حول هذا الموضوع «الذّكاء الاِصطناعي والأدب»، أو «الأدب وتحديات الذّكاء الاِصطناعي». كان ملف هذا العدد من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من النُقاد والباحثين الأكاديميين، الذين تناولوا وقاربوا الموضوع كلٌ من زاويته وحسب وجهات نظر مختلفة ومتباينة، لكنها تلتقي وتتقاطع في الكثير من النقاط، كما تختلف في بعض التفاصيل.
* الباحث والناقد عبد القادر فيدوح
يتيح طرقا جديدة لتطوير الإبداع
يقول الباحث والناقد، الدكتور عبد القادر فيدوح: «يُمثل الذّكاء الاِصطناعي أحد العوامل المُبتكرة التي يمكن أن تُحدِث تحولاً في طريقة تطوير الأدب بشكلٍ عام. من خلال قدرته على مُعالجة كميات ضخمة من المعلومات، وتحليل الأنماط اللغوية، كما يتيحُ الذّكاء الاِصطناعي طُرقًا جديدة لتحفيز الإبداع الأدبي وتطويره؛ كأن يُساهم في تسريع إنتاج النصوص الأدبية، وتقديم أفكار جديدة لكِتاب؛ لم يكن لديهم تصورات عنها، ما يفتح أمامهم آفاقًا واسعة لاِستكشاف أساليب جديدة».
كما يرى المُتحدث أنّ الذّكاء الاِصطناعي يُؤثر في الأدب، إذ يقول بهذا الخصوص: «يعد الذّكاء الاِصطناعي فرعًا من فروع علوم الحاسوب، ويُؤثر في الأدب بعِدة طُرق. فهو يُساعد على أتمتة Automation بعض المهام، مثل التدقيق اللغوي والتحرير، مِمّا يُوفّر وقتًا وجهدًا للكُتّاب».
كما يمكن للذّكاء الاِصطناعي -حسب الدكتور فيدوح دائماً- أن يولِّد نصوصًا إبداعية بأنماط وأساليب مختلفة، مِمّا يفتح آفاقًا جديدة للتجارب الأدبية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن اِستخدام الذّكاء الاِصطناعي في تحليل النصوص الأدبية، وكشف الأنماط والاِتجاهات فيها، مِمّا يُساعد على فهم الأدب بشكلٍ أعمق.
أمّا عن إمكانية مُساهمة الذّكاء الاِصطناعي في اِنتشار الأدب، فيؤكد المُتحدّث هذا الأمر، قائلاً: «بطبيعة الحال يُساهم الذّكاء الاِصطناعي في تنويع أشكال التعبير الأدبي من خلال توفير إمكانيات جديدة، وتحدي التقاليد المُعترف بها، ويمكن اِستخدامه لتوليد أعمال تفاعلية، كما يمكن أن يكون سندًا ثمينًا للكُتّاب، في اِستكشاف آفاق إبداعية جديدة، وتحسين جودة عملهم وزيادة إنتاجيتهم، ويمكن لبرامج الذّكاء الاِصطناعي تعزيز التبادل الثقافي واللغوي بين الثقافات المُختلفة، ويُتيح فهمًا أعمق للأعمال الأدبيّة العالمية عن طريق ترجمتها آليًا إلى اللّغة العربية».
مُضيفًا في ذات السّياق: «يُمكن للذّكاء الاِصطناعي أن يفتح آفاقًا جديدة للأدب والإبداع، إذ يُوفر إمكانيات مُبتكرة لتوليد الأفكار الجديدة، وتوسيع أساليب الكتابة، وتجربة طُرق غير تقليدية في السرد. مع ذلك، يبقى في جوهره أداة يعتمد اِستخدامها وتوجيهها على الإنسان، الّذي يظل المسؤول عن الإبداع الفعلي. وبالتالي يبقى دور الإبداع في يد الإنسان».
ثم أردف: «يُستخدم الذّكاء الاِصطناعي في الأدب عبر أدوات تُساعد في توليد النصوص، وتحليل الأساليب اللغوية، عبر إنشاء شخصيات وحبكات جديدة. ويتم ذلك من خلال تقنيات مثل التعلم الآلي، والشبكات العصبية، التي تُمَكِن الذّكاء الاِصطناعي من مُحاكاة الأنماط الأدبية، واكتشاف طُرق غير تقليدية للسرد، مِمَا يدعم الكُتَّاب في توليد أفكار مبتكرة وتطوير أعمالهم. فضلاً عن ذلك، يعتمد على تقنيات التعلم الآلي لفهم الأنماط اللغوية والإبداعية، مِمَا يُساعد الكُتّاب في خلق محتوى جديد أو تحسين كتاباتهم».
ذات المُتحدّث أشار إلى الدور المُهم الّذي يمكن أن يُقدمه الذّكاء الاِصطناعي للأدب ولعالم الأدب، من خلال تعزيز الإبداع، وتوسيع آفاق الكتابة، وتسريع عملية الإنتاج الأدبي. كما يُمكنه مساعدة الكُتّاب في تجاوز القيود التقليدية، وتحفيز الأفكار الجديدة، مُما يؤدي إلى تطوّر الأدب بطُرق مُبتكرة.
ويشمل هذا الدور -حسب الدكتور فيدوح- العديد من المجالات التي تُعزّز تطوّر الأدب وتُساهم في إثرائه. لعل من أهمها، -حسب رأيه-: أوّلاً: «(التحفيز على التفكير النقدي): من حيث إن الأدب يُعزز القدرة على التفكير النقدي والتحليلي. من خلال طرح قضايا أخلاقية واجتماعية وفكرية في النصوص الأدبية، ويدفع الأدب القارئ إلى مُراجعة أفكاره وتوجهاته الشخصية».
ثانياً: «(المشاركة في الحياة الثقافية): إذ يمكن للأدباء والمثقفين تنظيم الندوات والفعاليات الأدبية التي تسهم في تشجيع الحوار الثقافي، وتعزيز الاِنفتاح على الأفكار والأنماط الأدبية المختلفة».
وخلص إلى القول: «بالمُجمل، من شأن الذّكاء الاِصطناعي أن يُعيد تشكيل معالم الأدب، ويمنح الأدباء والقُرّاء أدوات جديدة تُمكنهم من التفاعل مع الأدب بطُرق مختلفة، ما يُؤدي إلى تنوع أكبر في الأشكال الأدبية وطُرق سرد القصص».
* الأكاديمي والناقد والمترجم محمّد داود
اختراع إنساني يمكن من تطوير بنيات السرد ومستويات اللغة
يؤكد الناقد والأكاديمي والمُترجم الدكتور محمّد داود أنه: «في البداية لا بدّ من التذكير أنّ الذّكاء الاِصطناعي هو وسيلة من الوسائل التكنولوجية التي اِبتكرها الإنسان لحل بعض المشاكل التي تعترضه في حياته اليومية سواء تعلق الأمر بالقضايا العلمية أو الثّقافيّة أو السياسية أو الاِقتصادية والاِجتماعية، أو غيرها من المسائل التي قد لا تخطر على البال».
مُضيفاً في ذات النقطة: «ومثلما اِبتكر الإنسان عِدة وسائل للعيش في راحة تامة والاِستمتاع بالحياة نذكر منها الطباعة والهاتف والمذياع والتلفاز والوسائل التكنولوجية الحديثة والسيارة والطائرة، يُواصل في اِبتكاراته واِنجازاته الجديدة مثلما يعرف حاليًا بالذّكاء الاِصطناعي، وهو في مجال الكتابة الأدبية قد يُوفر إمكانيات كبيرة للأديب في صياغة نصوصه وتطوير البنيات السردية لرواياته وتحسين مستوياتها اللغوية والرمزية، مع توليد مضامين ومحتويات جديدة لتلك النصوص». لكن ما يُعاب على الذّكاء الاِصطناعي -حسب الدكتور داود- هو أنّه يميلُ إلى السهولة في تلك العمليات التي قد ينزلق بالأديب إلى الاِحتيال وسرقة بطريقة «ذكية» للمجهودات التي قام بها الآخرون من الكُتّاب في مجال الإبداع. وهو الأمر الّذي -كما يضيف- يقتضي مستوى معينا من الأخلاقيات واحترام الأعراف الأدبية التي تقتضي التفرد والأصالة في الإبداع، لا التقليد الأعمى والسرقة الموصوفة. ثم يستدرك قائلاً: «ومن هنا السؤال المركزي حول هذه التقنية الجديدة التي غزت وتغزو العالم بإنتاجها للملايير من الكلمات والصور والفيديوهات وغيرها من الأدوات الترفيهية والتثقيفية، هل سيندثر الإبداع البشري ويحل محله الذّكاء الاِصطناعي؟ عِلمًا أنّ هذا الأخير هو آلة من الآلات التي تشتغل وفق برامج ذكية وخوارزميات، لكنها لا تملك ما يملكه الأديب من حساسية وسعة الخيال وقدرته على الاِشتغال على اللّغة بشكلٍ مُبهر».
ويضيف مُتسائلاً: «بمعنى آخر: فهل يُهدّد الذّكاء الاِصطناعي الكتابة الأدبية أو بالعكس فإنّه يُساعد على تبلور نهضة أدبية جديدة تسهم في تنشيط الحياة الثّقافيّة وتعطيها ديناميكية مُتميزة».
ويُواصل في ذات السّياق: «الجدير بالذِكر أنّ الأدب كان منذ القِدم إلى الآن أكبر حيز للتساؤلات الفلسفية المُرتبطة بالمراحل التّاريخيّة المُتعاقبة وبالسّياقات السّياسيّة والاِجتماعيّة المُتباينة، مِمَّا يجعلنا نتساءل عن أهمية هذا الذّكاء الاِصطناعي في التحوّلات الكُبرى التي تعرفها البشرية».
ثم أردف مستطرداً: «فمثلما أحدثت الطباعة ثورة في عالم الكُتُب والصحافة واستطاعت أن تسهم في اِنتشارهما بشكلٍ واسع في بداية النهضة الأوروبية، وقد اِنتقلت إلى العالم العربي وحفزت الكُتّاب والصحافيين على نشر ما جادت به قرائحهم وما توصلوا إليه من تحاليل واستقصاءات، لكي يكون ذلك في متناول القُرّاء الباحثين عن المعرفة الأدبية والأخبار المتنوعة، فيما سُمِيَ آنذاك «بثورة قوتنبرق» التي كانت مقدمة لثورات علمية وثقافية وفكرية أخرى قادت العالم نحو التطوّر والاِزدهار منذ القرن الخامس عشر إلى الآن».
وهنا خلص إلى القول: «في هذا الاِتجاه يُمكننا أن نقول أنّ الذّكاء الاِصطناعي سيلعب ربّما دورًا في تجديد التعامل مع الكتابة الأدبية، وسيقدم دعمًا قويًا لاِنتشار النصوص الأدبية، هذا مع العلم أنّ الذّكاء الاِصطناعي لا يعوض الجهد الإبداعي للأديب وإن قَدَمَ له بعض التسهيلات وساعده في حل بعض المشاكل الخاصة بالكتابة».
* الناقد والباحث الأكاديمي محمّد الأمين لعلاونة
الأدب كظاهرة إنسانية في خطر فعلا
يقول الناقد والباحث الأكاديمي، الدكتور محمّد الأمين لعلاونة «إذا أردنا أن نتساءل هل أَثَرَ الذّكاء الاِصطناعي على الأدب فإنّنا سنجيب بالتأكيد بنعم، لأنّ الذَّكاء الاِصطناعي لم يُؤثر على الأدب فقط؛ بل أثر على جميع مناحي الحياة البشرية التي يُعد الأدب جزءاً منها، فبرامج مثل chatgpt وOpen AI أصبحت اليوم قادرة على إنتاج خطابات ونصوص خالية من الأخطاء النحوية والتركيبية».
ومُستدركاً أضاف: «بل ذهبت أبعد من ذلك عندما اِستطاعت إنتاج نصوص جمالية وروايات كاملة وهو ما نجده مثلاً في رواية (الطريق) (1 the Road) التي حاول الذّكاء الاِصطناعي أن يُحاكي فيها رواية (جاك كيرواك)، ما يجعل الأدب في خطر فعلاً حسب تيزفيان تودوروف، ذلك أنّ الأدب ظاهرة إنسانية تتداخل فيها المشاعر والأحاسيس والتجارب وهي العناصر التي لا نجدها في الذّكاء الاِصطناعي الّذي يعتمد على الخوارزميات وفقط».
ثم أردف: «إذا تحدثنا على مساهمة الذّكاء الاِصطناعي في اِنتشار الأدب، فإنّنا سنتحدث عن مجموعة هائلة من الخوارزميات المُتعلقة بالقُرّاء من جهة، وبطبيعة الأعمال الرائجة من جهة أخرى، فعالم اليوم هو عالم الخوارزميات بلا شك، وهو الأمر الّذي يجعل الذّكاء الاِصطناعي أكثر فاعلية في عرض الأعمال الأدبية على قُرّاء بعينهم وفق نتائج البحث المختلفة لأولئك القُرّاء وهو ما نشاهده مثلاً على مواقع التواصل الاِجتماعي».
وفي ذات الفكرة، أضاف: «إذ أنّك وبمجرّد البحث عن منتج مُعين إلاّ وستجد أنَّ إعلاناً مُتعلقًا بِمَّا تبحث عنه قد أُدرج في فيديو أنت بصدد مشاهدته ما يجعلك تتساءل عن كيفية قراءة الفايس بوك لأفكارك، ليتضح مُؤخراً أنَّ إدارة الفايس بوك تقوم بالتجسس على خصوصيات المُشتركين بعرضها في شكل خوارزميات وهو ما جعل عديد المهندسين التابعين للفايسبوك أو لغوغل يستقيلون من مناصبهم لاِعتقادهم أنّ ما يقومون به مناف للأخلاق، إذًا فالذِّكاء الاِصطناعي لا ينظر إلى الأدب أو إلى الكتاب كشيء معنوي أو جمالي بقدر ما يراه سلعة يمكن أن يعرضها على متلقٍ/ مستهلك في إطار ربحي وفقط».
وهنا قال مؤكداً: «يمكن أن يفتح الذّكاء الاِصطناعي آفاقاً جديدة للأدب عن طريق ما يُسمى بالأدب التفاعلي الّذي يُمَكِن القارئ من التفاعل مع عديد النصوص الرقمية التي تعتمد على نظام الواحد والصفر Binary System كما أنّ الذّكاء الاِصطناعي وسيلة فعّالة لترجمة النصوص الأدبية إلى مختلف اللغات، إضافةً إلى تمكنه من تحويلها إلى مقاطع صوتية يمكن أن تُساعد المكفوفين من ذوي الهمم وتوصل إليهم النص بطريقة سلسة وسهلة».
هذا بالإضافة -حسب ذات المتحدث- إلى اِستطاعته رقمنة النصوص الأدبية القديمة وإخراجها للقارئ بطريقة تختصر الكثير من الوقت والجهد، كما أنه مُسوقٌ بارع للكُتُب الأدبية المُتنوعة عن طريق اِعتماده على الخوارزميات، وهو ما يجعل من الذّكاء الاِصطناعي -حسب رأيه- وسيلة مُساعدة للعملية الأدبية، غير أنّه يبقى الحذر من مستقبله ومن نُسخه المُعدلة التي يمكن أن تُنافس الأدب كظاهرة إنسانية خالصة.
المُتحدّث، يُؤكد من جهة أخرى، أنّه (نعم) يمكن أن يفتح الذَّكاء الاِصطناعي آفاقا جديدة للأدب من خلال النصوص التفاعلية التي يمكن أن يتشارك فيها المُؤلف مع الذَّكاء الاِصطناعي، وبالتالي إنتاج نص هجين يسمح بإعادة تعريف الظاهرة الأدبية ككلّ.
كما أنّه -كما يقول- يمكن أن يُساهم في هجرة الآداب عن طريق الترجمات الفورية للنصوص وتقديم أشكال سردية جديدة تتماشى وعصر العولمة الّذي نعيش فيه، كما أنّه يُمَكِّنُ القارئ من معرفة خصوصية كلّ جنس أدبي ومن صاحب النص في لمح البصر.
ليبقى الذَّكاء الاِصطناعي -كما أشار في الأخير- «سلاحاً ذا حدين، يمكن أن يُساعد الأدب كما يمكن أن يُعرضه للخطر، وهذا ما نخشاه خاصةً وما تقوم به شركات الذَّكاء الاِصطناعي من تطويرات رهيبة تُهدِدُ الإنسان وفُرصه في العمل والإبداع».
* الباحثة الأكاديمية منى صريفق
لا يمكن دحض القيمة الفعلية التي يقدمها الذّكاء الاِصطناعي للأدب
من جهتها الناقدة والباحثة الأكاديمية الدكتورة منى صريفق، تقول: «إنّ فكرة الذَّكاء الاِصطناعي قد حولت المُجتمع الّذي نعيشه إلى مجتمعات جديدة كليًا، بالاِعتماد على عنصر السرعة القصوى التي يتبناها هذا العصر؛ إذ نجده اِستحدث أو لنقل خلق أُطراً جديدة كليًا بل ومُمكنات لم تكن تخطر على بال الأجيال السابقة. فنجده قد غَيَرَ العديد من المفاهيم المُتعلقة بالكتابة الإبداعية، الكاتب والنص الأدبي وما هو المؤلف الإبداعي؟ وكيف يمكن أن نقيس مدى أصالة التجربة الكتابية سواء إبداعيًا أم أخلاقيًا. والكثير من الأسئلة التي لا يمكن حصرها في هذا المقام».
مؤكدةً في هذا الجانب، أنّ الوضع أصبح غير قابل للقياس أو حتى التفكير فيه، فالحسم في هذه الفترة متعلق كثيرا بمدى تحكمنا بهذه الآليات الجديدة عنا كليًا، وعن مدى مقاربتنا لتلك السرعة التي تنشأ عنها فلسفات جديدة مختلفة عما سبقها بفاصل زمني قصير للغاية.
ثم أردفت: «وأنا في هذا السّياق لا يمكنني دحض القيمة الفعلية التي يقدمها الذّكاء الاِصطناعي للأدب، ولن أجد نفسي ضمن جمهور الرافضين له بتاتًا، بل أنا مع فكرة ضرورة التحكم في عوالم وممكنات هذه المعطيات التي تنتج عن الذّكاء الاِصطناعي، وأن نقرر اِعترافنا كونه حقيقة دامغة تجبرنا على التخلي عن كلّ المعايير والأنماط الكلاسيكية في مقاربتنا للمفاهيم في عالم الأدب الذكي. ذلك أنه اِستطاع الدخول إلى عالم الأديب بسرعة قصوى ففتح آفاقًا جديدة للإبداع الأدبي، من خلال توليد نصوص وأنماط سردية مبتكرة».
وفي ذات الفكرة تُواصل: «كما نجد أنّه ساعد الكُتّاب على اِستكشاف أفكار جديدة، وتجريب أساليب كتابة مختلفة، وتوسيع حدود الخيال المتعلق بالمواضيع التي يقومون بكتابتها. كما نجده فعّالاً للغاية في فكرة تطوير معطيات الحوار بين شخوص اِفتراضيين؛ من خلال اِقتراح الكلمات والعبارات، وتوليد الأفكار، وتطوير الشخصيات، وتحسين الأسلوب».
وهنا تُضيف المتحدثة: «هذه الأدوات يمكن أن تزيد من إنتاجية الكُتّاب وتساعدهم على تقديم أعمال أدبية أكثر جودة. وأتذكر في هذا السّياق إقرار الكاتبة اليابانية (ري كودان) الحائزة على أرقى جائزة أدبية في اليابان أنّ برنامج الذّكاء الاِصطناعي التوليدي (تشات جي بي تي) تولّى كتابة بعض فقرات روايتها ذات المناخ المستقبلي، معتبرةً أنه ساعدها في إظهار قدراتها في مجال التأليف. وحصلت رواية كودان الأخيرة (برج الرحمة في طوكيو)، على جائزة أكوتاغاوا الأدبية نصف السنوية، وقد رأت لجنة التحكيم أنّها (تبلغ درجة من الكمال يصعب معها العثور على أي خلل فيها)».
وفي ذات المعطى، تواصل الدكتورة صريفق: «أنّ هذه المعطيات تخلق أمامنا مجموعة من التحديات، أوّلها على مستوى الأصالة والإبداع: فنجدنا نطرح التساؤل التالي: هل يمكن اِعتبار النصوص التي يولّدها الذّكاء الاِصطناعي أعمالًا أدبية أصلية؟ هل يمكن للذّكاء الاِصطناعي أن يمتلك حقًا القدرة على الإبداع؟»
ثانيها الملكية الفكرية، إذ يطرح -حسب المُتحدثة- اِستخدام الذّكاء الاِصطناعي في الأدب قضايا مُعقدة تتعلق بالملكية الفكرية. فمن يملك حقوق الملكية الفكرية للنصوص التي يُولّدها الذّكاء الاِصطناعي؟ هل هي للمبرمجين الذين طوروا الذّكاء الاِصطناعي، أم للكُتّاب الذين اِستخدموه، أم للذّكاء الاِصطناعي نفسه؟
ثالثها هو دور الكاتب البشري: إذ يُثير اِستخدام الذّكاء الاِصطناعي في الأدب -حسب رأيها- تساؤلات حول دور الكاتب البشري في المستقبل. فهل سيحل الذّكاء الاِصطناعي محل الكُتّاب البشر؟ وهل سيصبح الكُتّاب الآدميون مجرّد مساعدين للذّكاء الاِصطناعي؟
أمّا عن رابعها فهو -كما تشير- أهم سؤال بالنسبة لها ألا وهو المعايير الأدبية: لأنه قد يتطلب اِستخدام الذّكاء الاِصطناعي في الأدب إعادة النظر في المعايير الأدبية وتقييم الأعمال الأدبية.
وخلصت إلى القول: «في هذه الحال هل يجب أن تخضع النصوص التي يولّدها الذّكاء الاِصطناعي لنفس المعايير التي تخضع لها النصوص التي يكتبها البشر؟ إنّها الأسئلة التي نشأت عن الواقع الجديد بحضور الذّكاء الاِصطناعي، وشخصيًا أعتقد أنها من أهم التساؤلات التي يجب أن نجيب عنها أكاديميًا وثقافيًا بأقصى سرعة لأن الزمن الذكي لا يرحم، والمفهوم الّذي يتم الترويج له اليوم قد يموت بعد ساعات قليلة من ظهوره».
* الناقد والأكاديمي عبد الحميد ختالة
سيمكّن من تفعيل المخزون البلاغي للّغة
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور عبد الحميد ختالة: «طُبعت النفس البشرية على أن لا تتعايش مع الجهل ولا مع الفشل، إذن فمن الطبيعي جدًا أن تجد العقل البشري يسعى دومًا إلى تجاوز المحدود إلى الممدود، مُتوسلاً في ذلك كلّ ما هو مُتاح إن على مستوى الفكرة أو على مستوى ما تُوفره التقنية، حيثُ أضاف الإنسان عقلاً إلى عقله. إذ لم تعد التقنية محصورة في مجرّد الآلة بل صارت منظومة معرفية تتطوّر آليًا فتجاوزت الراهن والمُمكن المأمول والمعهود، وقد اِنخرط الذّكاء الاِصطناعي مؤخراً في عملية هدم وبناء مستمر لجملة من الحقائق كانت تبدو جامدة».
والحال هذه، -يضيف المتحدث- «صار بإمكان الذّكاء الاِصطناعي أن يُحقّق رهانات نظرية الأدب، وأحسبه من الطبيعي والقريب جداً إلى العقل أن يتجسّم لنا ما كان مُتخيلاً من صورة ربة الشِّعر عند الإغريق وشيطان الشِّعر عند العرب، فإذا كانت اِستأنست نظرية الأدب بما قدمته مخيلة الإنسان في غيبية القوّة المُنتجة للإبداع عند الإنسان فإنّه من باب أولى أن تقبل الذّكاء الاِصطناعي مُنتجاً للشِّعر والسرد والفن جميعًا».
ثم أردف: «سيقدم الذّكاء الاِصطناعي عدداً غير منته من طرائق السرد واحتمالات الكتابة وأنماط اِستخدام أدوات التوكيد وحروف الجرّ والصور الشِّعرية، وأتصوّر أنّه بعد مرحلة تجريبية، سوف لن تطول، ستضيق رفوف الرواية بِمَا يُنتجه الذّكاء الاِصطناعي بعد أن يتمكن من (اِستعارة العالم) مرةً أخرى مثل ما حدث من قبل في كُتُب البلاغة والفكر، وسيتدثر المكان بدقة تخييلية لم يتطرق لها غاستون باشلار في جمالية المكان».
مُضيفاً في ذات السّياق: «إنّ الّذي نتكئ عليه في تصورنا هذا، هو أنّ الأدبَ مذ كان الأدبُ قد قَبِل مبدأ التجريب، قَبِله على مستوى الشكل والآلية والتصوّر والمُتخيل وكلّ مُتعلقات العملية الإبداعية، إذ لا خطر يتهدّد الأدب وهو يتوسل منظومة إدراكية وإبداعية جديدة».
وانطلاقًا من هذه القناعة -حسب رأيه- بدور الذّكاء الاِصطناعي في جعل غير المُمكن مُمكنًا تقوم التحديات الأدبية للذّكاء الاِصطناعي، مِمّا قد يسهم في أن يبلغ الأدب مراتب جديدة من مستويات الخطاب، يقدمها مبدأ الاِحتمالية الّذي تتوسع مدركاته في عوالم الحاسوب والتقنية.
واختتم بقوله: «سيتمكن الذّكاء الاِصطناعي من تفعيل كلّ المخزون البلاغي للغة وسيستحضر بمنتهى السهولة والدقة مختلف الاِستعارات القديمة والجديدة، بل سيتعداها إلى توليد جملة من التراكيب والمعاني مُتجاوزاً حدود الفهم التي قدمها تشومسكي، فإذا كنا قد اِتفقنا فيما مضى بأنّ الأدب اِبن البيئة، ثم ذهب الدرس النقدي أعمق من ذلك عندما فكك البيئة إلى أنساق وجعلها هي المنتجة للأدب حتى وإن بقيت مضمرة غير ظاهرة فيه، فكيف الأمر مع تفكك الأنساق إلى عدد غير منته من اِحتمالات السرد والبلاغة».